الأستاذ سعد مكاوي كاتب لم أكن قد قرأت له قبل الآن كلمة واحدة، وأقول الحق أنني عندما دفع إليّ أحد الأصدقاء بروايته "السائرون نياما" تناولتها مترددا.. ولكنني ترددت أخيرا علي ترددي ،وأقنعت نفسي بأنها فرصة للتعرف علي كاتب مضت عليه سنوات طوال وهو يمارس المهنة الشاقة.. وما إن شرعت في القراءة حتي شعرت بأن ثمة مفاجأة في الطريق، فهاهي "مصر" في فترة من فترات تاريخها الطويل المتخم.. فترة حكم المماليك لها ،حيث دسائس القصور وتوالي السلاطين وبطش المماليك وتخنث الصغار..حيث الجواري والغلالات الدمشقية ..والأجساد العارية، والأدخنة الدوّارة الخضراء في القاعات المغلقة .. وحيث هذا العالم الأكول النهم يقتات علي حساب أمة بأسرها، أمة الكاظمين الغيظ واللاعقين الوهم والمفضوضة بكارتهم "السائرون نياما". إن السلطان "يلباي"ينعي خيبته الجنسية مع سلطانته الشرعية الحسناء، فيأمر بأن يأتوا له بعشرة من المساجين المكبلين يتسلي بتذبيحهم، ولا يكون قد مرّ علي اعتلائه العرش أكثر من شهرين حتي يكون "خير" بك الدويدار ومملوكه "أحمده" الذي تغار منه الجواري قد عمل علي خلعه وتنصيبه "تمرغا" سلطانا محله. وفي خط آخر مواز من الأحداث استطاع الكاتب ، بقدر عظيم من الحيوية والإتقان، وقدر أعظم من الإستيحاء، أن يقدم لنا مجموعة نادرة من الشخصيات المتباينة، وأن ينسج شبكة دقيقة من العلاقات والهموم الصغيرة الفردية التي تشكل في النهاية هما كبيرا فاجعا، الشيخة "زليخة" صاحبة النبوءة، الشيخ "عباس" مضحك الوالي ، التائب الذي يقضي أيامه الأخيرة في العناية بحمامة عرجاء.. "أيوب" صانع النعوش الذي قتله المماليك وصبيه "يوسف" الذي يصير رجلا في نهاية الرواية ويشارك في يوم الثأر الكبير.. وخالد الذي يصرخ في مكان آخر بأن المماليك هاجموا النساء في حمام الخيامية وخطفوا أخته الغالية "عزة". والذي يهرب إلي قرية "ميت جهينة" حيث تواسيه الشيخة "زليخة" قائلة قبل موتها :"أينما تولي وجهك فثمة وجه عزة.. يدها في البحر، وقدماها في أرض الصعيد وملء البر أنفاسها الطاهرة.. وتروح تلك الجملة الموحية الملتاعة تتردد عبر السنين ،ويروح الطاعون يأكل في الفئران والناس. ونذهب إلي ميت جهينة.. إن "محمدا" ابن فاطمة زوجة غالب، والصبية "نور" ابنة محسنة ، عاشقان صغيران .. ولكن حدث في القديم أن الملتزم "إدريس"الذي يرعي ميت جهينة لم تفته فتاة واحدة من فتيات القرية.. الولد "عمر" ابنه إذن ، وكذلك البنت "نور".. ذلك هو السر في تلك المعارضة القاسية التي يلقاها هذا الأمل في الزواج..كيف يتزوج الأخوان؟ حكاية طار ذكرها في الصعيد إلي آخره. ولكن ميت جهينة التي لقحت بالعار والهزيمة ، قد حبلت بالثأر. فهاهم الرجال يتجمعون في الطاحون القديم حيث يتنفسون الغضب.. وفي إحدي المرات يدهمهم "حمزة" ابن الملتزم"ادريس".. الشاب صاحب السوط الذي ورث عن أبيه مهنة انتهاك الأعراض الرخيصة. وطقت الشرارة ،وزعقت في الطاحون الدماء الهائجة.. ويعود ابن الملتزم إلي أسوار أهله وهو مقلوب بالعرض فوق سرجه ودمه ينزف. وبدأت الأرض تشغي بالناس ،واقترب الوعد .. الفأس في يد محمد، كتفه في كتف أمه فاطمة ،والسكين الطويلة في يد حسن، ومقاطف مليئة بالحجارة ومناجل وفؤوس .. وقبل أن يأتي رجال الوالي لنجدة الملتزم ،تنهار قلعة العهر فوق أهلها وصوامعها تحت أقدام ميت جهينة، وتمتلئ الساحة بمئات الصرعي وبحور الدم ..مدد ياشيخة زليخة ..مدد.. هاهي ميت جهينة تحيي ليلة نصرها اليتيمة قبل أن تلبس الحداد عمرها كله.. هذا قليل من كثير قدمته لنا هذه التجربة.. وهي تجربة فنية كبيرة لا أذكر أنني قرأت عنها أو عن كاتبها كلمة نقدية واحدة.. وأنا أدرك بطبيعة الحال أن كلمتي هنا لا ترقي إلي مستوي النقد أو التقييم، فما أنا بناقد، وما كنت بقادر حتي علي تسجيل انطباع عام عن هذه الرواية الأخاذة التي قدمها لنا الأستاذ سعد مكاوي ،ولا عن الشكل الفني المحكم الذي صاغ فيه روايته تلك.. ولكنني أدرك شيئا.. أدرك أننا عندما نلتقي، عبر رحلة القراءة الطويلة بأحد الأعمال الطيبة، فإن مهمة التعريف بها تصبح جزءا من مسئولياتنا.. تلك واحدة من الأساسيات التي يجب أن نلتزم بها جميعا.. ولعل ذلك هو مبرري الوحيد في كتابة هذه الكلمة القصيرة. مجلة "صباح الخير" 9 نوفمبر 1967