تمرد منذ صغره علي حالة الترف التي كان يعيشها بعد ما صُدم بالتناقض الكبير بين رغد الحياة في أحضان عائلته وبين شظف العيش والفقر في مجتمعه.. إنه فيدل كاسترو الذي رحل عن عالمنا يوم السبت الماضي عن عمر تجاوز التسعين بثلاثة أشهر. هذا العجوز الثائر يعد أكثر الرجال تأثيرا وإثارة للجدل في القرن العشرين، حيث يعتبر بطلا بالنسبة للبعض، وديكتاتورا بالنسبة لآخرين، لكن مما لاشك فيه أن كاسترو ترك بصمته في التاريخ طيلة الخمسين عاما الأخيرة من خلال مقاومته للهيمنة الأمريكية علي كوبا وفي أمريكا اللاتينية. ففي عام 1959، لم يتوقع أحد أن يقود المحامي الشاب صاحب ال 32 عاما فقط تنفيذ ثورة مسلحة علي فالجنسيو باتيستا الرئيس الكوبي المستبد الذي كان في السلطة، ونجح الشاب في هزم جيش حكومي مؤلف من 80 ألف رجل، وهو الذي لم يخضع لأي تأهيل عسكري. 90 عاماً عاشها كاسترو نجا خلالها من أكثر من 600 محاولة اغتيال، وحكم كوبا قرابة ال 50 عاما، شهد أيضا رحيل وصعود نحو 10 رؤساء أمريكيين، جميعهم حملوا البغض والكره والعداء لفيدل، فقد حاولت المخابرات الأمريكية اغتياله 638 مرة وفقا لما صرح به أحد وزراء كوبا، وتنوعت هذه المحاولات ما بين محاولة قتله باستخدام القناصة، أو عن طريق حشو سيجاره الخاص بالمتفجرات، ودس السم له في كأس البيرة، وربما أكثرها غرابة وطرافة هو تجنيد المخابرات الأمريكية لفتاة حسناء كانت تهدف لإيقاع فيدل في حبها ومن ثم التمكن منه وقتله، ولكن المفاجأة أن العميلة الأمريكية أحبت الرفيق فيدل بالفعل وأصبحت مغرمة به وأمضت حياتها معه في هافانا، ورغم ابتعاد كاسترو عن الأضواء بعد تخليه عن السلطة لأخيه راؤول منذ 10 سنوات لم يعد يظهر علي الملأ إلا في حالات نادرة، ورغم خلعه لبزته العسكرية منذ زمن طويل، لكنه عاش ومات ذلك الثوري العاشق للحرية والعدالة الاجتماعية. في عام 1953 حمل كاسترو السلاح ضد الرئيس فالجنسيو باتيستا علي رأس مجموعة قوامها 100 من أتباعه، إلا أن محاولته أُحبطت، وسجن مع شقيقه راؤول، وبعد عامين صدر عفو عن كاسترو الذي شكل قوة مقاتلة عرفت بحركة 26 يوليو، وعاود الكرة مرة أخري لإنهاء حكم باتيستا من منفاه في المكسيك. مبادئ كاسترو الثورية حظيت بتأييد واسع في كوبا، وتمكنت قواته في عام 1959 من الإطاحة بنظام باتيستا الذي أصبح يرمز إلي "الفساد والتعفن وعدم المساواة". وبعد الإطاحة بنظام باتيستا وتسلمه سدة الحكم في البلاد، سرعان ما حوَّل كاسترو كوبا إلي النظام الشيوعي لتصبح أول بلد تعتنق الشيوعية في العالم الغربي. لم تكد الولاياتالمتحدة تعترف بالحكومة الكوبية الجديدة حتي بدأت العلاقات بين واشنطن وهافانا بالتدهور، لاسيما عندما قام كاسترو بتأميم الشركات الأمريكية العاملة في كوبا، وفي أبريل عام 1961 حاولت الولاياتالمتحدة إسقاط الحكومة الكوبية من خلال تجنيد جيش خاص من الكوبيين المنفيين لاجتياح جزيرة كوبا، إلا أن القوات الكوبية المتمركزة في خليج الخنازير تمكنت من صد المهاجمين وقتلت العديد منهم واعتقلت حوالي ألف شخص آخر. من هنا أصبح كاسترو العدو رقم واحد بالنسبة للولايات المتحدة، مما