أعلنت وزارة الآثار، مؤخرا، عن مشروع يستهدف حصر الوكالات الأثرية الموجودة بالقاهرة للعمل علي ترميمها بهدف تحويلها إلي مطاعم، فنادق، ومزارات سياحية، أملاً في إعادتها إلي الحياة مرة أخري. وفي عدد سابق عرضنا هنا تفاصيل المشروع كاملة كما قدمته الوزارة. هنا نعرض الجانب الآخر من الرواية سألنا المتخصصين عما يمكن أن يحدث للوكالات الأثرية حال تنفيذ المشروع، والطريقة الصحيحة للاستفادة من تلك المباني. الدكتور محمود إبراهيم، أستاذ الآثار الإسلامية بجامعة القاهرة، يقول إن المشروع يتلخص في جملة واحدة: "كلمة حق يراد بها باطل" فليست وظيفة الآثار أن تستخدم بتلك الطرق لتدر مالاً تنعش به خزينة الدولة، لأنها ليست مصنعاً أو شركة، وبإمكانها أن تجلب مالاً وفيراً ولكن علي طريقتها الخاصة، وهي أن يأتي الناس ليزوروها ويطالعوا جمالها ويشهدوا علي عظمة تاريخها، أما مسألة توظيفها لتلعب أدواراً لا تمت لها بصلة فهذا أمر مرفوض. يتساءل إبراهيم في دهشة: " من قال إن استخدام الآثار مصدر من مصادر الدخل؟" ويشرح أستاذ الآثار الإسلامية كيف أن الغرب، وبالتحديد ألمانيا التي حصل منها علي شهادة الدكتوراه، استطاعت الاستفادة من آثارها دون إهانة هذه الآثار وذلك عن طريق إقامة منشآت حول هذه المباني الأثرية للاستفادة من جغرافية المكان الذي اكتسب قيمة كبري من وقوع مبني أثري علي أطرافه أو في القلب منه. يتابع : "كنا نذهب في ألمانيا إلي كنيسة أثرية، أو ديرٍ ما، فنري أن موارده مرتفعة جدًا دون المساس بالمبني أو تشويهه. رأينا فنادق ومطاعم وكافيهات رائعة ومحال لبيع التذكارات أيضًا تدر دخلاً كبيرًا لكنها ليست هي الأثر نفسه". يري أستاذ الآثار الإسلامية أن هذه المباني سيتم تحويلها، في الغالب، إلي مطاعم وليست مولات، لأن لدينا الآن في مصر عدداً كبيراً من المولات الشهيرة، وبالتالي ستلعب دوراً بعيداً عنها "كما بالإقامة في عدد من الوكالات الأثرية وبعد استحداث عدة أساليب لتحسين الصرف والإضاءة بدأت تلك المباني في الانهيار لأنها لم تتحمل إساءة استخدام البشر لها". يضيف: "الوكالات الأثرية كائن حساس لا يتحمل أفعال البشر. هكذا ستكون النتيجة إما اختفاء الأثر تمامًا وزواله نتيجة تغيير معالمه وعدم إدراك البشر طريقة التعامل معه، وإما أن ننفق أموالاً طائلة لبعثه من جديد". يقول إبراهيم أنه طالب كثيراً أثناء وجوده باللجنة الدائمة للآثار بضرورة خروج مخازن وزارة التربية والتعليم، ومقار الأحزاب، وكذلك الورش والمصانع، من المباني الأثرية لأن هذا يعد توظيفاً للآثار واستخدامها في وظائف دخيلة عليها مثل تحويلها إلي أقسام شرطية كما فعلت من قبل وزارة الداخلية، وكما فعلت أيضاً وزارة التربية والتعليم التي حولت عددًا منها إلي مدارس، وكانت نتيجة هذا التوظيف هي إنفاق ملايين الجنيهات لتحويلها من جديد إلي سابق هيئتها، بعد أن دمرها سوء الاستخدام. يؤكد أستاذ الآثار الإسلامية: "ستعود السياحة، بإذن الله، ووقتها لابد للسائح من زيارة مبني أثري يشهد علي عظمة ولا ضرر من أن يجلس علي مقهي أو يتناول وجبة في مطعم بجوار المبني، لا أن يدخل المبني فيجد نفسه داخل مطعم أو فندق يوجد مثله المئات في كل أنحاء العالم. بما تميزنا إذًا؟ بهذه العقلية التي تدير الأمور، هيا بنا نفكر في استخدام الهرم أيضاً وتحويله إلي مقابر لدفن الموتي! علينا أن نفكر خارج الصندوق ونبدع قليلاً في تفكيرنا". يوافق الدكتور رأفت النبراوي، أستاذ الآثار الإسلامية وعميد كلية الآثار جامعة القاهرة الأسبق، علي المشروع ولكن بشروط يصفها ب "القاسية جداً" فيري أن مسألة تحويل المباني الأثرية بهدف الاستفادة منها هو أمر غير مرفوض تماماً ولكن يجب فرض رقابة شديدة ودورية من جانب وزارة الآثار التي يجب عليها الاتفاق بكل جدية مع الطرف الذي سيؤجر المكان من أجل الحفاظ علي بقائه علي حالته وعدم تغيير معالمه. يتابع : "علي من يؤجر هذا المباني أن يكون واعيًا لأهميتها التاريخية الكبيرة، وأنا لا أوافق مطلقاً علي تحويل أي مبني أثري إلي مطعم لأن المطعم سوف يسيء للأثر بشكل كبير حيث يرتاده الصالح والطالح، ولكن الفندق تكون لدخوله شروط وتعليمات وعلي كل نزيل بالفندق أن يوقع إقرارًا بعدم المساس بأي شيء يخص الأثر". يشدد العميد الأسبق لكلية الآثار علي ضرورة توقيع أقصي عقوبة علي من مصر يخالف شروط الاتفاق مع وزارة الآثار التي يطالبها النبراوي بالمتابعة الدقيقة والانتباه لخطورة المشروع الذي قد يقضي علي آثارنا التي تشهد علي عظمة تاريخنا، وذلك في حال التهاون في المراقبة من جهة الوزارة. من جانبه يتفق الدكتور محمد الكحلاوي، أستاذ الآثار والعمارة الإسلامية والأمين العام السابق لاتحاد الأثريين العرب، مع النبراوي بخصوص ضرورة فرض رقابة صارمة من جانب وزارة الآثار علي الجهات التي ستؤجر تلك المباني، كما أشار إلي أن المشروع كان علي طاولة الاتحاد منذ فترة ولكن بضوابط محددة تمكنه من أداء مهمته علي ما يرام، حيث كان اتحاد الأثريين العرب يري أن الآثار تتعرض للتلف والإهمال ولذلك فكر القائمون عليه في إعادة توظيف الآثار بما يتماشي مع وظيفتها الأصلية. يوضح الكحلاوي: "لا مانع من تحويل هذه المباني إلي فنادق، مطاعم، أو مولات تجارية. شرط أن يكون العاملون بهذه المنشآت علي دراية بما لهذه الآثار من أهمية وقيمة تاريخية راسخة تعينهم علي فهم قيمة الأثر ومن ثم التعامل معه باحترام يليق به. لابد من إعادة التوظيف لأن المبني عندما يذهب إلي الترميم ثم يلبس في مكانه ساكناً فإنه يتعرض للخراب ويهلك، ولكن إذا جاء من يوظفه بما يتوافق مع احترام التاريخ والحفاظ عليها من أخطار داهمة تتهدده. علي سبيل المثال، لا يقبل أبداً إقامة فرح داخل مبني أثري". الكحلاوي، الحاصل علي جائزة التفوق في العلوم الاجتماعية، ينبه إلي أن التعامل مع الأثر له طبيعة خاصة، ويري أنه من غير المسموح، مثلاً، أن يتم عمل وصلات في حوائط الأثر لوضع مكيفات الغرف أو إنارتها بالكهرباء، ولكن علي القائمين أن يجتهدوا في فعل هذا الأمر بصورة غير نمطية حفاظاً علي حوائط وأرضية الأثر الذي قد ينهار إذا ما أسيء استخدامه. "المشروع مهم وضروري لكنه يحتاج إلي معماريين مهرة" هكذا بدأت المعمارية جليلة القاضي كلامها الذي أوضحت فيه أننا إذا تركنا الأثر هكذا دون أن نمنحه وظيفة جديدة فإنه يذهب حتماً إلي الهلاك ومن ثم يموت لا محالة، وتابعت: "لم يعد العالم في حاجة إلي وكالات أثرية كما كان يحدث قديماً، وهكذا يمكن تحويل الوكالة إلي فندق يتردد الناس عليه ويشعرون بقيمته أكثر بعد أن يلعب دوراً سياحيًا أو اجتماعيًا، فقد شاهدت عدداً من الأضرحة التي تحولت إلي مبان للأمومة والطفولة بمدينة القيروان بتونس. لابد للأمر من معالجة معمارية متميزة تبرز ملامحه الجميلة لا أن تطمسها، حيث يتوافق الأثر مع وظيفته الجديدة دون تغيير ملامحه الأساسية، وهذا يحدث في العالم كله".