رئيس الوزراء يهنئ الرئيس بعيد الأضحى المبارك    التعليم تكشف تفاصيل مهمة بشأن مصروفات العام الدراسي المقبل    القوات المسلحة تهنئ رئيس الجمهورية بمناسبة حلول عيد الأضحى المبارك    عاشور يشارك في اجتماع وزراء التعليم لدول البريكس بروسيا    المصري الديمقراطي: تنسيقية شباب الأحزاب استطاعت تأهيل عدد كبير من الشباب للعمل السياسي    «جهاز الاتصالات» يعلن أوقات عمل فروع المحمول خلال إجازة عيد الأضحى    وتوريد 391 ألف طن قمح منذ بدء الموسم بالمنيا    البورصة: مؤشر الشريعة الإسلامية يضم 33 شركة بقطاعات مختلفة    البنك التجاري الدولي وجامعة النيل يعلنان تخرج أول دفعة من برنامج التمويل المستدام للشركات الصغيرة وا    أسامة ربيع لسفير أستراليا: قناة السويس ستظل الطريق الأسرع والأقصر    لحظة اندلاع حريق هائل بالكويت ومصرع 40 شخصا في سكن للعمال (فيديو)    صحة غزة تحذر من توقف محطة الأكسجين الوحيدة في القطاع    نقيب الصحفيين الفلسطينيين ل"قصواء الخلالي": موقف الرئيس السيسي تاريخي    الاستخبارات الداخلية الألمانية ترصد تزايدا في عدد المنتمين لليمين المتطرف    وزير الدفاع الألماني يعتزم الكشف عن مقترح للخدمة العسكرية الإلزامية    بيراميدز يدخل معسكرا مغلقا اليوم استعدادا لسموحة    رئيس إنبي: سنحصل على حقنا في صفقة حمدي فتحي "بالدولار"    "لا أفوت أي مباراة".. تريزيجية يكشف حقيقة مفاوضات الأهلي    طلاب الثانوية العامة بالأقصر: كثرة التفتيش داخل اللجان يؤثر على التركيز (فيديو)    فيديو| إجراءات تفتيش طالبات بالثانوية العامة في السويس قبل انطلاق امتحان الاقتصاد    ضبط أقراص مخدرة ب3 ملايين جنيه بحوزة متهم في القاهرة    وسط حراسة مشددة.. وصول سفاح التجمع إلى محكمة الجنايات بالقاهرة الجديدة    الداخلية: ضبط 562 دراجة نارية لعدم ارتداء الخوذة    كيف علق الجمهور على خبر خطوبة شيرين عبدالوهاب؟    عزيز الشافعي: أغاني الهضبة سبب من أسباب نجاحي و"الطعامة" تحد جديد    في ذكرى ميلاد شرارة الكوميديا.. محطات في حياة محمد عوض الفنية والأسرية    عصام السيد يروي ل"الشاهد" كواليس مسيرة المثقفين ب"القباقيب" ضد الإخوان    سوسن بدر: المصريون نتاج الثقافات والحضارات الوافدة لمصر وصنعنا بها تاريخ    بيان الأولوية بين شعيرة الأضحية والعقيقة    5 نصائح من «الصحة» لتقوية مناعة الطلاب خلال فترة امتحانات الثانوية العامة    الصحة: إجراء 2.3 مليون عملية بقوائم الانتظار بتكلفة 17 مليار جنيه    شبانة: حسام حسن عليه تقديم خطة عمله إلى اتحاد الكرة    «أوقاف شمال سيناء» تقيم نموذج محاكاه لتعليم الأطفال مناسك الحج    كومباني يحدد أول صفقاته في بايرن    قرار عاجل من اتحاد الكرة بشأن مباراة بيراميدز المقبلة    حماية العيون من أضرار أشعة الشمس: الضرورة والوقاية    «التضامن الاجتماعي» توافق على قيد جمعيتين بالشرقية    عفو رئاسي عن بعض المحكوم عليهم بمناسبة عيد الأضحى    محافظ الغربية يتابع مشروعات الرصف والتطوير الجارية ببسيون    الأرصاد تكشف عن طقس أول أيام عيد الأضحي المبارك    إي اف چي هيرميس تنجح في إتمام خدماتها الاستشارية لصفقة الطرح العام الأولي لشركة «ألف للتعليم القابضة» بقيمة 515 مليون دولار في سوق أبو ظبي للأوراق المالية    أفضل أدعية يوم عرفة.. تغفر ذنوب عامين    سويلم: إعداد برامج تدريبية تستفيد من الخبرات المتراكمة للمحالين للمعاش    يونيسف: نحو 3 آلاف طفل في غزة معرضون لخطر الموت    عضو لجنة الرقابة الشرعية: فنادق الشركات المقدمة للخمور تنضم لمؤشر الشريعة بشرط    توقيع بروتوكول تعاون ثنائي بين هيئة الرعاية الصحية ومجموعة معامل خاصة في مجالات تطوير المعامل الطبية    بطل ولاد رزق 3.. ماذا قال أحمد عز عن الأفلام المتنافسة معه في موسم عيد الأضحى؟    تفاصيل مشاجرة شقيق كهربا مع رضا البحراوي    وزير الأوقاف يهنئ الرئيس السيسي بعيد الأضحى المبارك    "مقام إبراهيم"... آيةٌ بينة ومُصَلًّى للطائفين والعاكفين والركع السجود    وزير الصحة: تقديم كافة سبل الدعم إلى غينيا للتصدي لالتهاب الكبد الفيروسي C    موعد مباراة سبورتنج والترسانة في دورة الترقي للممتاز والقنوات الناقلة    استشهاد 6 فلسطينيين برصاص إسرائيلي في جنين بالضفة الغربية    اتحاد الكرة يحسم مشاركة محمد صلاح في أولمبياد باريس 2024    زواج شيرين من رجل أعمال خارج الوسط الفني    خلال 3 أشهر.. إجراء عاجل ينتظر المنصات التي تعمل بدون ترخيص    برلماني: مطالب الرئيس ال4 بمؤتمر غزة وضعت العالم أمام مسؤولياته    حظك اليوم| الاربعاء 12 يونيو لمواليد برج الميزان    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



