التوقيت الصيفي.. تعرف على أهمية وأسباب التوقيت الصيفي    عيار 21 الآن بالسودان وسعر الذهب اليوم الخميس 25 إبريل 2024    سعر الفراخ البيضاء والبيض بالأسواق في ختام الأسبوع اليوم الخميس 25 إبريل 2024    ارتفاع سعر الحديد والأسمنت بسوق مواد البناء اليوم الخميس 25 إبريل 2024    خوفا من اجتياح محتمل.. شبح "المجزرة" يصيب نازحي رفح الفلسطينية بالرعب    الولايات المتحدة تنفي إصابة أي سفن جراء هجوم الحوثيين في خليج عدن    حدث ليلا.. تزايد احتجاجات الجامعات الأمريكية دعما لفلسطين    حزب الله يعرض مشاهد من رمايات صاروخية ضد أهداف إسرائيلية مختلفة    موعد مباراة الهلال المقبلة أمام الفتح في الدوري السعودي    هل ترك جنش مودرن فيوتشر غضبًا من قرار استبعاده؟.. هيثم عرابي يوضح    بسبب روسيا والصين.. الأمم المتحدة تفشل في منع سباق التسلح النووي    "شياطين الغبار".. فيديو متداول يُثير الفزع في المدينة المنورة    ميدو يطالب بالتصدي لتزوير أعمار لاعبي قطاع الناشئين    حزب المصريين: البطولة العربية للفروسية تكشف حجم تطور المنظومة الرياضية العسكرية في عهد السيسي    ب86 ألف جنيه.. أرخص 3 سيارات في مصر بعد انخفاض الأسعار    محافظ المنيا: 5 سيارات إطفاء سيطرت على حريق "مخزن ملوي" ولا يوجد ضحايا (صور)    تطور مثير في جريمة الطفلة جانيت بمدينة نصر والطب الشرعي كلمة السر    بالصور.. نجوم الفن يشاركون في تكريم «القومي للمسرح» للراحل أشرف عبد الغفور    عن تشابه «العتاولة» و«بدون سابق إنذار».. منة تيسير: التناول والأحداث تختلف (فيديو)    الفندق عاوز يقولكم حاجة.. أبرز لقطات الحلقة الثانية من مسلسل البيت بيتي الجزء الثاني    إصابة 9 أشخاص في حريق منزل بأسيوط    أبو رجيلة: فوجئت بتكريم الأهلي.. ومتفائل بقدرة الزمالك على تخطي عقبة دريمز    الاحتفال بأعياد تحرير سيناء.. نهضة في قطاع التعليم بجنوب سيناء    الأرصاد تعلن موعد انكسار الموجة الحارة وتكشف عن سقوط أمطار اليوم على عدة مناطق (فيديو)    لتفانيه في العمل.. تكريم مأمور مركز سمالوط بالمنيا    توقعات ميتا المخيبة للآمال تضغط على سعر أسهمها    أول تعليق من رئيس نادي المنصورة بعد الصعود لدوري المحترفين    الرئيس الموريتاني محمد ولد الشيخ الغزواني يعلن الترشح لفترة رئاسية ثانية    تدريب 27 ممرضة على الاحتياطات القياسية لمكافحة العدوى بصحة بني سويف    صندوق التنمية الحضرية يعلن بيع 27 محلا تجاريا في مزاد علني    هل يجوز قضاء صلاة الفجر مع الظهر؟.. «الإفتاء» تحسم الجدل    أحمد موسى: مطار العريش أصبح قبلة للعالم وجاهز لاستقبال جميع الوفود    حصول 5 وحدات طب أسرة جديدة على اعتماد «GAHAR» (تفاصيل)    رئيس قسم الطب النفسي بجامعة الأزهر: تخصصنا يحافظ على الشخص في وضعه الطبيعي    رئيس «الطب النفسي» بجامعة الإسكندرية: المريض يضع شروطا قبل بدء العلاج    بعد نوى البلح.. توجهات