حريق يلتهم 4 أفدنة قمح في قرية بأسيوط    متحدث الصحة عن تسبب لقاح أسترازينيكا بتجلط الدم: الفائدة تفوق بكثير جدًا الأعراض    بمشاركة 28 شركة.. أول ملتقى توظيفي لخريجي جامعات جنوب الصعيد - صور    برلماني: مطالبة وزير خارجية سريلانكا بدعم مصر لاستقدام الأئمة لبلاده نجاح كبير    التحول الرقمي ب «النقابات المهنية».. خطوات جادة نحو مستقبل أفضل    ضياء رشوان: وكالة بلومبرج أقرّت بوجود خطأ بشأن تقرير عن مصر    سعر الذهب اليوم بالمملكة العربية السعودية وعيار 21 الآن ببداية تعاملات الأربعاء 1 مايو 2024    600 جنيه تراجعًا في سعر طن حديد عز والاستثماري.. سعر المعدن الثقيل والأسمنت اليوم    تراجع أسعار الدواجن 25% والبيض 20%.. اتحاد المنتجين يكشف التفاصيل (فيديو)    خريطة المشروعات والاستثمارات بين مصر وبيلاروسيا (فيديو)    بعد افتتاح الرئيس.. كيف سيحقق مركز البيانات والحوسبة طفرة في مجال التكنولوجيا؟    أسعار النفط تتراجع عند التسوية بعد بيانات التضخم والتصنيع المخيبة للآمال    رئيس خطة النواب: نصف حصيلة الإيرادات السنوية من برنامج الطروحات سيتم توجيهها لخفض الدين    اتصال هام.. الخارجية الأمريكية تكشف هدف زيارة بليكن للمنطقة    عمرو خليل: فلسطين في كل مكان وإسرائيل في قفص الاتهام بالعدل الدولية    لاتفيا تخطط لتزويد أوكرانيا بمدافع مضادة للطائرات والمسيّرات    خبير استراتيجي: نتنياهو مستعد لخسارة أمريكا بشرط ألا تقام دولة فلسطينية    نميرة نجم: أي أمر سيخرج من المحكمة الجنائية الدولية سيشوه صورة إسرائيل    جونسون: الاحتجاجات المؤيدة لفلسطين داخل الجامعات الأمريكية نتاج للفراغ    قوات الاحتلال تعتقل شابًا فلسطينيًا من مخيم الفارعة جنوب طوباس    استطلاع للرأي: 58% من الإسرائيليين يرغبون في استقالة نتنياهو فورًا.. وتقديم موعد الانتخابات    ريال مدريد وبايرن ميونخ.. صراع مثير ينتهي بالتعادل في نصف نهائي دوري أبطال أوروبا    معاقبة أتليتيكو مدريد بعد هتافات عنصرية ضد وليامز    موعد مباراة الأهلي والإسماعيلي اليوم في الدوري والقنوات الناقلة    عمرو أنور: الأهلي محظوظ بوجود الشناوي وشوبير.. ومبارياته المقبلة «صعبة»    موعد مباريات اليوم الأربعاء 1 مايو 2024| إنفوجراف    ملف رياضة مصراوي.. قائمة الأهلي.. نقل مباراة الزمالك.. تفاصيل إصابة الشناوي    كولر ينشر 7 صور له في ملعب الأهلي ويعلق: "التتش الاسطوري"    نقطة واحدة على الصعود.. إيبسويتش تاون يتغلب على كوفنتري سيتي في «تشامبيونشيب»    «ليس فقط شم النسيم».. 13 يوم إجازة رسمية مدفوعة الأجر للموظفين في شهر مايو (تفاصيل)    بيان مهم بشأن الطقس اليوم والأرصاد تُحذر : انخفاض درجات الحرارة ليلا    وصول عدد الباعة على تطبيق التيك توك إلى 15 مليون    إزالة 45 حالة إشغال طريق ب«شبين الكوم» في حملة ليلية مكبرة    كانوا جاهزين للحصاد.. حريق يلتهم 4 أفدنة من القمح أسيوط    دينا الشربيني تكشف عن ارتباطها بشخص خارج الوسط الفني    استعد لإجازة شم النسيم 2024: اكتشف أطباقنا المميزة واستمتع بأجواء الاحتفال    لماذا لا يوجد ذكر لأي نبي في مقابر ومعابد الفراعنة؟ زاهي حواس يكشف السر (فيديو)    «قطعت النفس خالص».. نجوى فؤاد تكشف تفاصيل أزمتها الصحية الأخيرة (فيديو)    الجزائر والعراق يحصدان جوائز المسابقة العربية بالإسكندرية للفيلم القصير    حدث بالفن| انفصال ندى الكامل عن زوجها ورانيا فريد شوقي تحيي ذكرى وفاة والدتها وعزاء عصام الشماع    مترو بومين يعرب عن سعادته بالتواجد في مصر: "لا أصدق أن هذا يحدث الآن"    حظك اليوم برج القوس الأربعاء 1-5-2024 مهنيا وعاطفيا.. تخلص من الملل    هل حرّم النبي لعب الطاولة؟ أزهري يفسر حديث «النرد» الشهير (فيديو)    هل المشي على قشر الثوم يجلب الفقر؟ أمين الفتوى: «هذا الأمر يجب الابتعاد عنه» (فيديو)    ما حكم الكسب من بيع وسائل التدخين؟.. أستاذ أزهرى يجيب    هل يوجد نص قرآني يحرم التدخين؟.. أستاذ بجامعة الأزهر يجيب    «الأعلى للطرق الصوفية»: نحتفظ بحقنا في الرد على كل من أساء إلى السيد البدوي بالقانون    إصابات بالعمى والشلل.. استشاري مناعة يطالب بوقف لقاح أسترازينيكا المضاد ل«كورونا» (فيديو)    طرق للتخلص من الوزن الزائد بدون ممارسة الرياضة.. ابعد عن التوتر    البنك المركزي: تحسن العجز في الأصول الأجنبية بمعدل 17.8 مليار دولار    نصائح للاستمتاع بتناول الفسيخ والملوحة في شم النسيم    "تحيا مصر" يكشف تفاصيل إطلاق القافلة الإغاثية الخامسة لدعم قطاع غزة    القوات المسلحة تحتفل بتخريج الدفعة 165 من كلية الضباط الاحتياط.. صور    أفضل أماكن للخروج فى شم النسيم 2024 في الجيزة    اجتماعات مكثفة لوفد شركات السياحة بالسعودية استعدادًا لموسم الحج (تفاصيل)    مصدر أمني ينفي ما تداوله الإخوان حول انتهاكات بسجن القناطر    رئيس تجارية الإسماعيلية يستعرض خدمات التأمين الصحي الشامل لاستفادة التجار    الأمين العام المساعد ب"المهندسين": مزاولة المهنة بنقابات "الإسكندرية" و"البحيرة" و"مطروح" لها دور فعّال    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ثنائية الريف والمدينة
نشر في أخبار الحوادث يوم 24 - 09 - 2016

سيطر عالم القرية علي معظم كتابات وإبداعات سعد مكاوي من قصص قصيرة وروايات ومسرحيات،‮ ‬وحتي عندما كان يتطرق إلي المدينة وشخوصها،‮ ‬تظل ظلال القرية هي النبع الأساسي الذي ينهل منه‮ ‬ويشكل سمات وسلوكيات أشخاص المدينة ذات الجذور الريفية،‮ ‬فلا عجب أن شخصية سعد مكاوي وتطوره تحمل داخلها جذوره الريفية ومدينيته الحادة‮. ‬
ورغم مواهب سعد مكاوي المتعددة في المسرح والرواية والترجمة وكتابة المقال والقصة القصيرة إلا أن الأخيرة،‮ ‬تعد من أخصب أعماله فقد كتب‮ ‬14‮ ‬مجموعة قصصية،‮ ‬تحتوي علي ثلاثمائة قصة قصيرة منذ‮ ‬1948،وأشهرها مجموعة‮ "‬الماء العكر‮"‬،‮ (‬طريق القبور،‮ ‬فضيحة الشيخ عمر،‮ ‬وعصر عويس الذهبي،‮ ‬الأجر والثواب،‮ ‬مصرع حمار،‮ ‬سبع الليل وصدمة مدهشة،‮ ‬والواد الحليوة وعلي بحر شبين وفي دوار العمدة وقراريط رضوان التسعة‮. ) ‬ومعظم شخصياته في هذه القصص هي شخصيات ريفية،‮ ‬تعيش في الريف ويكاد لا تخلو منها قرية مصرية مثل العمدة،‮ ‬وشيخ الجامع والموظف الأزهري،‮ ‬والمجذوب والموظف،‮ ‬والبك،‮ ‬والتاجر،‮ ‬والفتاة العفيفة،‮ ‬والمرأة الساقطة الفقيرة،‮ ‬والمدرس،‮ ‬وسبع الليل،‮ ‬والنجار،‮ ‬والجزار والحلاق والصياد،‮ ‬وتشكل هذه الشخصيات العالم الأدبي لدي سعد مكاوي،‮ ‬وتحظي باهتمام كبير لديه وخاصة الشخصيات المهمشة التي تمثل أدني مستوي السلم الاجتماعي في القرية والتي تظهر بكل حسنها وقبحها وصراعها من أجل حقها في الحياة‮. ‬
‮"‬الانحياز‮ ‬الاجتماعي أولا‮"‬
وسوف نلاحظ أن هناك تجسيدا لثنائيات شهيرة في أعماله القصصية،‮ ‬تلك الثنائيات تشمل كافة القضايا الاجتماعية مثل ثنائيات الشر مقابل الخير،‮ ‬الظلم مقابل العدل،‮ ‬الموت مقابل الحياة،‮ ‬الجبروت والقوة مقابل الذل والمهانة،‮ ‬السرقة والنهب والطمع والغل والكراهية‮. ‬