زمن السريالية في مصر‮.. ‬خلفية تاريخية
نشر في أخبار الحوادث يوم 29 - 10 - 2016

‮"‬يتجلي العدوان علي الفن في البلاد الشمولية بأكثر السبل دناءة،‮ ‬ضد فن يصفه بالإنحلال،‮ ‬عسكريون شرسون تبوؤا مراتب السادة مطلقي السلطان،‮ ‬وهم أدعياء علم منحلون‮".‬
هذه الكلمات مقتطعة من البيان الذي يعد بمعني من المعاني‮ "‬مانيفستو‮" ‬للحركة السريالية المصرية،‮ ‬والذي حمل عنوان‮: "‬يحيا الفن المنحط‮".‬
لقد ظهرت الحركة السريالية في مصر في أواخر ثلاثينيات القرن الماضي،‮ ‬ويؤرخ لظهورها بشكل أساسي بتأسيس جماعة‮ "‬الفن والحرية‮" ‬في يناير‮ (‬1939‮)‬،‮ ‬والتي كانت لها إرهاصاتها السابقة علي تأسيسها؛ وتتمثل هذه الإرهاصات في تمرد‮ ‬عدد من مؤسسيها علي التقاليد الفنية والأدبية السائدة آنذاك،‮ ‬وفي الانضمام لجماعات فنية تحدت تلك التقاليد شارك فيها بعضهم،‮ ‬مثل جماعة‮ "‬الدعاية الفنية‮" ‬التي أسسها حبيب جورجي وانضم لها رمسيس يونان،‮ ‬لكن أبرزها جماعة‮ "‬الإسيست‮" ‬التي كان جورج حنين مؤسس جماعة الفن والحرية عضوًا بها،‮ ‬تمثلت كذلك في صدور بيانات تدعو لتحرير الإبداع؛ منها إعلان‮ "‬الشرقيون الجدد‮" ‬سنة‮ (‬1937‮)‬،‮ ‬ثم بيان‮ "‬يحيا الفن المنحط‮".‬
كان النصف الثاني من عشرينيات القرن الماضي،‮ ‬قد شهد ميلاد أولي الجماعات الفنية في مصر،‮ ‬جماعة‮ "‬الخيال‮"‬،‮ ‬والتي كانت تضم في عضويتها مجموعة من الفنانين المصريين من الجيل الذي يُطلق عليه اسم جيل الرواد،‮ ‬أبرزهم مختار ومحمود سعيد وراغب عياد ومحمد حسن وأحمد صبري ويوسف كامل وناجي،‮ ‬كما ضمت بعض الفنانين الأجانب المقيمين في مصر،‮ ‬وقد ارتبط بالجماعة نخبة من الأدباء والكتاب كأصدقاء لجماعة الخيال يروجون لها بكتاباتهم الصحفية والنقدية،‮ ‬منهم‮: ‬محمد حسين هيكل والعقاد والمازني ومحمود عزمي ومي زيادة‮.‬
وإذا كانت جماعة الخيال تعبر عن اتجاهات جيل الرواد الفنية خاصة الاتجاه القومي في الفن،‮ ‬بما حمله من محاولة للتجديد في المجتمع المصري بإعادة بعث الفنون الجميلة كمكون أساسي في ثقافة النخبة،‮ ‬ومحاولة تقديم الفن الحديث للمجتمع كله،‮ ‬وتحقيق التفاعل بين الفنون والآداب،‮ ‬فإن الجماعات الفنية والأدبية التي ظهرت في الثلاثينيات كانت تعبيرًا عن تمرد جيل جديد من المبدعين علي الجيل السابق عليهم‮.‬
وإذا عدنا لجماعة الإسيست باعتبار بعض من أعضائها هم المؤسسين لجماعة الفن والحرية،‮ ‬فقد كانت الجماعة محاولة لتقديم تجارب جديدة في الفن والكتابة،‮ ‬وقد وقع الانشقاق في تلك الجماعة بسبب هجوم الشاعر جورج حنين علي تواطؤ بعض المبدعين الإيطاليين من أعضاء الجماعة مع الفاشية،‮ ‬ومن ثَم انشق عن الجماعة وأسس مع زملاء له جماعة الفن والحرية‮.‬
وكان ظهور جماعات أدبية فنية يغلب عليها التوجه السريالي كجماعة الفن والحرية تعبيرًا عن احتكاك الحركة الفكرية والفنية في مصر بتيارات الثقافة العالمية،‮ ‬فإذا كان النصف الثاني من القرن التاسع عشر عصر الثورة علي الكلاسيكية والرومانتيكية معًا،‮ ‬وإذا كانت التأثيرية بمثابة الطلقة الأولي في معركة الفن الحديث تمثل فيها تحرر الفنان من قيود الأكاديمية التقليدية،‮ ‬فإن النصف الأول من القرن العشرين شهد موجة ثورية ثانية بدأت مع التكعيبية والمستقبلية والدادية،‮ ‬ووصلت ذروتها مع السريالية بصدور‮ (‬المانيفستو السريالي‮) ‬سنة‮ (‬1924‮)‬،‮ ‬ثم بيان المكسيك عام‮ (‬1938‮)‬،‮ "‬من أجل فن ثوري حر‮"‬،‮ ‬وعندما أسس جورج حنين جماعة الفن والحرية كانت تعبيرًا مصريًا عن الدعوة التي حملها البيان الأخير‮.‬
وربما كانت جماعة الفن والحرية أجلي تعبير عن السريالية في مصر،‮ ‬وقد ضمت إلي جانب جورج حنين عددًا من المبدعين المصريين والأجانب المقيمين في مصر كان من أبرزهم كامل التلمساني ورمسيس يونان وأنور وفؤاد كامل وأنجلو دي ريز،‮ ‬وقد نشرت جماعة الفن والحرية بيانها الشهير‮ "‬يحيا الفن المنحط‮" ‬دفاعًا عن حرية الفنان ضد اتجاهات الدول التسلطية لتوجيه الفن والعدوان عليه،‮ ‬وتقييد حرية المبدعين،‮ ‬وكانت معارض الجماعة التي بدأت منذ عام‮ (‬1940‮)‬ثورة في مجال الفنون التشكيلية في مصر،‮ ‬وقد استمرت الجماعة حتي النصف الثاني من الأربعينيات،‮ ‬لتحل محلها لفترة قصيرة‮ "‬جانح الرمال‮" ‬التي حاول فؤاد كامل من خلالها إحياء جماعة الفن والحرية‮.‬
ولقد ربط بعض النقاد بين السريالية المصرية ممثلة في جماعة الفن والحرية والتيار التروتسكي في الحركة الشيوعية المصرية،‮ ‬لكن هذا الأمر محل نقد ومساءلة‮.‬
ورغم أن الجماعة لم تستمر في الوجود إلا لسنوات قليلة،‮ ‬إلا أن الاتجاه السريالي في الفن المصري تواصل كتيار من تيارات الحركة الفنية المصرية لسنوات بعدها،‮ ‬رغم تحول بعض رواده إلي التجريد‮.‬