أمريكية لإنتاج القهوة من بذور الجوافة    محافظ شمال سيناء: منظومة الطرق في الشيخ زويد تشهد طفرة حقيقية    توجيهات الرئيس.. محافظ شمال سيناء: أولوية الإقامة في رفح الجديدة لأهالي المدينة    بيع "لوحة الآنسة ليسر" المثيرة للجدل برقم خيالي في مزاد    مش بيصرف عليه ورفض يعالجه.. محامي طليقة مطرب مهرجانات شهير يكشف مفاجأة    يسرا اللوزي تكشف كواليس تصوير مسلسل "صلة رحم"|فيديو    الهلال الأحمر: تم الحفاظ على الميزانية الخاصة للطائرات التى تقل المساعدات لغزة    كيف أعرف من يحسدني؟.. الحاسد له 3 علامات وعليه 5 عقوبات دنيوية    دعاء في جوف الليل: اللهم أخرجنا من الظلمات إلى النور واهدنا سواء السبيل    تأجيل دعوى تدبير العلاوات الخمس لأصحاب المعاشات ل 24 يونيو    اسكواش - ثلاثي مصري جديد إلى نصف نهائي الجونة الدولية    تيك توك تتعهد بالطعن في قانون أمريكي يُهدد بحظرها    بعد اختناق أطفال بحمام السباحة.. التحفظ على 4 مسؤولين بنادي الترسانة    محافظ شمال سيناء: الانتهاء من صرف التعويضات لأهالي الشيخ زويد بنسبة 85%    «زى النهارده».. عيد تحرير سيناء 25 إبريل 1982    الزكاة على أموال وثائق التأمين.. الإفتاء توضح أحكامها ومتى تجب    غادة البدوي: تحرير سيناء يمثل نموذجًا حقيقيًا للشجاعة والتضحية والتفاني في سبيل الوطن    فريد زهران: نسعى لوضع الكتاب المصري في مكانة أفضل بكثير |فيديو    حظك اليوم برج الميزان الخميس 25-4-2024 على الصعيدين المهني والعاطفي    من أرض الفيروز.. رسالة وزير العمل بمناسبة ذكرى تحرير سيناء    ميدو: لاعبو الزمالك تسببوا في أزمة لمجلس الإدارة.. والجماهير لن ترحمهم    صور.. الطرق الصوفية تحتفل برجبية السيد البدوي بطنطا    بالفيديو.. أمين الفتوى: موجات الحر من تنفيس نار جهنم على الدنيا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



النوبة ... ذاكرة تقاوم المحو
نشر في أخبار الحوادث يوم 03 - 12 - 2016

لم يكن الأمر محيراً‮. ‬أن أكتب عن النوبيين،‮ ‬يعني أن أبدأ من عند حمزة علاء الدين‮ (‬1929‮- ‬2006‮)‬،‮ ‬ليس لأنه الصوت الذي بقي،‮ ‬وسيبقي،‮ ‬إنما لأجل وجهه،‮ ‬فمن يحدق في ملامح حمزة يلمس الشتات الذي رافقه طيلة عمره،‮ ‬ومن لم يفعل،‮ ‬سيلمس ذلك من أغنياته،‮ ‬التي حرص أن تكون‮ ‬غالبيتها باللغة العربية،‮ ‬والقليل منها باللغة النوبية،‮ ‬كي يعرف المصريون معاناتهم بعد التهجير،‮ ‬لكن لسبب ما،‮ ‬نعرفه جميعاً،‮ ‬ظل حمزة علي الهامش،‮ ‬ولم يحظ بشهرة كبيرة في هذا البلد،‮ ‬أما العالم،‮ ‬فقد أنصت إليه وهو يشدو‮ "‬ماليش عنوان‮"‬،‮ ‬ويعني بالعنوان هنا البيت والوطن معاً،‮ ‬فحمزة مثل كل النوبيين،‮ ‬غرقت قريته،‮ ‬وهاجر مع عائلته بعد بناء السد العالي عام‮ ‬1960،‮ ‬تاركاً‮ ‬وراءه طفولته وثقافته‮ ‬ورفات أجداده،‮ ‬ليبدأ حياة بلا هوية،‮ ‬يسافر من بلد لآخر،‮ ‬ليغني عن النوبة التي يحلم بعودتها،‮ ‬وليس بالعودة إليها،‮ ‬إذ صار حمزة في وقت قصير فنانا ذائع الصيت في أمريكا،‮ ‬يؤلف ويغني ويُدرّس الموسيقي،‮ ‬خصوصاً‮ ‬الموسيقي العرقية،‮ ‬فقبل أن يرحل إلي هناك،‮ ‬ذهب حمزة إلي النوبة وفي يده العود،‮ ‬متنقلاً‮ ‬بين القري الباقية وهو يمتطي حماراً،‮ ‬ليجمع من الناس الأغاني النوبية‮ ‬القديمة،‮ ‬كي ينقذها من الغرق والضياع‮.‬