استغلال الإقطاعيين للفقراء،‮ ‬وانتهاك حقوقهم عن طريق شبكة الموظفين والخدام لهم من العمدة وشيخ البلد مروراً‮ ‬بناظر الزراعة وتاجر المواشي،‮ ‬إنتهاءً‮ ‬برجل الدين عالم قائم علي الاستغلال والنهب والاضطهاد الذي يبرره ويعضده شيوخ الفتة والمصاطب أمثال الشيخ هنداوي،‮ ‬والشيخ عبد المتعال،‮ ‬والشيخ بيومي والشيخ عبد الفضيل والشيخ عمر وغيرهم من رجال الدين،‮ ‬ولا تكاد تخلو منهم قصص مجموعة‮ " ‬الماء العكر‮ "‬،‮ ‬يفضح سعد مكاوي هذه الشخصية الكارهة للحياة والناس‮ ‬المتسلطة الجاهلة،‮ ‬التي تخدم طبقة الإقطاع والسلطة بشكل عام،‮ ‬مهما كانت طبيعتها‮. ‬ويكاد يكون رجل الدين والإقطاعي هما المعادل للنفاق والضلال والظلم في قصصه‮.‬
الصراع في معظم قصص المجموعة هو صراع طبقي،‮ ‬بين طبقة الإقطاع وأعوانهم وبين طبقة الفقراء،‮ ‬صراع بين الغني والفقير،‮ ‬بين أسياد وعبيد،‮ ‬ويمكننا أن نقول أن مكاوي كان معبراً‮ ‬في قصصه عن الواقعية المصرية بامتياز،‮ ‬وقد مهد الأرضية لمبدعين آخرين من بعده،‮ ‬مثل يوسف إدريس وعبد الرحمن الشرقاوي وفاروق منيب و عبد الحكيم قاسم‮ ‬ومحمد البساطي وغيرهم،‮ ‬ولا يخلو هذا العالم القصصي من المفارقة والسخرية،‮ ‬التي يتكأ عليها المهمشون لترطيب قسوة حياتهم وجعلها قابلة للاحتمال،‮ ‬تكاد فقرات سعد مكاوي القصصية أن تكون مشاهد سينمائية رفيعة المستوي،‮ ‬وكأن الأحداث تحكي من خلال عين كاميرا سينمائية،‮ ‬تسجل لنا تسجيلا دقيقا للمكان والحدث والتفاصيل الدقيقة لملامح الشخصيات وتعبيراتها،‮ ‬وردود أفعالها،‮ ‬فالإطناب والعناية بالتفاصيل والجو العام للحدث هو سمة أساسية من سمات السرد في قصص المجموعة،‮ ‬ويميل مكاوي إلي تحقيق قدر من السجع الشعري في جملته الوصفية،‮ ‬،‮ ‬وقد يرجع ذلك إلي تربيته علي يد أبيه الأزهري ذي الثقافة التراثية،‮ ‬حيث كان يعمل مدرساً‮ ‬للغة العربية ونقل إلي ابنه عشق اللغة والاعتناء بها والتجويد فيها‮. ‬
‮"‬أبطال مقاتلون‮"‬
أراد مكاوي أن تكون شخصياته الفقيرة،‮ ‬المعدومة،‮ ‬والمهمشة،‮ ‬شخصيات مقاومة،‮ ‬،‮ ‬مقاتلة‮ ‬غير مستسلمة،‮ ‬يقظة رغم أن حياتها تنضح بالضعف والذل والهوان‮. ‬
ينتصر مكاوي للفقراء ويتعاطف معهم ويري أن موبقات هذه الطبقة وانحلالها الأخلاقي،‮ ‬نتيجة وضعها الاجتماعي المتدني،‮ ‬وهم ضحايا للفقر والعوز‮. ‬
وهذا يفسر‮ ‬غوص الكاتب في شخصياته،‮ ‬واختراق مخزونهم الداخلي،‮ ‬وردود أفعالهم الخارجية ليحللها تحليلا نفسيا عميقا،‮ ‬وبجانب اللغة العربية الرصينة‮ ‬والبلاغة الشعرية،‮ ‬جاء الحوار علي لسان شخصياته الريفية المطحونة بالعامية التي وظفها ببراعة لتعبر عن عالمه القصصي المنحاز للفقراء والثري بشاعريته‮. ‬كما أن الصوفية ملمح من ملامح إبداعاته القصصية‮. ‬
يقول في حوار مع عبد العال الحمامصي‮ " ‬التزامي نابع من إيماني الإنساني،‮ ‬أنا ملتزم بالقضية الإنسانية في عمومها وشمولها وشعاري في هذا أنني مع الحرية ضد الزيف،‮ ‬مع الحق ضد الاستبداد،‮ ‬مع الشجاعة ضد الخوف،‮ ‬مع الإرادة ضد القهر،‮ ‬مع الجمال ضد القبح،‮ ‬مع الحب ضد الكراهية،‮ ‬التزامي في كلمة واحدة هو مستقبل الإنسان وقدراته المتجددة التي لا يمكن لأي ايديولوجية معاصرة أن تحتويها،‮ ‬فمن الذي يعطينا الحق في أن نصادر المستقبل،‮ ‬ونحجر علي إمكاناته وما تنطوي عليه صيرورته من قابليات‮ ". ‬
‮"‬الفن والحياة والصحافة والأدب‮"‬
