بدا ذلك غريبا، ولم يتوقعه، طريق حديث رصفه الجيش زمن حرب الاستنزاف لوصل الوادي بالبحر الأحمر، يمتد عبر الصحراء الشرقية، في ذلك الوقت كان الساحل الممتد خاليا، تجمعات صغيرة متنائية، الزعفرانة فنار واستراحة ضئيلة، الغردقة قرية صيادين، ميناء محدود، رأس غارب مدينة أشبه بالمعسكر لخدمة شركات البترول، القصير ماضيه البعيد أثري من حاضره، كان مقصد الحجاج، يعبرون منه إلي جدة ثم مكة، صحراء قفر، تلال صخرية مختلفة عن رمال الغربية الناعمة المتموجة مع أنه لايفصلهما إلا النيل، لذلك بدأ ظهور رجل يرتدي جلبابا أبيض، يتدلي من كتفه خرج من قماش يشبه قلوع المراكب باعثا علي الدهشة، أشار إلي جانب الطريق الأيسر، توقف السائق الذي نزل من العربة غير أنه لزم، لم يتبعه وإن بقي إلي الجوار، خلاء يبعث علي الخشية، حركة نادرة إلا إذا عبرت قافلة عسكرية، إنه زمن الحرب وجميع الاحتمالات مفتوحة، يقطع الأمتار القليلة بسرعة متمهلة، تماما كان يخطو الرجل الذي لم يستطع تحديد عمره في البداية، تكوينه لشاب، قامة مستقيمة وكتفان عريضتان غير ان التجاعيد تبدو مع الاقتراب، من مسافة خطوتين، نطق بالسلام، أومأ ولم يجب، عيناه ضيقتان، يطل عبرهما شجن كثيف لايتفق مع حيوية القوام ومتانته، هوي قلبه إلي جهة لا يمكنه تحديدها، يشبه أباه بدرجة ما، غير أن ما لمحه ونفذ إليه تغير بعد لحيظات، لم يتوقف ليخاطبه، إنما استمر بنفس خطوه، اضطر إلي محاذاته، سأله عن الوجهة فأشار إلي اللاجهة، إشارة يصعب تعيين وجهتها، قال "إلي هناك.." تجاوز السائق الذي ظل ملازما مكانه، ناظرا إلي الطريق الذي قدم منه، سأله مرة أخري، "أين هناك؟"، أجاب "هناك.." استفسر عما إذا كان ممكنا أن يصحبه، لم يتطلع إليه، إنما خيل إليه أنه أطرق أكثر، لم ينف ولم يقبل، غير أنه لم يتوقف عن الخطو ليلحق به، غمره حضوره الغامض، حتي إنه لم يلتفت إلي الوراء ليتأكد من قرب السائق والعربة، مازالا في مرمي البصر، لا يدري هل نطق الرجل أم خيل إليه، لكنه متأكد من معني ما وصله يطلب منه أن يلزم الصمت، ألا يكثر من التساؤلات إلا عندما يحين الأوان، أي أوان هذا؟ إلي أي وجهة؟ لايعرف، ماهيمن عليه أن يتبع الرجل الذي بدا له مألوفا جدا، حتي كأنه يري والده، في نفس الوقت غير معهود بالمرة، نافر عن كل مرجعية، ما يصغي إليه خطوهما، كأنه قرع طبل صغير يطرق سطحه بأطراف الأنامل، يثق من وجود النغم لكنه يجهل المصدر، لا يدري أين قرأ عن دراويش يهيمون علي وجوههم في الصحاري والجبال ملبين الجذبة، سمع من صاحب له عن سبعة رهبان سائحين لا إقامة لهم، حتي بابا الكنيسة القبطية يجهل أماكنهم، لا يقيمون في موضع ، يفارقون بمجرد حلولهم، هل يكون أحدهم؟ بعد مسافة من ثلاث إلي أربع ساعات بالسيارة، جهة اليمين، دير الأنبا بولا وعلي مقربة منه الأنبا أنطونيوس، عندما قطع الطريق أول مرة حيره موضعهما، كيف بلغاه في هذا الزمن القصي؟ كيف قطع كل منهما المسافة بمفرده؟ كيف أدركا وجود عين ماء هناك، هناك في موضع أشد نأيا وافت المنية أبا الحسن الشاذلي في حميثرا، لم يبلغها بعد، كيف قطع المسافة الوعرة بمفرده، يثق بشكل ما أن الرجل يصله ما يدور عنده، يقطع الطريق متوازيا منه، متجها إليه بكليته حتي انه لم يفكر في تداعيات غيابه عن المهمة التي خرج من أجلها، يتساءل بدهشة: هل توقع ذلك؟ لو أخبره من يثق به أمس عما يلاقيه الآن لسخر منه ونأي عن جانبه، الآن لايعنيه إلا اقتفاء أثر من يقوده إلي حيث لايدري، غير عابيء به، لم ينطق إلا لفظا لاغير، يشك أنه قاله، وصله بطريقة يجهلها، ليست في حسبانه، لم ينتبه إلي دخوله مدقا ضيقا يرتفع قليلا عن مستوي الطريق إلا بعد أن أوغل ونأي، ضوء لايعرف إلي أي مرحلة من النهار ينتمي؟ كأن الغروب علي وشك، لكنه ليس بغروب ولا شروق، هل مازال يمضي في الصحراء الشرقية؟ يصعب عليه التحديد، أي ضوء هذا؟ ما مصدره؟ لماذا يتبدل ملمس الأرض؟ لماذا يري تضاريس الصحراء من أعلي مع أنه لايطير؟ إذ بلغا مفترقا يتقدمه بخطوة، يتوقف: ألا تخطو معي؟! يبلغه مالا يسمعه، يدرك بشكل ما، مرة أخري، "هناك.." يشير إلي اللاجهة، ليس بوسعه إلا أن يلبي، أحوال تتري عليه، يخف ويشف، يصل إلي حافة مرتقي يشبه الصخر لكنه ليس بصخر، لا يعرف أي مادة تلك، غريب عنها وغريبة عنه، يلمح هناك في منطلق الفراغ بوابة غير متصلة بأي شيء يتصل ببناء، فقط جزء من جدار غير ممتد لونه سماوي فاتح، أعلي الباب مستطيل مدرج بارز أقرب إلي البرتقالي، أما الباب نفسه، عينه فأزرق محيطي، كأنه يري جزءا من الماء اللا نهائي عند عمقه الأقصي، يتراءي له باب شبيه شاهده يوما عندما وصل إلي مشارف مدينة مغربية معلقة قصدها لأن بنية لطيفة مبهرة بأندلسيتها الصافية تعلق بها قدرا من الوقت، ولت بغتة ومضت سرعة يا الله! حتي يبلغ المدخل لابد من عبور باب قائم في الفراغ، الباب دائما مدخل يؤدي الي شيء، غير أن هذا باب لايؤدي إلي أي شيء، تعلق بهذا الشوفشاوني وأضمر النية علي العودة إليه ليصل الزنقة التي ولُدت بها البنية التي آنسته زمنا وأنس بها، لم يعد قط، هاهو باب مماثل، شبيه، يقوم حيث لا عرض ولا طول، لا علو ولا سفل، لا غلظة أو نحولا. يعبره كأنه يطفو، أين كان ينتظره هذا كله؟ عندما خرج صباح ذلك اليوم الذي لم يبلغ غروبه هل توقع هذا؟ هل مازال السائق شاخصا مكانه ينتظر أوبته؟ إلي أي الجهات مضي الساعي الذي تبعه وأدي به إلي حيث لا يمكنه تحديد وجهة أو تعيين الفارق بين الأصل والظل، بل إنه لا يدري أيهما؟ يتبدل إلي أحوال، يتجسد له جميع ما يخطر له، تماما كما يهوي، حديقة شاسعة جمعت جميع ما عاينه أو قرأ عنه من شجر اللبان إلي أغصان تحمل تلك الفاكهة التي لم يعرفها إلا في سهوب آسيا، وتين الصحراء وتوت ينمو تلقائيا مذاقه عسل مصفي وتمر غرداية الشفاف مثل الكهرمان، بوركت يا دفلي نور، لا يبذل جهدا، لا يمضغ ولايبصق النواة المستعصية علي البلع، بمجرد خطرة الفاكهة أو رقرقة اللبن الفائر من الضرع للتو يدرك مذاقه، جميع ما يرغبه يسعي إليه، إذا استدعي وقفة عند شاطيء الماء الأعظم يمتد البر ويعمق العمق، يتنسم ويصفو، تطوي له المسافات فيقبع، يرغب المد فتنبسط الجهات ويقطع، لا يري غيره لكن يعي وجود آخرين، لا يراهم غير أنه يدركهم باللاحواس، لا يسأل إلا وتهفو الإجابة، هو الصوت، هو الصدي، هو ما يستعصي عليه وما يسهل، أين كان ينتظره هذا كله؟ أي وجود شفيف؟ غير أنه يستفسر عن لحظة يري فيها من يعرف، يستأنف إلي مقصده، يؤدي ما كلف به، غير أنه لايلقي إجابة، تدركه خشية قديمة، ما يمر به لم يعرفه، لم يلم به، يتمني ان يصرخ، يريد ملمس الأشياء وليس نسائمها، يرغب في الإحاطة، عناق ما تدركه حواسه، إيلاج ومغادرة وليست تلك الراحة التي تدركه كلما تاق إلي مطلوب أو ظميء إلي مرغوب، لا يلقي إجابة أو إيضاحا، غير أن معني يلوح له بدون نطق أو همس، لقد بلغ اللاهنا في غمضة عين بلزومه ذ لك الجوال الهائم، في لحيظة مما يعرف من قبل اللاقبل، طويت له أكوان، الكل يبلغ ولكنه لايرجع، إنها اللامسافات التي يستحيل قياسها، يلتفت فلا يدري يمينه من شماله، لا جهة تعينه أو تدله إنما وحشة لم يألفها وضوء ناعم لايتغير ولايتبدل، سار أبدا به وبدونه. تراجعت الطبيبة الشابة إلي الخلف فوق مقعدها، قالت إن نتيجة القياس مقلقة، الاستخدام الخاطيء للسماعة بشقيها أتلف الأعصاب. صمتت لحظة ثم قالت بصوت أهدأ، محايد مثل الأجانب الذين تعلمت منهم، أمامك عدة شهور.. ثم أوضحت "لن تزيد عن ستة شهور.." أطلت النظر إليها، جميلة، عندما ألتقيتها أول مرة صافحتني، نطقت اسمها رغم أنه مكتوب علي مدخل العمارة، وعند باب العيادة، وفوق المكتب، تبعته قائلة "مطلقة.." لم أبد دهشة وإن حيرني، ذلك فما تلا، أهي دعوة أم توصيف حال بتأثير هزة، متناسقة، ألوفة وإن قام دونها حاجز غير مرئي، أقرب إلي الحس. قصدتها عن طريق صاحب مشترك، تخصصها نادر، لايعمل به إلا خمسة أطباء، أو ستة، تناسق منغم يصل عينيها بأنفها المحندق وشفتيها الممتلئتين، كيف لم أنتبه إلي الشامة علي وجنتها اليسري، كأني أراها لأول مرة، كأنها لم تخبرني بفقد سمعي خلال شهور معدودات. عند إجتيازي باب العمارة الخلو من أي حراسة توقفت، بل تجمدت حركتي فجأة، قدمي اليمني إلي الأمام واليسري إلي الخلف. ما خشيته يتحقق، ماسمعت عنه للآخرين يجري لي. سأصير أصم، عندما بدأ العرض تصورت أنه سيزول، غمامة خفية تحجب الأصوات عن اليسري، بعد حين تسربت إلي اليسري كنت أتحدث إلي صاحب حميم، فوجئت به يستفسر: هل تعاني مشكلة في السمع؟