في إحدي أغنياته‮ ‬يقول‮: "‬لو جيت في‮ ‬يوم أرسمك‮/ ‬أرسم أمل بسّام‮.. ‬أرسم حضارة ومدن وأبراج حمام ويمام‮". ‬هذه هي الصورة التي ظلت في ذاكرة حمزة عن النوبة،‮ ‬والتي حلمت بها الأجيال التي لم تر النوبة القديمة،‮ ‬فلا‮ ‬يوجد أقسي من أن‮ ‬يعرف المرء أن تاريخه‮ ‬يتم محوه ببساطة،‮ ‬حينها تتضاءل المشاريع الكبيرة في عينيه وتصير لا شيء‮ ‬،‮ ‬وهو ما أدركه جمال عبد الناصر جيداً‮ ‬حين أمضي مع النوبيين خمس ساعات كاملة بعد وضعه حجر أساس السد،‮ ‬أن ما‮ ‬يحدث لهم ليس بالأمر الهين ولن‮ ‬ينسوه أبداً،‮ ‬إذ قال لهم‮: "‬أرجو أن‮ ‬يشعر كل فرد فيكم أننا نعامل أبناء هذه الأمة معاملة واحدة مبنية علي الحق والحرية والمساواة‮"‬،‮ ‬هل اقتنع النوبيون حينها؟ ربما،‮ ‬ففي ذلك الوقت صورت الدولة للنوبيين أن تهجيرهم سيخرجهم من الظلام إلي النور،‮ ‬ومن الجهل إلي العلم،‮ ‬ومن التخلف إلي التحضر‮. ‬إحدي الصحف الحكومية‮ - ‬مثلاً‮ - ‬خرجت بمانشيت‮ (‬بعد السد العالي‮.. ‬الفتاة النوبية ستدخل الجامعة لأول مرة‮). ‬وهو الوتر الذي لعبوا عليه دائماً،‮ ‬أن في كل مرة سيتنازل فيها النوبي عن أرضه سيحصد في المقابل حقاً‮ ‬من حقوقه،‮ ‬وكأنه ليس مواطناً‮ ‬مصرياً‮! ‬الآن،‮ ‬لم تعد هذه النغمة تدخل علي النوبيين،‮ ‬فخلال هذه الأعوام الطويلة التي تُقدر بنصف قرن،‮ ‬أدركوا أنهم تحولوا من أصحاب حضارة عريقة إلي أقلية،‮ ‬فمن خلال الرجوع إلي التاريخ نعرف لماذا‮ ‬يصر النوبيون علي مطالبتهم بالعودة إلي أراضيهم‮.‬
قبل إنشاء السد العالي،‮ ‬وبعده،‮ ‬كانت النوبة مقصد البعثات العلمية التي حرصت علي تنظيم دراسات عديدة تتناول النوبيين‮ (‬تاريخهم وثقافتهم ولغتهم‮) ‬كان من أهم هذه الدراسات،‮ ‬تلك التي قام بها علماء تشيكيون وهي البحث عن أصل الإنسان في بلاد النوبة،‮ ‬حيث اعتقد أحدهم آنذاك،‮ ‬وهو العلامة فالشيك أن أية دراسات للمجموعة السكانية في أفريقيا ستلعب دورها في الكشف عن تاريخ الإنسان،‮ ‬واختارت البعثة علي هذا الأساس النوبيين،‮ ‬وسافرت إلي كوم امبو،‮ ‬كي تقوم بأبحاثها علي الأطفال من سن السادسة وحتي الرابعة عشرة لمعرفة تطور نموهم،‮ ‬وسيطر علي العلماء تساؤل‮ (‬هل ظهر الإنسان الأول في بلاد النوبة؟‮)‬،‮ ‬بجانب ذلك،‮ ‬كانت دراسات الباحثين المصريين تعمل بالتوازي لمعرفة المزيد عن تاريخ النوبيين،‮ ‬وتم طرح تساؤل آخر‮ (‬هل لغة الفراعنة القدماء هي لغة أهل النوبة؟‮)‬،‮ ‬والذي عمل عليه أحد الباحثين في تاريخ الفراعنة عام‮ ‬1962‮ ‬واسمه عطية القوصي،‮ ‬إذ أكد أن اللغة التي كان‮ ‬يتكلم بها الفراعنة في مصر منذ آلاف السنين هي نفس اللغة واللهجة التي‮ ‬يتحدث بها النوبيون،‮ ‬مع اختلاف بسيط في بعض الكلمات التي دخلت إلي اللغة النوبية من اللغة العربية وبعض اللهجات السودانية المعروفة‮.‬