لقد أعلنت الحركة السريالية المصرية عن نفسها في لحظة تاريخية فارقة ليس فقط في تاريخ مصر،‮ ‬بل في تاريخ العالم كله؛ فقد كانت النظم الشمولية‮: ‬الستالينية في الاتحاد السوفيتي والنازية في ألمانيا والفاشية في إيطاليا والنزعة القومية الاستبدادية العسكرية في اليابان تزداد قوة‮.‬
كانت الستالينية تواصل قمعها لشعوب الاتحاد السوفيتي بدعوي بناء الدولة الاشتراكية السوفيتية،‮ ‬في الوقت الذي كانت تشيد فيه في الحقيقة سلطة دولة طبقية بيروقراطية استبدادية‮.‬
وكانت النظم الثلاثة،‮ ‬الأخيرة النازية الألمانية والفاشية الإيطالية والعسكرية اليابانية،‮ ‬تصعد من عدوانيتها ضد شعوبها وفي الوقت نفسه تفصح عن نزعتها التوسعية في محيطها الإقليمي الذي اعتبرته مجالا حيويًا لتوسعها‮.‬
وكانت العسكرية القومية في إسبانيا المدعومة من النازية والفاشية توشك أن تحقق انتصارها النهائي علي الجبهة الشعبية التي تضم الجمهوريين والاشتراكيين والشيوعيين والأناركيين والليبراليين‮.‬
كانت هذه النظم الشمولية الثلاثة في ألمانيا وإيطاليا واليابان تدفع العالم إلي حافة حرب عالمية جديدة،‮ ‬حرب تصطدم فيها مع معسكر الحلفاء المنتصرين في الحرب العالمية الأولي قبلها بعقدين،‮ ‬فرنسا وبريطانيا العظمي علي وجه التحديد،‮ ‬في صراع متجدد بين جناحي المعسكر الرأسمالي من أجل السيطرة علي العالم‮.‬
كانت‮ ‬غيوم الحرب تتجمع في الأفق،‮ ‬وكانت الحروب التمهيدية الصغيرة قد بدأت بالفعل في حرب إيطاليا والحبشة،‮ ‬والحرب الأهلية الأسبانية،‮ ‬وحروب اليابان التوسعية في الشرق الأقصي،‮ ‬والاعتداءات الألمانية المستمرة علي دول الجوار‮.‬
وفي سياق الاستعداد للحرب وقعت ألمانيا النازية معاهدة مع الاتحاد السوفيتي لتحيّده في الحرب،‮ ‬لكن سرعان ما خرقت ألمانيا هذه المعاهدة بعد أن حققت انتصاراتها الكاسحة علي الجبهة الغربية في سنتي الحرب الأولتين‮.‬
وبالفعل اشتعلت الحرب قبل أن ينتهي العام الذي تأسست فيه جماعة الفن والحرية‮.‬
في الوقت نفسه كانت هذه النظم الشمولية تفرض قيودًا متزايدة علي حرية الإبداع الفني والأدبي،‮ ‬بدعاوي الالتزام بالقيم والأخلاق،‮ ‬أو دعاوي الالتزام بالتعبير عن‮ "‬مصالح‮" ‬الطبقة العاملة ورواها،‮ ‬وتسعي لفرض أساليب فنية تعبوية علي المبدعين‮.‬
كانت حرية الفنان في خطر‮.‬
وكانت القوي السياسية الثورية في العالم مشتتة بسبب الانقسام في الحركة الشيوعية العالمية،‮ ‬وسيطرة التوجه الستاليني علي معظم الأحزاب الشيوعية،‮ ‬والخلافات التاريخية بين الشيوعية والاشتراكية الديمقراطية والأناركية،‮ ‬في هذا السياق علي النطاق العالمي كان المثقفون والمبدعون والفنانون التقدميون والأحرار حول العالم يتكاتفون معًا،‮ ‬يدافعون عن مساحة الخيال الحر،‮ ‬ويقفون ضد العدوانية والعسكرة،‮ ‬وضد النظم الشمولية،‮ ‬وضد الحرب بوجه عام،‮ ‬يقفون مع حرية الإنسان وحرية المبدع،‮ ‬وكانت حركة الفن والحرية المصرية ذات التوجه السريالي جزءًا من هذا الحراك للأحرار من مثقفي العالم ومبدعيه‮.‬
هذا عن الوضع الدولي،‮ ‬فماذا عن مصر؟
ربما يقتضي الأمر أن نرجع إلي الوراء قليلا؛ إلي السنوات الأولي من القرن العشرين،‮ ‬تلك السنوات التي شهدت ميلاد مدرسة الفنون الجميلة بالقاهرة،‮ ‬وقد أسسها الأمير يوسف كمال أحد رعاة النهضة الثقافية في مصر وجعل مقرها قصر من قصوره بحي درب الجماميز بالقاهرة،‮ ‬وهي المدرسة التي كان من بين طلاب دفعتها الأولي رواد الفن الحديث في مصر،‮ ‬مختار وراغب عياد ويوسف كامل ومحمد حسن،‮ ‬ويُؤرخ بافتتاحها في مايو‮ (‬1908‮)‬لنشأة الحركة الفنية الحديثة في مصر‮.‬
لقد كانت السنوات الأولي من القرن العشرين فترة محورية من تاريخ مصر،‮ ‬فشهد المجتمع المصري حركة عامة تواكب فيها نمو الحركة الوطنية وصعودها التدريجي مع بناء المؤسسات السياسية ومؤسسات المجتمع المدني الحديثة وشيوع الأفكار الجديدة بين الناس،‮ ‬فقد شهدت تلك السنوات تأسيس الأحزاب السياسية التي تعبر عن التيارات الأساسية في المجتمع ويسعي كل حزب منها بطريقته لتحقيق أهداف النضال الوطني في الدستور والجلاء،‮ ‬كما شهدت تلك السنوات أيضًا تأسيس نادي المدارس العليا كناد سياسي اجتماعي ثقافي نقابي يجمع طلاب المدارس العليا وخريجيها في تنظيم واحد يدافع عن مصالحهم وينمي الروح الوطنية بينهم،‮ ‬وشهدت تأسيس النادي الأهلي كأول ناد رياضي اجتماعي وطني،‮ ‬نفس الفترة عرفت الدعوة لإنشاء الجامعة الأهلية وافتتاح الدراسة بها بالفعل في ديسمبر من عام‮ (‬1908‮)‬،‮ ‬لتكون نواة للجامعات المصرية الحديثة فيما بعد،‮ ‬وليتخرج منها مجموعة من رواد حركة التحديث التي انتعشت موجة جديدة من موجاتها في أعقاب الثورة المصرية،‮ ‬ثورة‮ (‬1919‮)‬،‮ ‬وتأسست في‮ (‬1909‮) "‬نقابة عمال الصنائع اليدوية‮" ‬بدعم من الزعيم محمد فريد الرئيس الثاني للحزب الوطني لتبدأ بذلك مرحلة جديدة في تاريخ الحركة العمالية المصرية،‮ ‬وفي نفس الحقبة تأسست مجموعة من الجمعيات الأهلية كان من أبرزها الجمعية المصرية للاقتصاد السياسي والتشريع والإحصاء،‮ ‬إنه المشروع الوطني الكبير الذي مهد الأرض للصحوة الكبري التي أعقبت الحرب العالمية الأولي وبلغت ذروتها بقيام ثورة‮ (‬1919‮).‬