في المجموعة القصصية‮ (‬شهيرة وقصص أخري‮) ‬والتي تحتوي علي أربع عشرة قصة،‮ ‬أكبرهم حجماً‮ ‬هي شهيرة والتي تتكون من‮ ‬76‮ ‬صفحة،‮ ‬استخدم الكاتب في ثلاث قصص منها تقنية‮ ‬اليوميات وهي‮ "‬شهيرة‮ " ‬و"دلائل الخبرات‮" ‬و"التوابل الحريفة‮"‬،‮ ‬ولذلك سنأخذ في الاعتبار عند الموازنة بين القيمة أو الفكرة الأساسية التي يريدها الكاتب الأسلوب الفني الذي‮ ‬اختاره لمعالجة فكرته،‮ ‬وهذه المجموعة ليست علي مستوي فني،‮ ‬وهذا هو حال أي كاتب مهما كانت درجة نبوغه الأدبي‮ ‬والفني،‮ ‬وقد تحقق في معظم القصص معطيات البلاغة النثرية والشعرية التي نجدها في مجموعته‮ "‬الماء العكر‮". ‬
لكن‮ "‬شهيرة‮ "‬تقفز بنا في قلب أحداث القصة وشخوصها،‮ ‬وتعكس تنوع تجارب مكاوي،‮ ‬وغناها فهي تدور حول عالم المسرح الذي يمثل‮ "‬عالم المدينة‮ " ‬البيئة الاجتماعية والثقافية،‮ ‬والإبداعية،‮ ‬الممثلين والمخرجين ومن يدور في فلكهم،‮ ‬كمية هائلة من الصمت والصخب،‮ ‬من التمرد والانضباط،‮ ‬عالم النفاق والمكر والغموض،‮ ‬الفشل،‮ ‬النجاح،‮ ‬الحق،‮ ‬الدعارة،‮ ‬الجنس،‮ ‬والانسجام بين شخصيات في الواقع متنافرة ومتناثرة،‮ ‬فبطل القصة هو الشاب أحمد كمال‮ ‬القادم من قريته البعيدة في ريف الغربية بعد حصوله علي شهادة إتمام الدراسة الثانوية من القسم الداخلي بمدرسة طنطا ليلتحق بكلية ا لآداب في الجامعة والبطل يحكي لنا من خلال يومياته،‮ ‬أحواله وتجاربه التي مر بها منذ أن وطأت قدمه القاهرة واستقبله ابن عمه،‮ ‬ومروره علي بعض المجلات قليلة الانتشار التي كانت تنشر‮ ‬قصائد الصبا ويصف لنا‮ " ‬أحمد‮ " ‬نفسية محرريها وصفا بليغا قائلا‮ :‬
‮"‬وكانت لي،‮ ‬قبل مجيئي إلي القاهرة،‮ ‬صلة محدودة ببعض المجلات قليلة الانتشار،‮ ‬فقد نشرت لي قصائد من شعر الصبا كنت بعثت به إليها من أعماق ريفي،‮ ‬فترددت عقب وصولي عليها وتعرفت إلي محرريها الشبان،‮ ‬وحضرت مجالسهم واستمعت إلي أحاديثهم عن المهنة والوسط الآدبي وعن الكتاب الصحفيين المعروفين‮. .‬وقد كان أعجب ما رأيت من أمر هؤلاء الشبان أنهم علي صغر سنهم وضآلة حظهم من الثقافة والخبرة وتفاهة إنتاجهم إلا فيما ندر‮. ‬يرون في أنفسهم عباقرة الآدب والفن ويهاجمون الكتاب المعروفين وخاصة الشباب منهم في لذة‮ ‬غريبة ويزعمون في كبرياء مضحكة أن ما تسطره أقلامهم الساذجة المغمورة من شعر وقصص أجدر بالنشر والاعجاب من كل ما ينشره الناجحون من حملة القلم في الصحف والكتب‮ ! " ‬
‮"‬سعد مكاوي يتحدث باسم أبطاله‮"‬
وهنا نشعر‮ ‬أن سعد مكاوي‮ ‬يتماهي مع بطل قصته في رأيه عن هؤلاء الصحفيين‮ "‬إن هؤلاء الصحفيين المغمورين والكتاب الناشئين لا يحترمون شيئاً‮ : ‬لا التجربة ولا الموهبة،‮ ‬ولا الماضي العريق في خدمة الفن والفكر ولا الحياة الخاصة نفسها‮. .‬وقد عرفت منهم ما يضطرم‮ ‬غضبه وتجيش نفسه بالحقد المروع علي زملائه الذين أوتوا مالم يؤت هو من أصالة وثقافة ونبوغ‮ ‬وصيت،‮ ‬فهو يتزعم جماعة الحاسدين لكل كاتب شاب يبزغ‮ ‬نجمه ويتألق عن جدارة في سماء الأدب‮. ..‬وعرفت منهم من يقترف قلمه المترنج كل صباح طعناً‮ ‬مسموماً‮ ‬يمليه عليه ذلك الحسد‮.‬
لقد خاب أمل‮ " ‬أحمد‮ " ‬وصدم في الوسط الذي طالما حلم بأن ينتسب إليه ولكن ابن عمه‮" ‬حسين‮ " ‬الذي خبر البيئة‮ ‬والسياسة والفن يؤكد له أن لقاءه بكل إنسان جديد تدفعه الحياة إلي طريقة تجربة وصدمة‮ :‬
‮"‬قد يدفعك سعيك إلي النجاح إلي السير في طرق أرضها الوحل وسماؤها العاصفة وأنت في حاجة قبل أن تبدأ السير إلي أن تئد وجدانك هذا المرهف علي باب الغابة التي لا يعلو فوق قانونها الصارم قانون‮. .." ‬