لم تأخذ الدولة حينها بما توصل إليه الباحث المصري بخصوص اللغة النوبية بمحمل الجد،‮ ‬لأن هذا‮ ‬يعني‮ - ‬إن صحت دراسته‮ - ‬ضرورة إعادة كتابة تاريخ مصر القديمة باللغة النوبية،‮ ‬لكن الأبحاث والأقوال لم تتوقف في هذا الشأن،‮ ‬وبالتحديد في الصلة التي تربط سكان النوبة الحاليين بالعصر القديم،‮ ‬وهو ما تطرق إليه عالم الآثار والتر إمري في كتابه‮ (‬مصر وبلاد النوبة‮) ‬إذ قال إن هذا أمر مشكوك فيه لأن منطقة كهذه عانت كثيراً‮ ‬من الغزو الأجنبي،‮ ‬الذي نتج عنه المزج بين الأجناس،‮ ‬ويبدو أنه وجدت علي الأقل فترة واحدة كانت فيها النوبة السفلي أو المصرية‮ ‬غير مسكونة،‮ ‬وبالرغم من ذلك نجد أن بعض العادات والفنون والحرف تؤيد الفكرة القائلة بأن النوبيين الحاليين‮ ‬ينحدرون إلي حد كبير من نسل هؤلاء الذين عاشوا في هذه المنطقة من وادي النيل في عصر فراعنة الدولة الوسطي‮.‬
ربما لأجل ذلك،‮ ‬وجدت بعض العادات والتقاليد الفرعونية لدي قلة من النوبيين،‮ ‬منها مثلاً‮ ‬عادات الزواج،‮ ‬حيث جرت العادة أن‮ ‬يقوم العروسان في‮ ‬يوم الصباحية بغسل وجهيهما بماء النيل أملاً‮ ‬في جلب الخير وإنجاب الأطفال،‮ ‬ورميهما لبعضهما البعض بحبات الذرة‮ (‬رمز الرخاء‮)‬،‮ ‬وفيما‮ ‬يخص عادات الولادة،‮ ‬يحظر علي كل رجل أو امرأة ذهبوا إلي السوق ورأوا لحماً‮ ‬أو شاهدوا جنازة أن‮ ‬يدخلوا علي النفساء،‮ ‬خوفاً‮ ‬من انقطاع النسل،‮ ‬وتسمي هذه العادة ب‮ "‬المشاهرة‮". ‬وعند الوفاة،‮ ‬كانت العادة المتبعة هي عدم إشعال النار في بيت الميت في الأيام الثلاثة الأولي،‮ ‬وأن‮ ‬يقدّم الجيران الطعام للمعزين وكذلك تقديم وجبة العشاء للفقراء والصبية لمدة أربعين‮ ‬يوماً‮ ‬من الأكلات التي كان‮ ‬يفضلها الميت في حياته،‮ ‬وكانت من العادة أيضاً‮ ‬أن تقوم قريبات الميت بتلطيخ رؤوسهن ووجوههن بالطين‮.‬
أما عن أصل اللغة النوبية،‮ ‬فيري الباحث النوبي عبد الرحمن عوض في‮ ‬كتابه‮ (‬النوبة في المصادر الحديثة‮) ‬أنها مستمدة من اللغة الحامية الأم التي تفرعت منها الكوشية‮ - ‬نسبة إلي كوش الاسم القديم لشمال السودان‮ - ‬وهي مجموعة لغوية نطقت بها عدة أمم في الشمال الشرقي من أفريقيا وفي السودان واريتريا وتعتبر اللغة الصومالية القديمة‮ (‬الجالا‮) ‬واحدة من أهم لغات المجموعة الكوشية،‮ ‬مضيفاً‮: "‬بالطبع هناك الكثير من الألفاظ التي دخلت علي اللغة النوبية،‮ ‬المنقسمة إلي لهجتين،‮ ‬الأولي‮ ‬ينطق بها النوبيون‮ "‬الفاديجة‮" ‬في جنوب مصر ولغتهم أكثر عراقة من الأخري التي تفرعت منها،‮ ‬وهي الكنزية لهجة النوبيين السفلي‮ "‬الكنوز‮"‬،‮ ‬ويقابلها لهجة الدناقلة في شمال السودان وهي أكثر نقاءً‮ ‬من الكنزية‮ (..) ‬وما‮ ‬يدل علي ارتباطنا اللغوي بالنوبية القديمة وجود بعض الكلمات والألفاظ التي مازالت حية فمثلاً‮ ‬يُطلق علي الولد في النوبية لفظ‮ "‬تود‮" ‬وتوت معناها في المصرية القديمة الروح أو الصورة الحية،‮ ‬فتوت عنخ أمون معناه روح آمون أو الصورة الحية لآمون،‮ ‬والولد هو الصورة الحية لأبيه‮".‬