لقد كانت الثورة الشعبية الوطنية الديموقراطية التي قام بها الشعب المصري سنة‮ (‬1919‮)‬تتويجًا لنضال طويل امتد لأكثر من قرن وربع من الزمان،‮ ‬وقد انعكس نجاح الثورة في تحقيق بعض أهدافها علي الحياة المصرية كلها،‮ ‬وأرست الثورة مجموعة من المبادئ المهمة،‮ ‬أولها أن الأمة هي مصدر السلطات وهي التي تفوض قادتها في تمثيلها وتحاسبهم علي ما يفعلون،‮ ‬وثانيها أن مصر كيان مستقل قائم بذاته فلا هي مستعمرة بريطانية ولا هي ولاية عثمانية،‮ ‬وثالثها أن المصريين أمة واحدة لا فرق بينهم علي أساس دين أو عقيدة أو جنس تربط بينهم الرابطة الوطنية قبل الرابطة الدينية،‮ ‬ورابعها أن استقلال مصر السياسي لا يتحقق بمعزل عن حرية المواطنين واحترام حقوقهم‮.‬
وفي هذا الإطار‮ ‬غلبت النزعة القومية علي الفنون الجميلة في مصر،‮ ‬وكان مختار أبرز تجلياتها،‮ ‬وكانت السريالية المصرية منذ الثلاثينيات جدلا فنيًا وفكريًا مع هذه النزعة‮.‬
نعود إلي لحظة ميلاد السريالية المصرية في الأدب والفن،‮ ‬في ذلك الوقت،‮ ‬النصف الثاني من الثلاثينيات،‮ ‬كانت مصر تبدأ مرحلة جديدة في تاريخها السياسي والاجتماعي والثقافي،‮ ‬جيل جديد من الساسة والمثقفين والمبدعين يدخل بقوة إلي الساحة إلي جانب الجيل الذي تصدر المشهد عقب ثورة‮ (‬1919‮)‬،‮ ‬بل وفي مواجهته أحيانًا‮.‬
كانت البلاد قد خرجت من الانقلاب الدستوري الأطول في الحقبة الليبرالية والذي استمر من عام‮ (‬1930‮)‬إلي عام‮ ‬1935،‮ ‬انقلاب فؤاد/صدقي،‮ ‬والذي فقد فيه الشعب دستوره الذي حصل عليه في أعقاب ثورة‮ (‬1919‮)‬،‮ ‬دستور‮ (‬1923‮)‬،‮ ‬ليحل محله دستور‮ (‬1930‮)‬،‮ ‬الذي وسع من سلطات الملك علي حساب البرلمان،‮ ‬وصدرت في ظله أسوأ القوانين المقيدة للحريات،‮ ‬وأصابت نيران هذا الانقلاب الدستوري الثقافة والفن والإبداع،‮ ‬فتمت مصادرة الصحف وإغلاقها،‮ ‬وسُجن العقاد،‮ ‬وفُصل حافظ إبراهيم من عمله في دار الكتب،‮ ‬ونقل طه حسين من الجامعة إلي ديوان وزارة المعارف،‮ ‬وأوقفت الحكومة تعاقدها مع المثال مختار لعمل التمثالين الميدانيين للزعيم سعد زغلول في القاهرة والإسكندرية‮.‬
كانت سنوات النصف الأول من الثلاثينيات سنوات من الحكم الاستبدادي صودرت فيها الحريات،‮ ‬لكنها كانت أيضًا سنوات لمواجهة الاستبداد والحكم المطلق،‮ ‬شهدت مقاومة مستمرة من القوي الديمقراطية،‮ ‬وحركة جماهيرية متواصلة،‮ ‬لعب فيها جيل جديد من الشباب دورًا أساسيًا،‮ ‬وظهرت من بين هذا الجيل أسماء تصدرت العمل السياسي والعمل العام أو شاركت فيه لسنوات طويلة تالية،‮ ‬ففي هذا الحراك السياسي الثوري ظهرت أسماء جمال عبدالناصر وإبراهيم شكري وحكمت أبو زيد وسهير القلماوي ومحمد حسن الزيات ونور الدين طراف والدمرداش التوني وطلبة صقر،‮ ‬وهي أسماء برزت في مجالات الحكم والسياسة والثقافة والبحث العلمي والرياضة لسنوات طويلة تالية،‮ ‬امتدت لما يقارب نصف قرن‮.‬
انتهت هذه سنوات بما يعرف تاريخيًا بثورة الشباب عام‮ (‬1935‮)‬،‮ ‬انتهت باستعادة دستور‮ (‬1923‮)‬،‮ ‬وعودة الوفد إلي الحكم علي رأس حكومة ائتلافية تضم الأحزاب الرئيسية،‮ ‬ووقعت هذه الحكومة تحت ضغط أجواء الحرب معاهدة مع بريطانيا العظمي حصلت مصر بمقتضاها علي استقلال منقوص في عام‮ ‬1936،‮ ‬حقًا كانت خطوة إلي الأمام قياسًا علي تصريح‮ ‬28‮ ‬فبراير‮ ‬1922‮ ‬الذي تأسست بمقتضاه المملكة المصرية،‮ ‬لكنها كانت أقل من طموح المصريين،‮ ‬وقد استتبع توقيع المعاهدة تطلع لبداية عصر جديد في مصر،‮ ‬خاصة مع اتفاقية مونترو التي تم بمقتضاها الاتفاق علي إلغاء الامتيازات الأجنبية في مصر علي مدي عشر سنوات،‮ ‬وكانت قضية الامتيازات الأجنبية من القضايا الشاغلة للمصريين منذ منتصف القرن التاسع عشر‮.‬
لقد وصلت النخب السياسة التي قادت الثورة وبرزت في أعقابها إلي‮ ‬غاية ما يمكنها الوصول اليه في ذلك الوقت،‮ ‬ولم يعد حلم الاستقلال التام قابلا للتحقيق بيد هذه النخبة،‮ ‬علي الأقل لعدة سنوات‮.‬