ويتساءل مكاوي أو البطل‮:‬
‮"‬يا ربي أتكون الدنيا‮ ‬غابة والسعي صراعاً‮ !‬؟‮. .‬أهذه هي الشريعة‮ ! ‬أهذه هي نخبة المجتمع وصفوته‮! ‬أهذه هي زهرة القاهرة الذهنية والاجتماعية وهذا هو باب السلطان والنفوذ الذي يستطيع أن يفتح لي باب النجاح المنشود‮ !‬
ويتنامي‮ ‬إحساسه بالغثيان عندما يذهب إلي مكتب أحد الأدباء المشهورين ويؤكد له هذا الأديب أن الصحفي والروائي‮ (‬ن‮) ‬يعيش في الوقت الحاضر عالة علي صديقته المغنية المعروفة‮ (‬ع‮) ‬التي تنفق ما تجمعه في لياليها الحمراء علي بذخه وسفهه وعندما يعلم هذا الأديب أن‮ "‬أحمد‮ " ‬كتب مسرحية شعرية بوحي الممثلة العظيمة‮ " ‬شهيرة زهدي‮ " ‬قال له‮ : ‬أن سميرة لن تمثل مسرحية جديدة ما لم تكن قد عجبت في مخدعها بمؤلفها،‮ ‬وأن مدير مسرحها وهو زوجها لا يجهل ذلك ويعلم أنها لا تتألق في دور من الأدوار مالم يكن الممثل الشاب الذي يقوم أمامها بالدور الأول فتي‮ ‬غض الأهاب جميلاً‮ ‬كأنه فحل،‮ ‬ويكاد أحمد أن يبكي ويمشي في الشارع هائماً‮ ‬وهو شارد‮ :‬
شهيرة زهدي الفنانة العبقرية التي رفعها جيلي كالمعبودة علي مذبح مقدس في محراب الفن‮. .. ‬والتي وقفت علي فنها شبابها وحياتها ونبضات قلبها‮. ..‬أهي حقاً‮ ‬هذه الغانية الهلوك المنهومة،‮ ‬ولا شيء أكثر من‮ ‬غانية‮ !. .."‬
ومما يزيد همه أن ابن عمه حسين يؤكد له حين يسأله هل صحيح أن‮ (‬ن‮) ‬يعيش علي مال السيدة‮ (‬ع‮) : ‬
‮" ‬كل ما أعرفه أنهما لا يكادان يفترقان‮ ‬،‮ ‬ولست أدري إن كانت عشيقته،‮ ‬فما رأيتهما في خلوة يا صاحبي‮ ! ‬ان الفنان فيما أتصور يجد في النساء مادة صالحة لفنه،‮ ‬ولا مفر له في أن يسبح في بحورهن،‮ ‬لأنه يدرس علي الطبيعة ضروب تجارة الهوي‮. . ‬بالإضافة إلي أن شهيرة لها عشيق فاحش الثراء يصرف عليها ويلبي طلبتها وزوجها علي علم بذلك‮. ‬
وتتطور أحداث القصة ويلتقي أحمد بشهيرة زهدي التي يقع في‮ ‬غرامها وتبادله عشقاً‮ ‬بعشق ويستعرض لنا عالم شهيرة،‮ ‬عالم المسرح،‮ ‬عالم الفن والجنون،‮ ‬النفاق والتدليس،‮ ‬والبذاءة والابتذال والسحر‮. ‬فشهيرة امرأة ساحرة وممثلة موهوبة بنبوغ‮ ‬الفطرة وحدها فهي تقرأ بصعوبة،‮ ‬وتعلمت القراءة والكتابة في عامها الرابع عشر علي يد زوجها وهي الآن ترتل شعر شوقي،‮ ‬وتتألق علي المسرح،‮ ‬ولكن ما يجيره‮ ‬هو‮ ‬علاقتها بزوجها،‮ ‬وهو لا يفهمها كإنسان،‮ ‬فعندما رآه لأول مرة،‮ ‬جاء وجلس في الصالون وشرب القهوة ثم خرج بعد كلمتين مع زوجته وأحمد راقد مستريح في سرير شهيرة ولا يفصل أحدهما عن الآخر إلا باب موارب ؟‮!‬
‮"‬الزوج الضيف‮"‬
وكانت شهيرة تعامل زوجها كأنه ضيف في بيتها وتتعامل معه تارة بحب،‮ ‬وتارة أخري تكون سيئة وتستخدم ألفاظا‮ ‬نابية معه‮. ‬وقد سمع حديثهما مرة قال لشهيرة‮ :‬
هل أقول لك ما هو أحمد الذي‮ ‬طالعة به السماء؟
أديب ناشيء‮ ‬وجد فيك‮ " ‬السلم‮ " ‬ليصعد عليه‮! ‬
وأنت ماذا تكون ؟ الدرابزين ؟‮! ‬أيها القرد العجوز الأهتم‮!‬
أمك زنت بقرد وأقسم علي ذلك بشرف الفن‮ ! ‬
سكت الزوج قليلاً‮ ‬ثم سمعه أحمد يقول‮ : ‬
‮"‬شرف الفن‮. . ‬شرف الفن‮. . ‬أنا القرد العجوز عاشق الفن،‮ ‬مؤمن فعلاً‮ ‬بأن الشرف الوحيد هو شرف الفن‮. . ‬المدينة كلها تعرف‮ ! ‬تركت لك حبالك كلها علي ظهرك لتبرطعي وتنبسطي‮. .. ‬ما قيمة ورقة رسمية‮ ! ‬لكني لا أستطيع،‮ ‬خضوعاً‮ ‬لنزوة حمقاء من نزواتك،‮ ‬أن أقامر بسمعة هذا المسرح الذي تعرفين الثمن الذي دفعته لكي أحصل عليه‮. . ‬لكي أعيش فعلاً‮ ‬للفن‮.. ‬وليكن الفن فعلاً‮ ‬هو كل شرفي‮..‬