ليس تاريخ النوبة في العصور الفرعونية فقط الذي‮ ‬يكتنفه الغموض،‮ ‬إنما تاريخها في العصور المسيحية أيضاً،‮ ‬إذ لم‮ ‬يكن هناك حسم للعبادات والديانات التي‮ ‬يعتنقها النوبيون قبل انتشار المسيحية،‮ ‬فقد أقر بعض الباحثين أن النوبيين كانوا علي الوثنية،‮ ‬في حين رأي آخرون إنه من المستحيل ذلك،‮ ‬لأنه لم تصل إلينا أسماء أوثانهم،‮ ‬وأن المعتقدات المنتشرة بينهم كانت عبادة الكواكب وذلك لتأثرهم بتقديس الفراعنة للشمس‮ (‬آمون‮). ‬ولم‮ ‬يكن سهلاً‮ ‬أن‮ ‬يعتنق النوبيون المسيحية في بداية الأمر بسبب تعتيم الرومان وحروبهم التي شنوها ضد المسيحية،‮ ‬فقد كان‮ ‬يتم التنكيل بمن‮ ‬يعتنقها،‮ ‬حتي أطلق علي عصر الروماني دقلديانوس عصر الشهداء للآلاف التي أحرقها وعذّبها،‮ ‬وفي كتاب‮ (‬النوبة بين القديم والجديد‮) ‬لصدقي ربيع،‮ ‬يتضح أن الذين اعتنقوا المسيحية فيما بعد كانت الطبقة الحاكمة،‮ ‬ولم‮ ‬يعتنقها العوام لقصور الدعوة،‮ ‬لكن في منتصف القرن السادس الميلادي علي إثر البعثات التبشيرية ومنها بعثات الإمبراطورين جوستنيان وتيودورا انتشرت المسيحية بين النوبيين‮.‬
وفي القرن التاسع إلي نحو‮ ‬1100م أصبحت كل بلاد النوبة المصرية والسودانية مملكة مسيحية تعرف باسم مقرة وعاصمتها دنقلة العجوز،‮ ‬وشهدت هذه الفترة حالة من الازدهار فتحسنت الأحوال الاقتصادية وزاد عدد النوبيين ونمت المدن عبر أسوارهم القديمة،‮ ‬وانتظم المجتمع في ابروشيات تابعة لثلاث كاتدرائيات كبري في النوبة المصرية،‮ ‬هي الدكة وأبريم وفرس،‮ ‬وهو ما‮ ‬يشير إلي أهمية هذه المدن الثلاث،‮ ‬التي أطلقنا عليها في العصور الحديثة اسم القري،‮ ‬وقد تحدث عن هذه الفترة بالتحديد كل من محمد رياض وكوثر عبد الرسول أستاذي الجغرافيا في كتابهما‮ (‬رحلة في زمن النوبة‮ / ‬دراسة للنوبة القديمة ومؤشرات التنمية المستقبلة‮)‬،‮ ‬إذ اعتبراها من ضمن المراحل الأساسية التي مرت بها النوبة في تأريخهما للمجموعات الحضارية التي مرت بها،‮ ‬واللذان أوضحا أن‮: "‬خلال فترة المسيحية الأولي في النوبة حدثت ثورة هددت جنوب مصر الإسلامية مما اقتضي من عبد الله بن سعد‮ ‬غزو النوبة في‮ ‬651م،‮ ‬ووصل دنقلة وهدم كنيستها وعقد مع ملك النوبة معاهدة شهيرة عرفت باسم البقط والتي نصت علي إرسال جزية سنوية من الرقيق إلي مصر،‮ ‬والسماح بارتحال المسلمين إلي النوبة،‮ ‬وارتحال النوبيين إلي مصر علي ألا‮ ‬يكون ذلك بغرض الإقامة الدائمة مع عدم التعرض للديانة المسيحية في النوبة وفي سنة‮ ‬1171‮ ‬غزا شقيق صلاح الدين الأيوبي النوبة المصرية وحول كنيسة ابريم إلي مسجد،‮ ‬وكذلك‮ ‬غزا المماليك النوبة في‮ ‬1272،‮ ‬وكان آخر العهد بالمسيحية في النوبة عام‮ ‬1315‮ ‬حين أُخذ آخر الملوك المسيحيين أسيراً‮ ‬إلي القاهرة‮".‬