وفي هذا السياق جاء صدور كتاب طه حسين‮ "‬مستقبل الثقافة في مصر‮"‬،‮ ‬الذي قدم فيه رؤية للتعليم والثقافة،‮ ‬وبقدر ما كان في هذا الكتاب من تصورات تقدمية متطلعة إلي التغيير،‮ ‬بقدر ما كشف عن قدر من المحافظة والتردد في رؤي بعض أبناء هذا الجيل الذي تصدر المشهد الثقافي في أعقاب الثورة المصرية،‮ ‬ثورة‮ (‬1919‮)‬،‮ ‬الأمر الذي نجده واضحًا بدرجة أكبر في كتابات مفكر آخر من جيل طه حسين هو عباس محمود العقاد،‮ ‬فبخلاف مواقفه الثورية في مجال السياسية،‮ ‬تميزت مواقفه من الاتجاهات الجديدة في الفن والأدب بالمحافظة والجمود‮.‬
بات واضحًا أن الساحة الثقافية والفكرية مثلها مثل الساحة السياسية تحتاج إلي رؤي وأفكار مختلفة‮.‬
وكانت الجامعة المصرية قد خرّجت حينها أجيالا جديدة من أبنائها يشاركون في الحياة المصرية،‮ ‬لكنها منذ تأسيسها لم تنجح في تغيير المجتمع المصري تغييرًا جذريًا؛ كانت تميل إلي الحلول الوسط في كل مواقفها،‮ ‬وتتحاشي الصدام مع المجتمع‮.‬
لقد كانت اللحظة بحق من اللحظات الفارقة في التاريخ،‮ ‬إذا جاز لنا أن نستخدم هذا التعبير؛ كانت لحظة محملة بالآمال وإمكانيات التغيير،‮ ‬لكنها كانت كذلك لحظة ضبابية‮ ‬غائمة،‮ ‬فيها من مكبلات النجاح بقدر ما فيها من عوامل الانطلاق‮.‬
فإذا كان النصف الثاني من ثلاثينيات القرن العشرين جاء محملا بآمال واسعة لانطلاق مرحلة جديدة في بناء الوطن علي أسس من الديمقراطية واحترام الدستور،‮ ‬خاصة مع‮ ‬غياب الملك أحمد فؤاد الأول عن المشهد،‮ ‬وتولي ابنه فاروق الحكم وتفاؤل الكثيرين بالملك الشاب،‮ ‬إلا أن التفاؤل تبدد تدريجيًا،‮ ‬فقد بدأ فاروق السير علي نهج أبيه في معاداة حزب الأغلبية،‮ ‬حزب الوفد،‮ ‬كما أن هذه الفترة شهدت أيضًا ظهور الأفكار الشمولية وانتشارها بين الشباب،‮ ‬فتأسست جماعة سياسية قومية متطرفة متأثرة بالأفكار الفاشية والنازية،‮ ‬هي جماعة‮ "‬مصر الفتاة‮"‬،‮ ‬التي أسسها سياسي شاب مولع بالنموذج الفاشي في مطلع الثلاثينيات هو أحمد حسين،‮ ‬وشكلت الجماعة مليشياتها التي عرفت بالقمصان الخضر،‮ ‬واتخذت لنفسها شعارًا‮ "‬الله الوطن الملك‮".‬
أخذت الأفكار الفاشية تروج بين الشباب،‮ ‬وظهرت في مصر جماعات القمصان الملونة علي‮ ‬غرار القمصان السود الفاشية في إيطاليا والقمصان البنية النازية في ألمانيا واقتداءً‮ ‬بها،‮ ‬فشكلت جماعة مصر الفتاة ميلشيات القمصان الخضر،‮ ‬ووصل الأمر بحزب الأغلبية،‮ ‬حزب الوفد،‮ ‬أن يشكل ميلشيات من شبابه ترتدي القمصان الزرق في مواجهة ميلشيات مصر الفتاة،‮ ‬القمصان الخضر‮.‬
وفي نفس الوقت نمت جماعة الإخوان المسلمين التي تأسست سنة‮ (‬1928‮)‬،‮ ‬والتي بدأت بدعم مالي من شركة قناة السويس العالمية،‮ ‬وكانت الجماعة تتبني منذ لحظة تأسيسها أفكارًا مضادة لمبدأ المواطنة المصرية الذي قامت عليه ثورة‮ (‬1919‮)‬،‮ ‬وقد وجدت الجماعة في المناخ السائد فرصة للانتشار بين الشباب،‮ ‬وشكلت الجماعة كتائبها هي الأخري تحت مسمي الجوالة‮.‬
علي المستوي الاجتماعي لم تحقق ثورة‮ (‬1919‮)‬كما لم يحقق انتصار تيار الحفاظ علي الدستور تحسنا كيفيا في أوضاع الطبقات الفقيرة في المجتمع،‮ ‬لم تتحسن كثيرًا أوضاع الفلاحين والعمال الزراعيين الذين كانوا يشكلون‮ ‬غالبية السكان،‮ ‬كما ساءت أحوال الطبقة العاملة الناشئة خاصة مع تأثر مصر بالأزمة الاقتصادية العالمية أواخر العشرينيات وأوائل الثلاثينيات‮.‬
في هذا المناخ السياسي بدأت الحلقة الثانية من الحركة الشيوعية المصرية،‮ ‬فتشكلت حلقات من الماركسيين باتجاهاتهم المختلفة،‮ ‬ضمت مجموعات من الأجانب والمصريين،‮ ‬وكانت هذه الحلقات نواة للتنظيمات الشيوعية التي تشكلت في بداية الأربعينيات وتواصل وجودها كتنظيمات سرية حتي منتصف الستينيات،‮ ‬ومن أبرزها الشرارة‮ (‬أيسكرا‮) ‬والحركة المصرية للتحرر الوطني وطليعة العمال ومجموعة التروتسكيين،‮ ‬ولعبت هذه التنظيمات دورًا سياسيًا مهمًا في سنوات ما بعد الحرب،‮ ‬وشاركت في قيادة الحراك الجماهيري الواسع الذي بدأ في أواخر عام‮ (‬1945‮)‬في الجامعات المصرية ووصل ذروته في عام‮ (‬1946‮)‬،‮ ‬وتواكب مع ظهور هذه التنظيمات نشأة تيار جديد في الوفد المصري،‮ ‬تيار الطليعة الوفدية الذي كان يميل ناحية اليسار ويتبني قضايا العدالة الاجتماعية والديمقراطية بمفاهيم جديدة أقرب إلي مفاهيم الديمقراطية الاجتماعية الأوروبية،‮ ‬وكان علي رأس هذا التيار الناقد والسياسي المجدد الدكتور محمد مندور‮.‬
ومثلما تفجرت ثورة‮ (‬1919‮)‬مع نهاية الحرب العالمية الأولي أعقب نهاية الحرب العالمية الثانية تصاعدًا في مطالبة الإنجليز بالجلاء التام عن البلاد،‮ ‬ومنح الاستقلال الكامل لمصر والسودان،‮ ‬وكانت فترة الحرب العالمية الثانية قد شهدت تحولات في الخريطة السياسية للأحزاب المصرية التقليدية،‮ ‬فقد شهد حزب الوفد،‮ ‬حزب الأغلبية الذي يحظي بتأييد شعبي حقيقي،‮ ‬انقسامات جديدة مؤثرة بانشقاق مكرم عبيد باشا وتأسيسه لحزب الكتلة الوفدية،‮ ‬بعد أن كان ماهر والنقراشي قد انشقا وشكلا الحزب السعدي،‮ ‬كما عاش حزب الوفد استقطابًا داخليًا حادًا بين الجناح المحافظ الذي يعبر عن مصالح كبار الملاك،‮ ‬والجناح الداعي إلي إصلاحات اجتماعية واقتصادية،‮ ‬الطليعة الوفدية،‮ ‬وفي نفس الوقت تصاعد نفوذ الأحزاب والحركات الجديدة التي تستند إلي مرجعيات دينية أو فكرية،‮ ‬مثل‮: ‬حركة الإخوان المسلمين ومصر الفتاة ذات الميول الفاشية،‮ ‬التي تسمت فيما بعد باسم الحزب الاشتراكي،‮ ‬كذلك التنظيمات الشيوعية‮.‬
