ما الذي يجعل طفلا في الصف الأول الإعدادي يقرر الهجرة بعيدا عن بلده وأهله والإبحار بمركب رشيد نحو المجهول؟ وما الذي يدفع أهله لبيع كل ما لديهم بيعا أو رهنا ليعطوه لمعدومي الضمير ليسلموهم إلي مراكبية قُساة غِلاظ القلوب بمراكب متهالكة وسط أمواج هادرة وظلام دامس، وموت مُنْتظر؟ وكيف كانت مشاعر أهلهم، وأطفالُهم يغادرون للمجهول وهم يعانقونهم ويعرفون أن الموت ربما يكون في انتظارهم في البحر أو في معسكرات استقبال اللاجئين إن نجوا من أهوال البحر؟ وكيف سار الأب ممسكا بطفله في الظلام ليسلمه للنخّاس الذي قبض كل ما يملكون، ووقَّعوا له علي شيكات وكمبيالات مؤجلة وواجبة السداد؟ كيف كانت مشاعر هذا الأب والأم وهم يستمعون إلي أول اتصال من ابن هم في عرض البحر وهو يصرخ »يا بابا أنا ب اغرق، المركب بتغرق يا با......» ولم يكملها هذا الطفل ولن يكملها لأنه ترك مصر إلي البحر ليفوز بحياة كريمة بجوار الله... والأب لا يعرف ماذا يفعل.. هذا الطفل الغريق كان من المفترض أن يجلس علي مقعده في الصف الأول الإعدادي، لكن سيظل مكانه بالفصل شاغرا، وسيسأل عنه رفاقه ولا إجابة؛ لماذا هاجر؟ لأننا لم نوفر له حياة كريمة، لأننا فشلنا في أن نوفر له مستقبلا يؤمّن له عملا شريفا وتأمينا صحيا وإعانة بطالة، لأننا لم نؤهله نفسيا وثقافيا واقتصاديا وتعليميا ليبدأ حياة متفائلة، لقد بكي العالم وبكينا معه علي منظر جثة الطفل إيلان الكردي ونسينا أن آلافا من أطفالنا وشبابنا يلقون حتفهم مثله، ربما لا يبلّغ أهلهم الشرطة خوفا من التحقيقات ويكتفون بالحزن المكتوم. هل كانت الأجهزة التنفيذية في انتظار عودة الرئيس من نيويورك حتي تتحرك؟ القوانين المانعة للهجرة ليست الحل الوحيد، ولكن البحث عن أسباب عقد النية لمئات بل آلاف من شبابنا علي الهجرة بعيدا عن الوطن تعد بداية ملحة لوضع حلول عملية لأسباب الهجرة وهذا أول طريق الحل. ربما لا يدرون حجم المعاناة هناك في أوربا ففضلوا الغرق وأمل النجاة علي انتظار الموت والبطالة المتفشية في الصعيد والدلتا. فلنكن صادقين، هؤلاء الآباء والأمهات الذين افترشوا شاطئ البحر في انتظار جثث أبنائهم لديهم قلوب، ولديهم حنان ومحبة لأبنائهم، لكننا لم نقم بدورنا، فقاموا هم بدورهم، بعيدا عن الصواب والخطأ. اتفضل أبويا عندما دخلتُ إلي مكتبي بجامعة بون بألمانيا وجدت إعلانا علي المكتب»والِد اشتيفان مات» واشتيفان هذا من أعز أصدقائنا وهو مستشرق محايد وودود، توجهت لمكتبه معزيا،وسألته عن موعد تشييع الجنازة فقال لي: يوم الأحد القادم، وكدتُ أن أقول له اليوم الإثنين، فكيف سينتظر أبوك حتي الأحد، لكن يبدو أنهم لا يودون تعطيل أعمالهم،وينتظرون حتي العطلة يوم الأحد، وأعطاني عنوان التشييع بمدينة كولن القريبة من بون، وكان اشتيفان يمارس حياته بقية الأيام بشكل طبيعي يأتي