انتشر الإسلام في النوبة خلال العصر الفاطمي،‮ ‬نتيجة هجرة قبائل بني هلال وسليم إلي مصر فزاحموا القبائل العربية القديمة،‮ ‬واضطروهم إلي النزوح جنوبا،‮ ‬واشتري المسلمون أراضي وأقاموا في النوبة جنوب الشلال الأول منذ القرن العاشر،‮ ‬وزاد هذا‮ ‬التضاغط للقبائل العربية جنوباً‮ ‬في العصور التالية نتيجة قوة العناصر التركية والشركسية في مصر خلال العصر المملوكي ثم العثماني بصفة خاصة،‮ ‬وقد‮ ‬تجمعت قبائل ربيعة وجهينة وقبائل مغربية في منطقة أسوان من القرن العاشر إلي الثاني عشر،‮ ‬وتداخلوا مع النوبة ثم اندفعوا جنوباً‮ ‬إلي السودان الشمالي في القرنين‮ ‬14‮ ‬و15‮ ‬مطوقين بقايا النوبة المسيحية‮ - ‬إذ‮ ‬يقول عبد المجيد عابدين في كتابه‮ (‬تاريخ الثقافة العربية في السودان‮): "‬كان للقبائل المغربية نصيب في تلك الحركات،‮ ‬فقد كانت قبيلة الهوارة المغربية وغيرها،‮ ‬متحالفة مع بني كنز علي حدود السودان الشمالية وبلاد النوبة،‮ ‬واختلطوا بسكان النوبة منذ القرن الرابع عشر‮".‬
وشهدت النوبة في الفترة بين القرنين‮ ‬14‮ ‬و16‮ ‬تناحرا بين ملوك المسلمين،‮ ‬إلي أن جاء العثمانيون في مصر عام‮ ‬1517‮ ‬وشيدوا في النوبة قلاعاً‮ ‬وحاميات من الجند‮ ‬غالبيتهم من رعايا الدولة العثمانية في الأناضول والبلقان وخاصة من الأكراد والألبان والبشانق‮ (‬البوسنة‮) ‬والمجر‮. ‬وكانت الحاميات الكبري توجد في أسوان وابريم وجزيرة صاي‮. ‬وقد تركت هذه الحاميات لفترة طويلة شبه منسية مما أدي إلي اختلاطهم بالسكان الأصليين وأصبحوا حكاماً‮ ‬لبلاد النوبة باسم السلطان العثماني وعرفوا باسم‮ (‬الكشاف‮) ‬إلي أن أنهي محمد علي حكمهم في أواسط القرن التاسع عشر،‮ ‬وعقب ذلك زيارة الرحالة إلي النوبة،‮ ‬الذين كتبوا عن‮ ‬أواخر حكم الكشاف‮ ‬وما
‮ ‬تعرضت له النوبة‮ ‬من دمار،‮ ‬وكتبوا أيضاً‮ ‬عن الطبيعة هناك،‮ ‬وعن سكانها‮. ‬وجد الرحالة النمساوي أنتون فون بروكش‮ - ‬أوستن علي سبيل المثال أن النوبة مقسمة إدارياً‮ ‬إلي أربعة أقسام تابعة لمديرية أسوان هي‮: ‬من أسوان حتي كلابشة،‮ ‬ومن كلابشة إلي الدر،‮ ‬ومن الدر إلي ابريم،‮ ‬والأخيرة‮ ‬من ابريم إلي وادي حلفا،‮ ‬وأن النوبة عبارة عن مدينتين هما الدر وابريم و94‮ ‬قرية و21‮ ‬حلة منعزلة و15‮ ‬جزيرة مأهولة،‮ ‬وأن عدد النوبيين آنذاك كان‮ ‬يقدر بنحو‮ ‬50‮ ‬ألفاً‮ ‬وعدد النخيل ب‮ ‬145‮ ‬ألفاً‮ ‬وعدد السواقي التي تدفع ضرائب ب‮ ‬836‮ ‬مقابل‮ ‬3698‮ ‬قام الرحالة الألماني إدوارد روبل بعدّها جنوب الشلال الثاني‮. ‬