كما شهدت تلك السنوات انتشار جرائم الاغتيالات السياسية والعمليات الإرهابية،‮ ‬والتي كان النصيب الأكبر فيها للجهاز السري لجماعة الإخوان المسلمين،‮ ‬وإن قام ببعضها مجموعات صغيرة من الشباب المتحمس المتبني لأفكار وطنية متطرفة‮.‬
في هذا السياق التاريخي نشأت الحركة السريالية المصرية وعاشت سنوات ازدهارها الأولي،‮ ‬نشأت في لحظة مد للقوي الرجعية وتطورت في سنوات الهدوء السياسي النسبي أثناء الحرب العالمية الثانية،‮ ‬ووصلت ذروتها مع تفجر موجة جديدة من الحراك الجماهيري الذي اتسم بمزج القضايا الوطنية بالقضايا الاجتماعية والمطالب الاقتصادية للطبقات الشعبية‮.‬
ففي أواخر عام‮ (‬1945‮) ‬طالبت حكومة محمود فهمي النقراشي الحكومة البريطانية ببدء مفاوضات جديدة لإنهاء الوجود العسكري البريطاني في مصر وتحقيق وحدة وادي النيل،‮ ‬وكان ذلك بناء علي توصية من‮ "‬الهيئة السياسية‮"‬،‮ ‬التي كان قد شكلها سلفه أحمد ماهر باشا قبل اغتياله،‮ ‬وكانت تضم زعماء الأحزاب السياسية،‮ ‬لكن الرد البريطاني جاء سلبيًا في‮ ‬26‮ ‬يناير‮ ‬1946،‮ ‬كان الرد يؤكد علي صلاحية معاهدة‮ ‬36‮ ‬للاستمرار،‮ ‬مع مماطلة واضحة في إمكانية تعديل بعض شروطها،‮ ‬وكان هذا الرد كفيلا بتفجير الغضب الشعبي ضد الوجود البريطاني في مصر والسودان،‮ ‬وجاءت الشرارة من الجامعة،‮ ‬فقد كان النشاط السياسي للوفديين خاصة المنتمين لتيار الطليعة الوفدية وكذلك للشيوعيين والمتعاطفين معهم في صفوف الطلاب متصاعدًا منذ بداية العام الدراسي في خريف‮ ‬1945،‮ ‬وكانت الدعاية الوطنية الممتزجة بالقضايا الاجتماعية الاقتصادية محورًا لهذا النشاط،‮ ‬وتشكلت خلال الحراك الجديد لجان وطنية تقود الحركة،‮ ‬وتضم ممثلين لقوي سياسية مختلفة متواجدة في صفوف الطلاب والعمال،‮ ‬وبلغت الحركة ذروتها في شهري فبراير ومارس‮ (‬1946‮)‬،‮ ‬وأثناء الحركة وبسببها،‮ ‬استقالت حكومة النقراشي وحلت محلها حكومة إسماعيل صدقي‮.‬
ورغم أن المظاهرات لم تسفر عن إنهاء الاحتلال البريطاني لمصر إلا أنها أرغمت بريطانيا علي سحب قواتها من المدن المصرية ما عدا منطقة قناة السويس،‮ ‬وبدأ الانسحاب في‮ ‬4‮ ‬يوليو بالجلاء عن القلعة وتسليمها للجيش المصري،‮ ‬وعلي صعيد آخر حظي صدقي باشا بدعم من أحزاب الأقلية وجماعة الإخوان المسلمين؛ وكان هذا من خلال اللجنة القومية التي شكلوها في مواجهة اللجنة الوطنية للعمال والطلبة،‮ ‬وكان الرجل يمهد سرًا للمفاوضات مع بريطانيا،‮ ‬ولما كان مشروعه للاستقلال ليس إلا استقلالا منقوصًا يسمح لبريطانيا بالاحتفاظ بقواعدها في مصر وبسيطرتها علي البلاد،‮ ‬فقد شن صدقي أكبر حملة اعتقالات عرفتها مصر في الحقبة الليبرالية في يوم‮ ‬10‮ ‬يوليو‮ ‬1946‮ ‬عشية احتفال القوي الوطنية بذكري الاحتلال البريطاني لمصر،‮ ‬وقد عرفت هذه الحملة بقضية الشيوعية الكبري واعتقل فيها العشرات من القيادات الطلابية والعمالية وعشرات من الكتاب والصحفيين،‮ ‬وكان الكثيرون منهم بعيدين تمامًا عن الشيوعية،‮ ‬مثل المفكر الكبير سلامة موسي والكاتب الصحفي الليبرالي محمد زكي عبدالقادر،‮ ‬وفي هذه الحملة أغلقت عدة صحف ومجلات ودور نشر وطنية،‮ ‬وكان واضحًا أن هدف تلك الحملة التي انتهت إلي لا شيء تمرير ما يصل إليه صدقي من اتفاقات مع الإنجليز،‮ ‬وبالفعل توصل صدقي في أكتوبر‮ ‬46‮ ‬إلي التوقيع بالأحرف الأولي علي مشروع معاهدة مع وزير خارجية بريطانيا بيفين،‮ ‬عرفت باسم اتفاقية صدقي‮ ‬بيفن،‮ ‬إلا أن الشعب رفض الاتفاقية،‮ ‬بل إن سبعة من أعضاء وفد المفاوضات أعلنوا رفضهم لها لما فيها من انتقاص لحقوق مصر،‮ ‬وسقطت الاتفاقية ومعها سقطت حكومة صدقي في ديسمبر‮ ‬1946‮ .‬