هكذا يرصد سعد مكاوي العلاقات الغرائبية‮ ‬غير المألوفة التي تعتبر في عرف المجتمع علاقات شاذة‮ ‬وغير مقبولة بين الأزواج‮ ‬ويضع علي لسان أبطاله فلسفتهم الخاصة لتبرير عوالمهم‮ ‬غير الأخلاقية‮ ‬بدون أي إحساس بالذنب،‮ ‬بل أنهم يرون أن هذا ضروري في سبيل بلوغ‮ ‬شرف الفن،‮ ‬ولقد حاول مكاوي من خلال الحوار أن يفضح هذا العالم و زيف هذه الشخصيات‮.‬
‮"‬الملقن العجوز‮"‬
ومن بين الشخصيات المأساوية التي جاءت في القصة‮ ‬_عرضا‮ ‬_ولكن تتجلي دلالتها في مأساة حياة المسرح هي ذلك الملقن العجوز أبو الفضل الذي كان يصفق ويهلل لشهيرة ويقبل مندفعاً،‮ ‬يتدحرج فوق الأرض بجسده لضئيل الشائه ويختطف يد شهيرة ويهوي عليها بقبلاته في خضوع زائف ذليل،‮ ‬وأبو الفضل يعيش علي الأفيون،‮ ‬وهو يتعايش من الجنيهات التي يلقي بها‮ "‬كوهين‮" ‬عشيق شهيرة‮ ‬له،‮ ‬ويعمل جاسوسا لحسابه وأبو الفضل‮ " ‬شخصية معقدة لم يفلح صاحبها في البروز فوق خشبة المسرح،‮ ‬فقنع بالاختباء في‮ ‬الكمبوشة وتلقين الممثلين ودفن همومه‮ ‬وهو زوج راقصة،‮ ‬وأب لطفلة زوجها في عامها الخامس عشر من مدرب رقص واشتري بمهرها أفيون‮ "‬
فجأة تنقطع‮ " ‬اليوميات‮ "‬،‮ ‬وبعد عدة أسطر منقوطة يأتي عنوان جانبي‮ " ‬من الكاتب إلي القاريء‮: ‬
ونفهم أن هذه اليوميات التي كتبها الشاعر الشاب أحمد كمال في كراسة زرقاء قد قدمها ابن عمه الأستاذ حسين بك كمال عضو مجلس النواب إلي الكاتب ويخبره بأن يد ابن عمه أحمد التي كتبت هذه اليوميات لم يعد في إمكانها أن تتم القصة‮. ‬
وقد انتهت حياة‮ " ‬أحمد‮ " ‬بشكل مأساوي فقد أطلق عليه شابان ثلاث رصاصات عند باب المسرح الخلفي وهو ينزل من سيارة الأجرة بعد ظهر ذلك اليوم الذي تنتظره فيه شهيرة زهدي داخل مسرحها‮. ‬
ويحكي الكاتب بعد ذلك ما حدث لأحمد عندما تم نقله إلي المستشفي ومأساة شهيرة التي منعت من رؤية أحمد لأن أمه الريفية منعته من ذلك وينتهي الحال بأحمد أن يصبح مشلولاً‮ ‬وعاد إلي قريته المجهولة ليعيش في الصمت والنسيان،‮ ‬حملته أمه إلي مسقط رأسه وأغلقت بابها عليها وعلي الحطام الذي أهدته إليها المدينة‮. ‬
ويختم مكاوي القصة،‮ ‬بصورة أحمد في عهده الجديد تعطيها أمه لابن عمه الذي سألها‮ : ‬لمن الصورة ؟ فمدت يدها في صمت وقلبت الصورة في يده وقرأ علي ظهر الصورة‮ " ‬إلي شهيرة زهدي ذ من أمه‮ " ‬
صورة كافكاوية مغرقة في المأساة اختلط فيها المجال الحسي بالمجال الأخلاقي‮. ‬
إن مكاوي يجسد ضياع‮ ‬إنسان ريفي في عبث وقسوة المدينة،‮ ‬في العلاقات المحرمة في الانزلاق إلي عالم تنتهي عند أول خطوة منه براءته،‮ ‬وينحدر إلي عالم الظلال،‮ ‬إلي عبثية الحياة‮. ‬
في مقابل ذلك تمثل هذه لحظة الكشف والتجلي عند‮ " ‬شهيرة‮ " ‬أن الأبواب موصدة علي حطام حبها،‮ ‬ولن يتثني لها أن تراه أبداً‮. .. ‬كل ما تستطيع أن تفعله الآن هو أن تكثر كما تفعل من عرض مسرحيته،‮ ‬إنها بذلك تحاول في إخلاص مفرط أن تحتفظ بذكري الشاعر حية كالشعلة،‮ ‬لكن هيهات‮. ‬
لم يتعاطف مكاوي مع شخصيات المدينة في‮ "‬شهيرة‮" ‬كما فعل مع شخصياته الريفية في‮ "‬الماء العكر‮"‬،فقط تعاطف مع أحمد لأنه قادم من أعماق الريف‮.‬
‮"‬تعميق تقنية اليوميات‮"‬