وينصرف في موعده كل يوم، لبستُ الملابس السوداء واتجهت يوم الأحد صوب العنوان المحدد في كولن، فوجئت بلافتة صغيرة معلقة عليه »محرقة الموتي» دخلتُ في صالة انتظار كبيرة ووجدت اشتيفان وأمه وزوجه وأخته وبعض أقاربه وزملاء الجامعة،وجلسنا ولم أنطق بكلمة، كان الموقف مُدهشا لي، وبعد نصف ساعة تقريبا خرج أحد الموظفين ونادي علي اشتيفان وأمه فدخلا، وما هي إلا دقائق حتي خرجا وفي يد اشتيفان بوتقة صغيرة ذكرتْني بالقُلة القناوي أو »البُكْلة» وَوقفنا جميعا ولأن اشتيفان لاحظ ارتباكي فدنا مني وقال لي: أمسك، وناولني البُكلة قائلا »تفضل أبويا»، فقد أوصي قبيل وفاته أن يُحرق، ونفذنا الوصية، حملتُ البوتقة وأنا أكاد أرتعش، ثم ناولتُها لمن يقف بجواري الذي احتفظ بها دقيقة ثم ناولها لمن يليه حتي لفَّت علي الجميع، ثم عادت مرة أخري لاشتيفان، وتذكرت كيف كان يجب علي كل من شارك في تشييع أية جنازة في قريتنا أن يؤاجر »بمعني أن يحمل نعش الميت لبضعة أمتار»، ويأتي غيره ليحمل النعش بدلا منه ويتبادل القوم حمل النعش حتي المقبرة، وخرجنا إلي مطعم قريب؛ فتكلمت الأم عن ذكرياتها مع زوجها ثم تحدثت الابنة وبكَتْ وهي تفتقد أباها الذي كان في البوتقة أمامها، ثم تحدث اشتيفان وبعض أصدقائه،وطلب كل منا ما يود من طعام علي حسابه الشخصي، وودَّعناهم،وعدت لبون وأنا أتساءل كيف يحدث هذا؟، وفي المساء فاتحتُ أصدقائي فيما حدث، وابتدأت التفسيرات؛ قال أحدهم طالما رغبته فيجب أن تُحترم فربما وقع تحت تأثير الفلسفة الهندية، وقال آخر: القبور غالية، ثم اتجه نحوي وقال: في بون غالية جدا ولا توجد قبور للبيع وإنما للإيجار، وعندما رأي اندهاشي أردف: بعض الناس يستأجرونها لمدة عام أو عامين أو خمسة، لكن ذلك عبث، لأنه لن يتبقي منا شئ ندفع إيجارا له بعد عام، وهناك مقابر »وَقّافي» بمعني أن الدفن يتم رأسيا وليس أفقيا، وبذلك تكون المساحة المستأجرة قليلة في حدود متر فقط أوأقل من متر ؛ وعدت لأفكر كيف سيظل الميت واقفا حتي بعد موته، وحمدتُ الله. الكتب المدرسية والملخصات كم من الملايين بل المليارات أنفقتها وزارة التربية والتعليم في تأليف الكتب المدرسية وطباعتها وتوزيعها للطلاب الذين يتسلمونها ولا يلتفتون إليها؛ ويركضون في طوابير لشراء الكتب والمذكرات والملخصات الخارجية التي تلتهم ميزانية البيوت المصرية مع تكاليف الدروس الخصوصية! ولو فكرت الوزارة في عمل استبانة لأخذ رأي التلاميذ والطلاب لعرفت - ما تعرفه مسبقا - عزوف التلاميذ والطلاب عن الكتب الحكومية لرداءة الغلاف وصعوبة المحتوي وعدم إدراج الألوان والرسوم التوضيحية والجداول وعدم حل التمارين وإدراج أسئلة المحافظات السابقة، وهي ملك للوزارة لكنها تترك طباعتها لمؤلفي الكتب الخصوصية، يضعونها في نهاية كتبهم، بينما كتب الوزارة في معظمها تخلو من كل ما