كانت السنوات السبع ما بين سقوط حكومة إسماعيل باشا صدقي بسبب الرفض الشعبي للاتفاقية التي وقعها بالأحرف الأولي مع أرنست بيفن وزير خارجية بريطانيا وتوقيع اتفاقية الجلاء سنة‮ (‬1954‮)‬سنوات ساخنة مليئة بالحراك السياسي،‮ ‬فقضية الجلاء ووحدة وادي النيل‮ (‬مصر والسودان‮) ‬تتصدر الواجهة،‮ ‬وتشكل ركنًا محوريًا في الدعاية السياسية لكل الأحزاب والجماعات والتيارات السياسية،‮ ‬سواء تلك الأحزاب التقليدية التي ظهرت خلال النضال ضد المستعمر منذ بدايات القرن العشرين مثل الحزب الوطني،‮ ‬أو تلك التي ظهرت عقب ثورة‮ (‬1919‮)‬وخرجت جميعها من عباءة الوفد المصري،‮ ‬بل حتي القوي السياسية التي تستند إلي منطلقات أيديولوجيا احتلت القضية الوطنية مكان الصادرة في دعايتها،‮ ‬وقد كان هذا أمرًا طبيعيًا في حركة استلهمت الفاشية والنازية مثل مصر الفتاة،‮ ‬لكن الأمر امتد كذلك إلي التنظيمات الشيوعية التي شغلت القضية الوطنية حيزًا كبيرًا من نشاطها ودعايتها السياسية رغم احتدام قضايا الطبقة العاملة والفلاحين في تلك الحقبة،‮ ‬وشمل الأمر أيضًا جماعة الإخوان المسلمين التي نشأت في مواجهة الحركة الوطنية،‮ ‬وظلت لسنوات تساند الملك في مواجهة الوفد الذي كان يقود الحركة الوطنية،‮ ‬وفي مطلع عام‮ (‬1947‮) ‬تجددت الاحتجاجات الطلابية،‮ ‬وكانت ضغوط الحركة الطلابية علي الحكومة من أجل اتخاذ موقف تجاه التعنت البريطاني يتزايد يومًا بعد يوم،‮ ‬ورغم أن الأشهر الأولي لوزارة النقراشي الثانية شهدت جلاء الإنجليز عن المعسكرات والثكنات العسكرية التي كانوا يشغلونها في القاهرة والجيزة والإسكندرية وآخرها ثكنات قصر النيل التي‮ ‬غادروها في‮ ‬29‮ ‬مارس‮ ‬1947‮ ‬ورفع الملك فاروق العلم المصري عليها في احتفال كبير يوم‮ ‬31‮ ‬مارس أعقبه بإيفاد مندوبين عنه لوضع الزهور علي ضريح مصطفي كامل وضريح سعد زغلول والنصب التذكاري لشهداء الجامعة في إشارة واضحة لأهمية الحركة الطلابية المصرية،‮ ‬وفي محاولة من الملك للتقرب إلي الحركة الوطنية المتصاعدة،‮ ‬تلك الحركة التي لم يكن يكفيها الجلاء عن هذا المعسكر أو ذاك،‮ ‬ولم تكن لترضي بأقل من الجلاء التام ووحدة وادي النيل،‮ ‬لذلك فقد اتجهت الحكومة إلي تدويل القضية المصرية بعرضها علي مجلس الأمن،‮ ‬وكان ذلك مطلبًا شعبيًا تجمع عليه معظم القوي الوطنية‮.‬
ويبدو أن هذا الوضع انعكس علي الحركة السريالية التي كانت تقف في مواجهة النزعة القومية في الفن،‮ ‬فالمناخ العام بدأ يتجه أكثر فأكثر ناحية النزوع الوطني،‮ ‬وفي هذه المرة كان نزوعًا وطنيًا نحو التحرر الوطني والاستقلال ممتزجًا بالدعوة إلي العدالة الاجتماعية،‮ ‬وليس كما كان عليه الحال في لحظة ميلاد الحركة نزوعًا وطنيًا شوفينيًا‮.‬
كما أن هزيمة النازية والفاشية،‮ ‬ونمو التيارات الليبرالية والاشتراكية الديمقراطية علي الصعيد العالمي،‮ ‬ثم ظهور المعسكر الاشتراكي تحت الهيمنة السوفيتية،‮ ‬كل ذلك أثر علي المناخ العام وانعكس علي الحركة السريالية‮.‬
لقد شهدت سنوات ما بعد الحرب تغييرًا كبيرًا في موازين القوي الدولية انعكس علي الوضع السياسي المصري،‮ ‬فمن ناحية سقطت النازية والفاشية والعسكرية الاستبدادية في ألمانيا وإيطاليا واليابان،‮ ‬واتجهت التنظيمات التي تأثرت بأفكارها في مصر إلي محاولة تغيير واجهاتها،‮ ‬فتحولت مصر الفتاة إلي الحزب الاشتراكي‮.‬
ومن ناحية أخري شهدت تلك السنوات صعود الاتحاد السوفيتي والمعسكر الاشتراكي،‮ ‬والاعتراف المصري بالاتحاد السوفيتي‮.‬
ومن ناحية ثالثة خرجت القوي الاستعمارية القديمة من الحرب وعلي رأسها فرنسا وبريطانيا خائرة القوي،‮ ‬وبدأت قيادة المعسكر الاستعماري تنتقل إلي الولايات المتحدة الأمريكية،‮ ‬التي كانت تتبع أسلوبًا مغايرًا لأسلوب القوي الاستعمارية التقليدية،‮ ‬وبدأ التوغل الأمريكي في ساحة السياسة المصرية من خلال دور صحفية جديدة،‮ ‬وضعت نصب عينيها الترويج للنموذج الأمريكي من ناحية،‮ ‬وتشويه الحركة الشيوعية والقيادة التاريخية لحزب الوفد من ناحية أخري‮.‬
كما شهدت تلك السنوات صعود حركات التحرر الوطني ضد القوي الاستعمارية في أنحاء مختلفة من العالم،‮ ‬ولعب الشيوعيون دورًا مهمًا في التعريف بحركات التحرر،‮ ‬والربط بين نضال الشعوب ضد الاستعمار‮.‬
وعلي الصعيد العربي احتدمت القضية الفلسطينية في هذه السنوات وبدأت تتحول إلي هم من هموم المصريين،‮ ‬وظهرت دعاوي القومية العربية تدريجيًا،‮ ‬كما تأسست جامعة الدول العربية،‮ ‬وأصبحت القضايا العربية حاضرة علي الساحة السياسية المصرية‮.‬
لقد كانت تلك السنوات سنوات للتغيير،‮ ‬مصريًا وعربيًا ودوليًا‮.‬
إذن كانت هذه لحظة الميلاد للسريالية المصرية،‮ ‬ولحظات تألقها،‮ ‬لحظة صعودها ثم تراجعها،‮ ‬كانت الحركة السريالية المصرية محاولة جريئة لتحدي التقاليد البالية والثورة عليها،‮ ‬محاولة للالتحام بتيار عالمي يواجه الدولة الاستبدادية وتدخلها لتقييد حرية الإبداع وتنميط الفنون والآداب،‮ ‬كانت محاولة لتحرير الإنسان بالإبداع الحر،‮ ‬واستمر تيار السريالية المصرية متواصلا حتي منتصف الستينيات رغم انتهاء جماعة الفن والحرية قبل أن تنقضي الأربعينيات،‮ ‬لتخبو تدريجيًا في لحظة تاريخية مغايرة،‮ ‬دوليًا ومحليًا‮.‬