وفي‮ ‬قصة"دلائل الخيرات‮ "‬نجدنا‮ ‬أيضا أمام تقنية المذكرات‮ (‬اليوميات‮) ‬تبدأ من يناير‮ ‬1946‮ ‬إلي‮ ‬6‮ ‬إبريل،‮ ‬من ذات العام أي ثلاثة شهور وخمسة أيام كتبها محمد بن ادريس‮ ‬بعد أن عزم في الأيام العشرة‮ ‬الأولي علي كتابتها،‮ ‬وهي تلتقي مع قصة شهيرة في أن البطل ريفي،‮ ‬لكنه يتيماً‮ ‬وفقيرا،‮ ‬وجيء به من محافظة‮ ‬أسوان إلي المدينة بعد أن شجعه عمه وهو بواب عمارة في الزمالك علي كسب عيشه بالعمل كبواب أو خادم في أحد البيوت‮. ‬
ويتدفق السرد الواقعي بوضوح ليعبر عن الحالة الجديدة التي انتقل إليها البطل محمد ابن إدريس والدرس الأول الذي تعلمه‮ : ‬
‮" ‬وجدت نفسي في أحد مساكن العمارة التي يقوم عمي علي بابها ثم في مساكن أخري كان ينتقل بي بينها بين الحين‮ ‬والحين لعله لا أعلمها،‮ ‬فعاشرت أولاد العرب والخواجات من كل جنس وملة وكان سخطي علي الجميع دائماً‮ ‬أكبر من رضاي عن عملي عندهم‮. ..‬
وكنت أعمل وكان‮ ( ‬عمي‮ ) ‬يتسلم في أول كل شهر مرتبي فيعطيني منه شيئاً‮ ‬قليلاً‮ ‬ويحتفظ بالباقي لنفسه،‮ ‬فانتهي بي الأمر إلي أن أصبحت أخفي عنه ما أناله من بقشيش سادتي،‮ ‬فكان ذلك أول درس وعته نفسي من دروس المدينة‮.‬
يفطن محمد ابن إدريس أن سيده رجل لا يخجل من الفضيلة بل يحترفها‮. ‬
يكتشف البطل عالم الجنس من سعاد التي ترقد معه في الحجرة نفسها،‮ ‬والتي تضاجع سيدها في الليلة التي لاتكون هناك امرأة معه وكذلك من النساء اللاتي يأتين إلي المنزل‮. ‬
‮" ‬والنساء في حياته خليط من كل صنف‮. .. ‬من كل الأعمار والطبقات والأجناس،‮ ‬شأنه في المتعة كشأنه في السياسة،‮ ‬متقلب،‮ ‬متلون،‮ ‬فكل أنثي عنده صيد،‮ ‬من المراهقة إلي الراقصة العاتية ومن ذات الملاءه اللف إلي بنت الذوات و من حماة صاحبه إلي ابنة جاره‮"‬
حاول محمد أن يكفر عن الذنوب التي يرتكبها من مشاهدة‮ ‬فجر سيده فكان يقرأ في‮ " ‬دلائل الخيرات‮ " ‬مترنحا‮ ‬،‮ ‬فوبخه سيده حتي انفجر في البكاء‮ ‬
‮"‬لا تعجبني طريقتك في القراءة‮. ..‬إياك أن أضبطك مرة أخري تميل وتتطوح حين تقرأ‮. ..‬حتي ولو كان ما تقرأ دلائل الخيرات‮. "‬
أقلع محمد عن قراءة دلائل الخيرات وبدأ في تدخين السجائر وتجرع الكئوس من زجاجات سيده فقد أغوته سعاد ليتناولها،‮ ‬وبدأ يغار علي سعاد رغم أعوامه الأربعة عشر‮.‬
يصيب محمد الارتباك والعجز عن فهم سعاد وسيده فهي دائماً‮ ‬عبدته المطيعة وخادمته المخلصة يمنحها من وقته ساعة حب فترضي بها وتملأ البيت مرحاً‮ ‬وغناء وضحكاً،‮ ‬ثم يحرمها من نظرة يجود بها عليها‮. ‬
ويستمر محمد في هذه الحياة الماجنة وفي عيد ميلاد السيد‮ ‬يصف حاله‮: " ‬أمس كانت ليلة خطيرة يا محمد يا ابن ادريس‮. ..‬أسكروك‮. .‬أرقصوك بعد ما حزموك‮. ..‬حاولوا أن يخلعوا عنك أنت وسعاد ملابسكما‮ ". ‬
ويصف لنا مشهد ذهابهم إلي عشة الترجمان مع ضيوف السيد،‮ ‬بشكل فانتازي ماجن يعبر عن فجور هذه الطبقة‮ ‬
في نهاية الشهر الثالث يقرر محمد أن يستقل القطار إلي أسوان ويودع عالم المدينة الذي ينخره الانحلال والفجور ولا يتبقي هناك قيمة لأي شيء ويجعله هذا العالم مغترباً‮ ‬عن المحيط الذي حوله يهرب إلي عالم يعطيه إحساس بالأمان،‮ ‬عالم يغيب عنه عمه وسعاد والبك،‮ ‬فيذهب هناك إلي ما وراء أسوان،‮ ‬ويعود إلي قراءة‮ " ‬دلائل الخيرات‮ " ‬وهو يتمايل‮.‬
‮"‬المدينة الجحيمية‮"‬
هكذا يري سعد مكاوي المدينة،‮ ‬غاوية،‮ ‬فجة،‮ ‬كريهة،‮ ‬متآمرة،‮ ‬متهدلة،‮ ‬ماجنة،‮ ‬مزيفة،‮ ‬فوراء أبوابها ونوافذها المغلقة السكر والعربدة،‮ ‬يكمن الفجور والابتذال،‮ ‬وفي شوارعها يكمن‮ ‬القبح والتهور وجميع الشهوات،‮ ‬مدينة بلا أخلاق‮. ‬