ليأتي نهاية القرن التاسع عشر‮ ‬معلناً‮ ‬عن بداية موسم تهجير النوبيين،‮ ‬فقد اعتمد الخديوي توفيق قبل وفاته عام‮ ‬1892‮ ‬مشروع إنشاء خزان أسوان أو سد أسوان ليقي مصر من الفيضانات،‮ ‬وأجريت العديد من الدراسات المساحية والجيولوجية تبعاً‮ ‬لذلك،‮ ‬وبعد أن تقلد الخديوي عباس حلمي حكم البلاد شرع في تدبير الأموال والمهندسين والفنيين الإيطاليين،‮ ‬وكذلك التنسيق مع البنوك الإيطالية لتمويل المشروع،‮ ‬وتطلب الأمر إنشاء خط سكة حديد من جرجا إلي أسوان وصولاً‮ ‬إلي الشلال‮ ‬مروراً‮ ‬بقرية الجزيرة التي‮ ‬يوجد فيها ورش السكة الحديد والورش الفنية لمهندسي خزان أسوان والتي مازالت باقية حتي اليوم،‮ ‬وبمجرد الانتهاء من مد خطة السكة الحديد عام‮ ‬1898،‮ ‬شرع الخديوي في وضع حجر الأساس وتنفيذ خزان أسوان في منطقة كانت تعج بغابات النخيل والسواقي والشواديف والسكان،‮ ‬وذلك وفق ما وثقه الباحث النوبي وحيد محمد‮ ‬يونس‮.‬
اضطر‮ ‬النوبيون الذين كانوا‮ ‬يقيمون في هذه المنطقة إلي النزوح شمال موقع العمل والإقامة في مناطق الكرور وغرب سهيل وغرب أسوان،‮ ‬في أولي الهجرات القسرية التي واجهت النوبيين،‮ ‬وذلك بدون أن‮ ‬يحصلوا علي تعويضات أو مساعدات من الخديوي عباس حلمي،‮ ‬الذي أنشأ في المقابل فندق كتراكت علي الطراز الأوروبي ليستقبل فيه الضيوف الأجانب الذين سيشهدون افتتاح خزان أسوان،‮ ‬أما الهجرة الثانية للنوبيين فكانت عام‮ ‬1912‮ ‬حين قررت الدولة تعلية خزان أسوان،‮ ‬إذ اضطر سكان‮ ‬6‮ ‬قري وهي‮ (‬السبوع،‮ ‬والمالكي،‮ ‬وكروسكو،‮ ‬وشاتورما،‮ ‬والريقة،‮ ‬وسنقاري‮) ‬إلي النزوح،‮ ‬وفي عام‮ ‬1928‮ ‬بدأت التعلية الثانية للخزان والتي تم الانتهاء منها في عام‮ ‬1933،‮ ‬وغرقت بسببها‮ ‬15‮ ‬قرية كاملة هي‮ (‬الدكا،‮ ‬وقورته،‮ ‬والسيالة،‮ ‬والعلاقي،‮ ‬والمحرقة،‮ ‬وجرف حسين،‮ ‬والمضيق،‮ ‬والديوان،‮ ‬وقته،‮ ‬وتوماس،‮ ‬وعافية،‮ ‬وأرمنا،‮ ‬وتنقالة،‮ ‬والجنينة،‮ ‬والشباك‮)‬،‮ ‬وكان النحاس باشا رئيس وزراء مصر في الثلاثينيات وصف التهجير الثالث هذا ب‮ "‬نكبة النوبيين‮".‬
ولأن كل النكبات مستمرة،‮ ‬غرقت النوبة القديمة بالكامل،‮ ‬حين قررت حكومة ثورة‮ ‬يوليو‮ ‬1952‮ ‬إنشاء السد العالي للاستفادة من مياه النيل في استصلاح‮ ‬2‮ ‬مليون فدان ومد البلاد بالكهرباء اللازمة،‮ ‬لكن الكارثة كانت فادحة علي النوبيين،‮ ‬إذ فقدوا قراهم وبيوتهم الشاهدة علي حضارتهم،‮ ‬وتعرضوا للشتات الأكبر،‮ ‬إذ تم تهجيرهم إلي أرض قاحلة في كوم امبو كانوا‮ ‬يطلقون عليها اسم‮ (‬وادي الجن‮)‬،‮ ‬وكان خروجهم مأسويا؛ النساء‮ ‬يجرجرن جلابيبهن والرجال‮ ‬يحملن علي أكتافهم الأطفال والتاريخ،‮ ‬وجميعهم‮ ‬ينشدون أغنية الوداع‮: (‬الوداع‮ ‬يا نوبه‮/ ‬أقولها تاني‮/ ‬الوداع‮ ‬يا نوبة‮/ ‬باقولها من قلبي‮ ‬يا نوبه‮/ ‬الزمان بتاعنا كان أد إيه جميل في النوبة‮/ ‬بلادنا الطيبة الحنونة‮/ ‬كام مره دورنا الساقية‮/ ‬وكام مرة اتشاركنا في زراعة حقلاتنا‮/ ‬وكام مرة شربنا شاي الصباح‮/ ‬ازاي أنسي ازاي‮/ ‬ولما‮ ‬يكبروا ولادنا مش حيلاقوا شيء مهم،‮ ‬مش حيشوفوا صورة تشبه حياتنا‮).‬