سبق، فإذا كانت الوزارة تعرف ذلك فلماذا لا تتفق مع مؤلفي هذه الكتب ويأخذون مقابلا مجزيا ويؤلفون للوزارة وتوزع الوزارة الكتب الخارجية وتتحول لداخلية، أو توزع الكتب علي »D ونوفر الورق والتعب، أما إذا كان الأمر لأسباب أخري لا نعلمها، فأظن أن الدولة لا يوجد بها ترف تأليف أطنان من الكتب بالمليارات وتُرمي أو تباع لبائعي الطعمية وسندوتشات الفول، وبالمناسبة فبعض كتب الوزارة عليها أسماء مؤلفيها، وهم أكثر عددا من وحدات دروس الكتاب، فَلِمَ هذه الكثرة؟، وبعضهم لا علاقة له بالتأليف، ولا بالمنهج، هل نزيد؟ هذا يكفي ! انتصار عبدالفتاح وسَماع هذا المجذوب بحضرة هذا الحب، المعجون بعشق الكون، المجنون بليلي حين رآها، كم فرحت بنجاح مهرجان سماع الدولي للإنشاد والموسيقي الروحية في دورته التاسعة، وأشعر أن الفنان انتصار عبدالفتاح يقوم بما تعجز عنه وزارات بأكملها، فهذه الوفود التي تنشد الحب والقادمة من شتي دول العالم، وليس مقصدها سوي التسامح والحب والسلام، جاءت إلي مصر، فالتفّ شعب مصر صفوفا في القلعة وفي شارع المعز، حتي يستمتعوا بأدب السماع الذي يراه القوم سُلم الوصول والوجد والطريق نحو المحبة والسلام. وكان شاعرهم يقول: وقلْ للذي ينهي عن الوجدِ أهلَه/إذا لم تذقْ معني شراب الهوي دعنا/ لقد نَشّطَ السياحة وجعل الإعلام العالمي يكتب عن مصر بما تستحقه حتي تعود مصر بلد التسامح والإخاء. كل التحية للفنان انتصار عبدالفتاح والقائمين علي هذا المهرجان وتحية إلي زوجه سهام اسماعيل التي تتحمل الكثير من أجل سماع انتصار وهو يهديها ويهدي مصر هذا النجاح. وأتساءل: متي يخرج »سماع» إلي الدلتا والصعيد؟ ومتي نجد المنشدين الكبار في القلعة وميادين مصر، فمصر أحوج ما تكون الآن إلي التسامح والسلام الاجتماعي. السُّعار المجتمعي تفشت ظاهرة أسميتُها »السّعار المجتمعي» ومظاهرها الجشع والاحتكار واستغلال العملاء، فلو استقدمت فنّيا فإنه يغالي في أتعابه بطريقة لافتة، ولو اشتريت من بائع سلعة فقد تأتي غدا ليبيعها لك بضعف ثمنها، والمشكلة أن الجميع يود أن يكونوا من أصحاب الملايين في أول صفقة، ومن أول يوم، والمدارس تغالي في مصروفاتها، والجميع يتحجج بالدولار وارتفاع أسعاره، وكأن الشعب يأخذ راتبه بالدولار، ويفكه بالجنيات الوفيرة، والغلاء يضرب الأسر المصرية، وكأنه يدفع الجميع نحو استغلال الجميع. هل يحلل لنا علماء الاجتماع وعلم النفس هذه الظاهرة قبل أن تصيب الجميع؟ وهل نطبق القانون علي المضاربين والمحتكرين والمغالين دون استثناء ودون هوادة، لأن تطبيق القانون طوق نجاة للجميع؟ أول يوم دراسة كانت ليلة أول يوم في الدراسة تعد عيدا لنا، حيث قَبْلها يأخذنا أبي رحمه الله لشراء ملابس المدرسة من شركة بيع المصنوعات المصرية التي تحولت للزوم التطوير والعصرنة إلي شركة بيانكو! ونشتري الأحذية من شركة باتا التي اختفت بفعل الزمن، لتحل محلها الأحذية الصيني والتركي وكأننا لا نستطيع أن نصنع شباشبنا وأحذيتنا، متي نثق في منتجاتنا المحلية؟ وتعود صناعة الجلود المصرية إلي سابق مجدها؟ وكان طابور الصباح متعة فنستمع إلي توجيهات ناظر مدرستنا الأستاذ رمضان الطويل رحمه الله الذي كان رفيقا في خشية، وشديدا في رحمة، ونستمع إلي نصائح الأستاذ عبدالفتاح آدم متعه الله بالصحة وهو يتحدث في بلاغة لسان وفصاحة بيان شارحا ومُربيا، ثم يُلقي الطلاب الشعر والحِكم والقصص، ثم الموسيقي والرياضة، ونمضي إلي فصولنا في حب للعلم والمدرسة. وكم أتعجب كثيرا عندما أتذكر كيف كان مُدرّسونا يعطوننا حصصا إضافية قبل طابور الصباح وبعد الانصراف دون مقابل مادي! لكن كان مرتب المدرس يكفيه لحياة كريمة ودور مجتمعي رائد.. أشياء مدهشة لفت نظري في أسماء محطات المترو بالخط الأول تجاور محطات الزهراء والملك الصالح وماري جرجس والسيدة زينب في قرب وتلاحم ينبئ بالانصهار والقوة. مايزال خطيب الجمعة بمسجد في الشارع الذي أسكن به يردد علينا كل جمعة »اللهم رُدّنا إلي الإسلام ردّا جميلا» ويتساءل المصلون في أنفسهم: وهل خرجنا؟ وأتذكر خطيب قريتنا التقيّ الشيخ عبدالحليم الطاهر رحمه الله الذي كان يردد علي مسامعنا ونحن صغار في نهاية خطبته :»اتقوا الله فقد كفي ما كانْ، اتقوا الله وسَلوه إصلاحا وتنظيما، اللهم أصلح أحوالنا...» وشتّان بينهما. في تقرير علمي دقيق أجراه الدكتور نبيل عبدالفتاح عن قرية سيدة المنيا ذكر أنه بزيارة القرية لا يوجد بها أي مركز ثقافي أو مركز شباب. كانَ لي كان لي بيتٌ، ومزرعة، وقلبُّ كان لي خِلٌّ.... ولي أهل وصحبُ... كان لي وجهٌ يسامرني ولي ظل يتابعني وأنفاس.... وأحلام تراودني. ولي بصرٌ... ولي جفنٌ... وهدبُ كان لي صوت يحادثني فأسمعه ولي شفتان... لي أذنان.... لي حس... وقلبُ... أحس بما يعانيه، وأشكو الحزن من نبضاته حينا فيركع نحو محرابي ويعترفُ كان لي نهر علي جنباته غنيت يخجل حين أنعته يداري وجهه حينا... وينكشف... كانت لي هنا بئر بها خبأت ما قد مر من عمري وحين أريد ذاكرتي سألقي الدلو في بئري وأغترفُ.... كان لي فَرَسٌ إذا ما تهت في البيداء، يأخذني لقريتنا وعند نخيلنا يقفُ كان لي أمل بطول الكون أرسمه ولا أصفُ... كان لي اسم أسابقه. فيسبقني ولي علَبٌ... ولي حلوي.... وثوب كان لي وطن... إذا ناديت يا وطني يجيء براية المنصور ينقذني... وإذْ ما جاء طوفان فلي فلك... وشعب... كان لي... ما كان لي شيء فلا حيّ أنا... كلا... ولا يُقضي لي النَّحبُ كان لي... ما كان لي شيءٌ فهل أهذي.... أشكّ الآن أني جئت في الدنيا وأن قصيدتي تلك التي - الآن- تقرأها - يخامرني - بأني قلتها - شكٌّ وريبُ !! قال صلاح عبدالصبور: معذرة يا صحبتي، قلبي حزين من أين آتي بالكلام الفرح؟