المسرحية الثالثة وهي التوابل الحريفة وزمن اليوميات‮ ‬بها تسعة أيام بدون ذكر سنة‮ ‬كتابة اليوميات وفي الحقيقة كان يمكن لسعد مكاوي ألا يستخدم هنا هذا التكنيك لأن طريقة السرد لا تحتاج لليوميات كتكأة‮ ‬للاستناد عليها،‮ ‬وخاصة أنه اعتمد علي يومين فقط،‮ ‬ولا يعتمد علي حدث بعينه ولكنها تجميع لعدة أحداث،‮ ‬ربما اختار نهاية شهر أغسطس والأسبوع الأول من سبتمبر ليومياته‮ ‬ليبرر أن البطل كتبها من الإسكندرية التي عادةً‮ ‬يذهب إليها المصطافون في هذا الوقت،‮ ‬لا يوجد أي حوار في هذه القصة بل هي عبارة عن حكي سردي تقليدي،‮ ‬لكنه استخدم‮ ‬فيها عنصر الحبكة الدرامية ليظهر مدي وضاعة عشيقة الراوي بنت المدينة في مقابل طهر وبراءة زوجته الشابة القادمة من أعماق الريف محبوبة أمه وابنة العين الثري الذي تجاور أراضيه أرض عائلته‮.‬
‮ ‬لقد طلبت الزوجة من العشيقة عندما اكتشفت العلاقة بينها وبين زوجها أن تزودها بالنصح والإرشاد،‮ ‬من أجل أن تبدو في نظر زوجها جديرة به وفي الحفل الساهر‮ ‬الذي أقامته العشيقة للزوجين احتفالاً‮ ‬به،‮ ‬بدت الزوجة بتصفيفة شعرها،‮ ‬ونوع الحلي وفستانها الأزرق الذي اختارته العشيقة لها شيئاً‮ ‬كريهاً‮ ‬مخجلاً،‮ ‬سوقياً‮. ‬
وعندما اكتشف الزوج الفخ الذي نصبته العشيقة لزوجته لتفوز به يعود إلي عقله،‮ ‬ويقرر أن يخلف موعده معها وألا يراها مرة أخري‮. ‬
‮" ‬وفي مثل ومضة البرق‮ ‬تبّدي لي الفارق العجيب بين موقفي الليلة وموقف العشيقة وموقف الزوجة‮. ..‬أنه الفارق بين امرأة تحب لأنها تحب،‮ ‬وتتشوف إلي الكمال لترضي الرجل الذي تهواه وامرأة‮ ‬غانية مصنوعة تلعب لعبة العاطفة لكي تروق في عين الرجل الذي يهواها‮ ". ‬
وهكذا يدور سعد مكاوي حول نفس الفكرة،‮ ‬توحش وتغول و دنس المدينة المتمثل في العشيقة في مقابل طهر الريف‮. ‬
‮"‬خاتمة‮"‬
إن أدب سعد مكاوي يشمل الحياة البشرية بجميع مظاهرها،‮ ‬الاعتقادات والتقاليد الدينية والمذاهب المتعددة والعلاقات الاجتماعية،‮ ‬فالحياة البشرية وحدة عضوية تتفاعل فيها مختلف العناصر‮. ‬
ويكشف عن الانحياز الطبقي والثقافي الذي تجري فيه أحداث القصة بين القادمين من الريف والقابعين في المدينة،‮ ‬الريف بقيمه الزراعية المتسمة بالغيبية و البطء والتواكل،‮ ‬والمدينة حيث القيم الصاخبة،‮ ‬الصادمة للفكر الريفي،‮ ‬ولا يعني ذلك‮ ‬أن مكاوي في‮ "‬الماء العكر‮" ‬سعي‮ ‬إلي تصوير صورة رومانسية مثالية للريف،‮ ‬بل هو يتحدث عن أنماط من البشر تربطهم علاقات شديدة التعقيد والتركيب،‮ ‬ويدور بينهم صراع حول الحياة والموت والعبث و الجنون،‮ ‬لقد قدم لنا سعد مكاوي هذه العلاقات وما يحدث فيها من تغير قيمي وطبقي واجتماعي وسياسي‮. ‬
وربما يكون الحنين إلي الرجوع للقرية عند مكاوي دافعه لذلك،‮ ‬فالإحساس بالغربة داخل الوطن مر به الكثير من المبدعين،‮ ‬صلاح عبد الصبور،‮ ‬وأحمد عبد المعطي حجازي،‮ ‬ويوسف القعيد سواء حنينهم الدائم للعودة إلي القرية أو ذكرها بشكل أساسي في معظم أعمالهم الإبداعية،‮ ‬وقد يكون الحنين نفسه شيئاً‮ ‬خادعاً‮ ‬لقدرته علي إضفاء مالم يكن علي ما كان كما يقول محمود درويش‮ " ‬الحنين هو صوت الريح،‮ ‬وكلما توغلت في وحدتك،‮ ‬كتلك الشجرة،‮ ‬أخذك الحنين برفق أمومي إلي بلده المصنوع من مواد شفافة هشة‮. .. ‬الحنين يكذب ولا يتعب من الكذب لأنه يكذب بصدق،‮ ‬كذب الحنين مهنة،‮ ‬والحنين شاعر محبط يعيد كتابة القصيدة الواحدة مئات المرات‮. ..‬،‮ ‬الحنين هو اختصاص الذاكرة في تجميل ما اختفي من المشهد‮ ".‬


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.