السؤال الذي يطرح نفسه هنا لماذا تراجعت السريالية تدريجيًا في الخمسينيات والستينيات؟ لماذا تحول بعض روادها إلي التجريد،‮ ‬ولماذا لم تتكرر محاولة إنشاء كيان أو جماعة جديدة مثل الفن والحريّة أو جانح الرمال؟
‮ ‬هل يرجع السبب إلي طبيعة النظام الجديد الذي قبض علي الحكم بعد‮ ‬23‮ ‬يوليو‮ ‬1952؟ أم إلي تغيرات في المناخ الثقافي العام؟ هل بسبب الدور المتعاظم للدولة في مجال الثقافة؟
لقد جاء إنشاء أول مدرسة للفنون الجميلة سنة‮ (‬1908‮) ‬بمبادرة أهلية فردية من الأمير يوسف كمال،‮ ‬ورغم أن الدولة بعد عشرين عامًا تبنت تعليم الفنون الجميلة في مصر وأدخلته تحت مظلتها من خلال إشراف وزارة المعارف العمومية علي مدرسة الفنون الجميلة العليا منذ سنة‮ ‬1928،‮ ‬ورغم إلتفات الدولة في أعقاب الثورة المصرية وصدور دستور‮ (‬1923‮)‬إلي أهمية الفنون الجميلة؛ إلا أن الدولة كانت تتعامل مع الفنون الجميلة من خلال لجان استشارية تضم بعض الفنانين المصريين وبعض المهتمين بالفنون لوضع الخطط واقتراح السياسات،‮ ‬دون حضور ثقيل لها في المشهد،‮ ‬بل أنه طوال الحقبة الليبرالية كانت جمعية محبي الفنون الجميلة تقوم بدور المعاون في رسم سياسة الدولة في مجال الفنون،‮ ‬وفي إقامة المعارض وفي تأسيس متحف الفن الحديث‮.‬
وفي المرحلة التي أعقبت وصول الضباط الأحرار إلي السلطة في يوليو‮ (‬1952‮)‬بدأ عصر جديد في العمل الرسمي في المجال الثقافي بما في ذلك مجال الفنون التشكيلية؛ ففي أواخر عام‮ (‬1952‮)‬أنشئت وزارة للإرشاد القومي تداخلت في مجال العمل الثقافي،‮ ‬وتراجع تدريجيًا دور الجمعيات الأهلية والمجتمع المدني في الثقافة والفنون مثلما تراجع في المجال العام كله،‮ ‬خصوصًا بعد أزمة الديمقراطية في مارس‮ (‬1954‮)‬،‮ ‬واستقرار النظام الشمولي بصدور دستور‮ (‬1956‮) ‬والاستفتاء علي جمال عبدالناصر رئيسًا للجمهورية‮.‬
وفي عام‮ (‬1956‮) ‬أنشئت مصلحة الفنون التابعة لوزارة الإرشاد القومي،‮ ‬في الوقت الذي كانت فيه الإدارة العامة للفنون الجميلة تتبع وزارة التربية والتعليم،‮ ‬وظل الحال علي ذلك حتي عام‮ (‬1958‮)‬عندما أنشئت وزارة الثقافة والإرشاد القومي فضمت كل الأجهزة الثقافية للدولة بما فيها الإدارة العامة للفنون الجميلة التي تطورت علي مدار السنين لتصبح الهيئة العامة للفنون سنة‮ (‬1971‮)‬،‮ ‬ثم تحولت إلي المركز القومي للفنون التشكيلية في‮ (‬1980‮)‬ثم قطاع الفنون التشكيلية في الألفية الجديدة‮.‬
وفي نفس الوقت تم إشراك الفنانين والنقاد والأكاديميين في إدارة الشأن الفني من خلال لجنة الفنون التشكيلية بالمجلس الأعلي لرعاية الفنون والأداب الذي تأسس سنة‮ (‬1956‮)‬كمجلس استشاري لرئاسة الوزراء،‮ ‬ثم أُلحق بوزارة الثقافة والإرشاد القومي عام‮ (‬1958‮)‬بعد أن أضيف لاختصاصه مجال العلوم الاجتماعية،‮ ‬وكان دور المجلس ولجانه استشارياً‮ ‬في أغلبه،‮ ‬وفي عام‮ (‬1980‮)‬حل محله المجلس الأعلي للثقافة بسلطات أوسع،‮ ‬ومن ضمن لجانه لجنة للفنون التشكيلية،‮ ‬وظهرت بصمات الدولة علي الحركة الفنية من خلال نظام منح التفرغ‮ ‬ونظام الاقتناء،‮ ‬والذي أشرفت عليه لجان المجلس الأعلي لرعاية الفنون والآداب والعلوم الاجتماعية،‮ ‬وهي لجان‮ ‬غلب علي رئاستها وعضويتها في سنواتها الأولي جيل من الفنانين والنقاد التقليديين،‮ ‬كما ظهر دور الدولة واضحًا في تنظيم المعارض الفنية‮.‬
ورغم أن الدولة لم تعلن رسميًا محاربة السريالية والاتجاهات الفنية الجديدة،‮ ‬إلا أن الحركة النقدية والحركة الثقافية في الخمسينيات والستينيات‮ ‬غلب عليها طابع الصراع بين تيار تقليدي محافظ وتيار يتبني أفكار الواقعية الاشتراكية ودعوات الفن‮ "‬الملتزم‮"‬،‮ ‬وكلاهما تيار‮ ‬غير مرحب بالسريالية،‮ ‬بل كان الإحساس العام يسير في اتجاه معاكس وساخر ومستهجن للسريالية،‮ ‬الأمر الذي كان واضحًا في كتابات صحفية،‮ ‬وأعمال درامية وسينمائية تصور الفنان السريالي وتتحدث عن السريالية بصورة هزلية‮.‬
لقد ظهرت في الخمسينيات والستينيات أجيال جديدة من السرياليين المصريين،‮ ‬قدموا إسهاماتهم المنفردة في الحركة الفنية التشكيلية في مصر،‮ ‬ومزجوا بين الرؤية السريالية والبعد الشعبي المصري،‮ ‬لكنهم لم يشكلوا أبدًا تيارا أو كيانا فكريًا وفنيًا مثلما فعل الرواد الأوائل للسريالية المصرية‮.‬
أخيرًا،‮ ‬فرغم أن السريالية في مصر ظلت محصورة في إطار مجموعة من المبدعين من الأدباء والفنانين التشكيليين،‮ ‬إلا أنها شكلت بلا شك جزءًا مهمًا من الحركة الفكرية والثقافية في مصر منذ أواخر الثلاثينيات حتي منتصف الستينيات من القرن الماضي،‮ ‬كما ارتبطت بالحركات السياسية التقدمية في هذه الحقبة،‮ ‬وكانت أحد أشكال التفاعل بين مفكرينا ومبدعينا والتيارات الفكرية في العالم‮.‬


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.