، قال إن هيئتي تدل علي ذلك. قلت إنني أستخدم سماعة بالفعل، قال إن اصغائي كان أفضل قبل سفري الذي غبت فيه ستة شهور، صحبني صديق مقيم إلي شركة متخصصة خرجت منها بواحدة لكل أذن، تقول الطبيبة المطلقة إن المشكلة بدأت من هنا. أصم؟ تبدو الطبيبة صريحة مثل الأجانب، لاتجمل ولاتخفف، يمكنني التفاهم مع الآخرين، بالإشارة، بالكتابة. لكن ماذا عن الموسيقي، لم أنل منها حظي، عندي نهم إلي أنغام لم أعرفها بعد وأخري اعتدتها وأتوق إلي استعادتها، أتفحص التسجيلات، علي الأشرطة التي أصبحت عتيقة، أعتني بجهاز يمكنني من الاستماع إلي ماتحويه، أتفحص الأقراص الممغنطة، أنحي جانباً مايجب الإصغاء إليه، موسيقي من الصين، سماعيات وبشادف وموشحات عربية، تركية، مقامات عراقية، آذرية، كيف أنأي عن سماعي رصد؟ كيف لا أتزود علي فترات متقاربة بوصلة من مقام نهاوند؟ هل أطيق ألا أصغي الي "رق الحبيب"، حفلة مسرح الأزبكية، يناير عام اثنين وخمسين تسعمائة والف، فيها بلغت أم كلثوم الأقاصي؟. في السنوات الأخيرة اقتنيت تسجيلات مرئية، أطرب لحركة يديّ هربرت فون طرايان، وإشارات روبنشتاين، كيف؟، كيف؟ عدة أسابيع لا أقدر علي الاستيعاب، أنام وأقوم متمنياً محو كافة ما مررت به، حتي لقاءاتي بالطبيبة المطلقة والتي أكدت لها أن الأعصاب تهن بأسرع ماقدرت، معها حق، الغمامة تتكاثف. بدأت الإصغاء، قصرت أويقات نومي، حتي أثناء تناولي زادي أدير المؤشر إلي الحد الذي يمكنني من الإصغاء، لزمت البيت نهاراً، أتزود بأقصي ما أقدر عليه، في الليل أخفض الصوت، أستعين بسماعة اعتدت استخدامها في الطائرة، تلغي ضجيج المحركات، أمر ببعض الفضائيات، في الركن التحتي سيدة أو رجل يقرأ الأخبار بالإشارة. لم يخطر لي قط من قبل أن هذا سيكون لي يوماً، عليّ التعجيل بإتقان اللغة غير المنطوقة، الحاجة تلبي متطلبات الوقت في عمري المتقدم، لكن ماذا عن الموسيقي؟، أتشوف إلي ارتواء مستحيل بلوغه كلما تسامكت الغمامة، أشارف الحد الذي يغمرني فيه الصمت. غير أنني أدركت أمراً، مع تزايد الهوه بيني وبين الأنغام المستقاة بدأت أعي ما لم أستوعبه في البداية. ثمة موسيقي أخري، لا.. ليست أخري. إنها موسيقاي، لكنها لاتصدر عن مذياع أو قرص مدمج أو حاسب آلي. مني، مني، ليس بالضبط، من أفق ما يصعب تحديده، ليست مقطوعات لها أول مختتم، إنما أنغام تسري، تتوالي، لاتمت إلي منشأ، تنبع من اللا أين، يشق عليّ التحديد أينما وليت، هذا مقام صبا يرفرفني، يأخذ عليّ جهاتي، ما أصغي إليه ليس إلاي.. من (حكايات هائمة).