لم أندهش كثيرًا حين شاهدتُ الرئيس الأمريكي أوباما يقيم احتفالًا ضخمًا بالبيت الأبيض يُكرم فيه عددًا من رموز المجتمع الأمريكي المختلفة أعراقهم وألوانهم ودياناتهم بأعلي وسام أمريكي »الحرية»، حيث أشار أوباما في خطابه إلي أن »تعدد المجتمع الأمريكي واختلافه في الجنس واللون والدين والأفكار هو القوة الحقيقية لهذا البلد».. لم أندهش لأني أعرفُ صدق هذه الكلمات الأوبامية وإن خرجت من فمٍ كاذبٍ، أعرفُ صدقها لأنني أعرف التاريخ الإسلامي وتجربته الأنقي لدمج القوميات والألوان في انصهارٍ فريدٍ تحت هدفٍ واحدٍ ورايةٍ واحدةٍ، حقوقًا وواجباتٍ، ومساواة أمام القانون، والنتيجة كانت سريعة ومزهرة علي المستويات كافة.. أما الآن فأصبح الاختلاف الكبير عند الأمريكان قوة بينما الاتفاق الكبير عندنا ضعفًا وشيبةً بعدما أهملنا تاريخنا وتكلست ذواتنا حول تحنثٍ كاذبٍ وتنطسٍ مراوغٍ ومذاهب دينية بالت عليها الثعالبُ وقضايا لا تعرفُ لون الواقع المأزوم. ورغم هذا وبعيدًا عن حملات التشويه الموتورة التي تقودها الدشداشة القطرية السوداء خدمةً لبرنيطة الخواجة تجاه جيشٍ شهد له مَن لا ينطقُ عن الهوي إنْ هو إلا وحيٌ يُوحي، فإن هناك هسيسًا يُنادينا وسط عويل الذئاب المتناحرة في لحظتنا العبثية الحالية، فناراتٍ كفراشات النور في ظلماتٍ بعضها فوق بعض إذا أخرج المرء فيها يده لم يكد يراها، ولكنها تشيرُ إلي بارقة أمل، إلي مُلتحدٍ وحيدٍ يعصمنا من البوار، فقط إنْ أوقفنا الزمنَ عندها ولم نكن في قساوة ابن نوحٍ ووهبنا الله مُسكة من عقلٍ لنعضَّ عليها بالنواجذ، خاصة أنها ليست مواقف الفورة العقلية الواحدة، وإنما مواقف العقل الجمعي الواعي منذ الأزل، ومنها تلاحم الأزهر والكنيسة في ثورة 30 يونيو حين أحرق الإرهابيون الإخوان الكنائس ورفضت وطنية البابا تواضروس ألاعيب الغرب، مؤكدًا أن الكنيسة ليست أغلي من الوطن.. وهذا يُسلم إلي موقفٍ الكنيسة الفلسطينية الواعي حين سمحت للمؤذنين المسلمين برفع الأذان من فوق المنابر الكنسية وقتما مارست سُلطات المحتل الإسرائيلي وسائلها القمعية المتعصبة ومنعت الأذان في بعض المناطق، وهذا يُبرز الدور الذكي للشعب الفلسطيني الصامد الذي يعي جيدًا ألاعيب الصهيونية، كما يؤكد أن هذه الروح المتعاونة وحدها القادرة علي إنماء العقول وتثقيف الناس بأهمية التلاحم الوطني لمواجهة المحتلين، ذلك وحده هو القبس المُقدس القادر علي إحراق إسرائيل وإفنائها، ذلك القبسُ الممتد إلي ثورة 19 حين أدرك أبناء مصر أن إفناء الذات وإعلاء الوطن السبيل الأوحد للتخلص من المحتل الإنجليزي العتيد، فاعتلي القسس منابر المساجد بكل أريحية وخطب الشيوخ في الكنائس وتراجعت الهتافات الدينية بينما ارتفعت الهتافات الوطنية: »نموت نموت وتحيا مصر.. الاستقلال التام أو الموت الزؤام». والأسئلة الآن الجديرة بالالتفات هي: متي تستطيع خيباتنا العربية العديدة أن ترد إلينا عقولنا التائهة فنخلع نزق أهدابنا الخارجية ونُفكر بوطنيةٍ متجردةٍ بعيدةٍ عن النعرات الطائفية التي أحرقت أرضنا وشرذمت شعوبنا؟ هل نملك الآن بعد مائة عامٍ روح 19 فنخلع أوتاد الجهل والتعصب من نفوسنا كما خلعت تلك الثورة أوتاد الاستعمار من بلادنا؟ وهل يسمح مشايخنا الآن برفع أجراس الكنائس فوق المنابر إذا اقتضت الضرورة ذلك، أم أنهم يرون أنفسهم أفقه وأعلم من مشايخ 19؟.. تلك هي جُملةٌ من الأسئلة التي يجب أن نجد إجاباتها داخل أرواحنا أولًا قبل أن نتشدق بأي حريةٍ سياسيةٍ أو فكرية.