خلال الخمسين عاماً‮ ‬الفائتة،‮ ‬كانت الأنظمة تجاهد في محو ذاكرة النوبيين شيئاً‮ ‬فشيئاً‮ ‬عبر حرصها الدائم في الستينيات علي وجه التحديد،‮ ‬بأن تجعلهم‮ ‬يتحدثون باللغة العربية فقط،‮ ‬وحسب عدد من الصحف،‮ ‬اتجهت وزارة التربية آنذاك إلي خفض سن القبول للمدارس الابتدائية بالنسبة لأطفال إقليم أسوان حتي‮ ‬يتسني للنوبيين منهم تعلم اللغة العربية بدلا من النوبية،‮ ‬وبالفعل تأثرت اللغة النوبية بوجودها في محيط عربي اللسان،‮ ‬فقد كانت العزلة السابقة في بلاد النوبة قبل السد العالي أحد العوامل الرئيسية لبقاء اللغة حية نتيجة بقاء معظم النساء في ديارهن،‮ ‬بجانب سفر النوبيين إلي المحافظات،‮ ‬واتساع تعاملاتهم واختلاطهم مع الآخرين في ميادين الدراسة والعمل،‮ ‬وكان لذلك أثر كبير علي النوبيين،‮ ‬فعدم التحدث بالنوبية أو الكتابة بها هو الذي‮ ‬يسبب انفصالاً‮ ‬نفسياً‮ ‬لدي النوبي،‮ ‬لأنه محروم من أن‮ ‬يكون نفسه‮.‬
وفي عهد محمد أنور السادات ولد حلم العودة عند النوبيين إلي ضفاف بحيرة ناصر،‮ ‬حين قام الرئيس بإنشاء قصر رئاسي له في منطقة جرف حسين علي أرض النوبة القديمة،‮ ‬وإشهاره لجمعية السادات التعاونية الزراعية التي تشرف علي منطقة البحيرة،‮ ‬وهي بمثابة الجمعية الأم لكل الجمعيات الزراعية التي تم إشهارها في عهد السادات وعددها‮ ‬17،‮ ‬بدءاً‮ ‬من جمعية دابود الزراعية بجوار السد العالي انتهاء بجمعية قسطل وأدندان علي الحدود مع حلفا،‮ ‬إلا أنه عقب اغتياله،‮ ‬تم تصفية كل الجمعيات في حكم حسني مبارك الذي كان‮ ‬يكمم أفواه النوبيين حتي لا‮ ‬يطالبوا بالعودة من خلال تقديم الخدمات لهم،‮ ‬وكأنه‮ ‬يمن عليهم،‮ ‬وكان رجال الدولة‮ ‬يتحدثون بضرورة عدم تواجد النوبيين في هذه المنطقة بحجة الأمن القومي وتلوث البحيرة،‮ ‬لينتهي هذا العهد،‮ ‬ليجد النوبيون من ثورة‮ ‬يناير‮ ‬2011‮ ‬فرصة كبيرة لن تعوض للمطالبة بالعودة إلي أراضيهم‮.‬
وفي عام‮ ‬2014‮ ‬نص الدستور في المادة‮ ‬236‮ ‬علي أن تكفل الدولة وضع وتنفيذ خطة للتنمية الاقتصادية والعمرانية الشاملة للمناطق الحدودية والمحرومة،‮ ‬من بينها النوبة،‮ ‬وذلك بمشاركة أهلها في مشروعات التنمية وفي أولوية الاستفادة منها،‮ ‬خلال عشر سنوات من تاريخ العمل بهذا الدستور،‮ ‬ليتفاجأ النوبيون بأن الدولة طرحت أراضيهم للبيع ضمن مشروع المليون ونصف المليون فدان،‮ ‬وهو ما دفعهم إلي الاحتجاج والتظاهر،‮ ‬عكس ما اعتادت الدولة منهم بقبولهم بالأمر أمام كل مشروع تريد أن تقيمه علي أراضيهم،‮ ‬لكن هذه المرة الوضع مختلف،‮ ‬الأجيال تتمسك بهويتها وثقافتها،‮ ‬وتريد العودة إلي النوبة القديمة،‮ ‬فهو الشيء الوحيد الذي تبقي لهم من آبائهم وأجدادهم،‮ ‬أقصد الحلم،‮ ‬الذي إن‮ ‬تحقق،‮ ‬سيكون أشبه بعودة الروح إلي جسد الميت‮.‬


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.