حدا بحليفه الاتحاد السوفيتي حينذاك بأن يقرر نشر صواريخ بالستية في الجزيرة الكوبية لردع أي محاولة أمريكية لغزوها، وذلك وفقا لمذكرات الزعيم السوفيتي حينذاك نيكيتا خروشوف، وبعد ذلك بعام واحد، بدأت أزمة الصواريخ السوفيتية الشهيرة التي كادت أن تجر العالم إلي حرب عالمية ثالثة. وفي أكتوبر من عام 1962 اكتشفت طائرات تجسس أمريكية بالفعل منصات الصواريخ السوفيتية في كوبا، مما جعل الولاياتالمتحدة تشعر بالتهديد المباشر، إلا أن الأزمة لم تطل كثيرا، فقد توصلت موسكووواشنطن إلي تسوية أزال الاتحاد السوفيتي بموجبها صواريخه من كوبا مقابل تعهد أمريكي بعدم غزو كوبا، والتخلص من الصواريخ الأمريكية في تركيا. تحالف كاسترو مع خروشوف أربك الولاياتالمتحدة التي قطعت هافانا علاقاتها الدبلوماسية معها عام 1961 بعد عملية خليج الخنازير الفاشلة، كما أمم كاسترو عددا من الشركات الأمريكية التي بلغ مجموع أرصدتها ما يقرب من مليار دولار في ذلك الوقت. أصبح كاسترو أحد النجوم اللامعة في عصر الحرب الباردة. ففي عام 1975، أرسل 15 ألف جندي إلي أنجولا لمساعدة القوات الأنجولية المدعومة من السوفييت. كما أرسل في عام 1977 قوات أخري إلي إثيوبيا لدعم نظام الرئيس الماركسي مانجستو هيلا مريام، وقد أثر انهيار المعسكر الاشتراكي عام 1991 كثيرا علي الأوضاع في كوبا، وخاصة الجانب الاقتصادي منها. إلا أن بعض المحللين يرون أن كوبا تمكنت من التقليل من آثار خسارة أهم حلفائها، وقد ظل كاسترو يلقي باللوم علي واشنطن ويحملها مسئولية المصاعب الاقتصادية التي تواجهها بلاده، وذلك بسبب الحظر الاقتصادي الذي تفرضه واشنطن علي كوبا. رسالة التنحي وفي التاسع عشر من شهر فبراير 2008 استقال فيدل كاسترو من منصبي رئاسة الدولة والقيادة العامة للقوات المسلحة الكوبية، وأعلن عن خطوته تلك في رسالة نشرتها صحيفة جرانما الرسمية في موقعها علي الإنترنت وقال كاسترو في رسالته: " سوف أخون ضميري إن أنا قبلت تحمل مسئولية تتطلب الحركة والتفرغ والتفاني بشكل كامل، فأنا لست في حالة صحية تمكنني من بذل هذا العطاء" ومع خلافة شقيقه راؤول له في رئاسة البلاد والقوات المسلحة وزعامة الحزب الشيوعي الحاكم، إلا أن فيدل كاسترو لم يغب عن الأخبار خلال السنوات الأخيرة، سواء بمقالاته التي دأب علي نشرها أو بتعليقاته علي التطورات المحلية والدولية. وفي عيد ميلاده ال90 الذي احتفلت به كوبا في أغسطس الماضي، أصر خوسيه كاستيلار كايرو صانع السيجار الكوبي الأشهر علي صنع أطول سيجار في العالم، حيث بلغ طوله 90 متراً بما يوازي طول ملعب لكرة القدم وأهداه للزعيم الكوبي السابق فيدل كاسترو، الذي لم يتناول، منه نفساً واحداً لأنه أقلع عن التدخين تماماً عام 1985. صمد كاسترو في وجه التاريخ، لكنه لم يكن ليستطع أن يصمد في وجه الزمن أكثر مما فعل.. وقال شقيقه الرئيس الحالي لكوبا راؤول كاسترو في إعلان تلاه عبر التلفزيون الوطني " توفي القائد الأعلي للثورة الكوبية اليوم السبت"، وأضاف "الجثمان سيحرق السبت"، قبل أن يختم إعلانه مطلقا هتاف الثورة "هاستا لا فيكتوريا سيمبري" أي حتي النصر دائما.