فريد أبوسعدة شاعر اليوميات والمعادلات الحزينة، فهو واحد من أهم شعراء جيل السبعينيات، الذين دشنوا مشروع الحداثة الشعرية في مصر، والعالم العربي، بدأ وحده فريدا مع ذاته، كفر بمقولات الأجيال الصاخبة، حاول الانعزال والعزوف عن الجماعات والجمعيات الشعرية والأدبية الصاخبة ، وراح يكتب نصه الشعري علي طريقته، وهواه، في الوقت نفسه كان متابعا لما يكتبه أبناء جيله من الشعراء، أمثال الراحل حلمي سالم، ورفعت سلام ، وعبدالمنعم رمضان، جمال القصاص، محمد سليمان ........ وغيرهم، ومن ثم التقت نصوصه مع أبناء جيله من شعراء الحداثة المصرية في مطلع السبعينيات في القرن الماضي 1977 . قدم منجزا شعريا كبيرا . طبيعته الحادة الساخرة دائما، وصراحته القاتلة، جعلته راهبا وحده في منافي الشعر، راضيا، قانعا بما قدم، وما سيقدمه في شعر الحداثة العربية. يطرح ديوانه " أنا صرت غيري"، الصادر عن الهيئة العامة لقصور الثقافة، مجموعة من الاشتباكات الدرامية والمعادلات الشعرية التي تتعلق بالذات والآخر والأرض والعالم، داخل النص الشعري، فتمتزج الحياة بالأسطورة، والأيروسي بالعرفاني الصوفي، فتتجلي روح الإيقاع الاستعاري باللامرئي في أزمنته الأولي وأمكنته الواسعة. صحيح أن فريد أبوسعدة في أعماله الشعرية السابقة كان يجنح كثيرا لكسر آفاق التوقع لدي المتلقي من خلال ركوب جناحي المجاز واللغة، والدلالة المتحركة في نصه الشعري، فإنه قد أسلم نفسه في هذا الديوان للحياة بكل ما فيها من نزق وحب ومعاناة، أعني أنه وثَّقّ مشروعه الشعري بطين الأرض الغاضب أيضا، فقد جاء هذا الديوان في مجموعة من العتبات النصية، أولاها العنوان ( أنا صرت غيري )، فهو عنوان يحمل الكثير من الدلالات المفتوحة منها الخاص جدا الذي يمكن أن نحيله علي الشاعر الذي تحول، فأصبح إنسانا جديدا بعد تجربة المرض التي ألمت به ، فصار أكثر تمردا، ووضوحا، ويمكننا أن نطلق المعني والتأويل علي الآخرأيضا، فأقول : إنه يخاطب العالم الخارجي الكوني البريء ، فقد تحول الخطاب الشعري لدي فريد أبو سعدة من النقر علي وتر الموت إلي الخارج الأكثر اتساعا متعدد النقرات اللانهائية، حيث إنه يخاطب الإنسان المصري الذي رفض كل أنواع الظلم كافة، وصرخ في الميادين يعبر عن رأيه، وحريته، أي، أنه كسر حاجز الخوف ، والمبالاة وعادت روح الانتماء داخله الذي كانت قد كسرته السلطة السياسية منذ قيام ثورة يوليو 1952،وحتي 2011، فأصبح إنسانا جديدا، يملك حريته، ويبحث عن العدالة التي يرغب في انتشارها عبر أنحاء العالم ، وتكون مصر نواة لهذه العدالة داخلها وخارجها حتي ربوع أفريقية، ويبدو المؤشر الثاني أكثر دلالة من الأول، وهو الغلاف الذي جاء موجها إلي الثورة المصرية التي بدأت في الخامس والعشرين من يناير 2011 ولم تنتهِ حتي اللحظة الراهنة، وهي صورة فوتوغرافية لمجموعة من شباب مصر الثائر في ميدان التحرير، يحملون العلم المصري الخفاق في كل مكان، رمز مصر وعزتها، وجاء من أعلي في الغلاف سلسلة إبداعات الثورة، وهي سلسلة حديثة نسبيا ، أنشأتها الهيئة العامة لقصور الثقافة بعد ثورة يناير مباشرة ، وهذا لا يخلو من دلالة وهي الاحتفاء بأدب الثورة الذي لم ينضج بعد؟ ولي أن أتوقف هنا قليلا عند الإبداع الذي ينتمي للثورة، وفي ظني أن هذا الإبداع لم يخرج إلي النور حتي الآن، لأن الثورة لم تكتمل ملامحها فما زال الناس يبحثون عن تحقيق طموحاتهم في كل مكان، من حرية وطعام وعدالة اجتماعية خالصة . وجاءت العتبة الثالثة متمثلة في الإهداء. فيقول فريد : " إلي آرين .. جميلةُ الجميلات آرين هي مصر المحروسة جميلة الجميلات التي كتب لها الشاعر أشهي نصوصه الشعرية منذ السبعينيات وحتي الآن، ومازال يكتب . فريد أبو سعدة شاعر المعادلات اليومية في كتابة القصيدة النثرية المصرية بصفة خاصة، حيث إنه انشغل بتركيب المشاهد الشعرية في صيغة المعادلات الرياضية التي تجعل النص الشعري لديه نصا يحمل الكثير من المعاني المختلطة لدي القاريء . ترغمه علي التأويل اللانهائي . يقول في مطلع الديوان الصفحة الأولي : "أنا حجرٌ جالسٌ في المياهْ أراقبُ أحصنةً في دمي " تبدو صورة المعادلات الشعرية واضحة في النص الفائت من خلال صوت الذات الشاعرة التي تقف علي ضمير المتكلم ( أنا ) ترقب العالم الخارجي من خلال الوجوه التي تمر علي طريق النص الشعري الرياضي الذي اختاره الشاعر، فالذات تخرق المنطق اليومي، لتراقب جراحات الأحصنة الشعرية داخل العالم المخترع الذي ناسب وجعها اليومي أيضا، ومن ثم فقد تراقب الأحصنة التي تعيش في دماء الذات هذه الآلام الحياتية التي تمر بها . المشهد برمته يكسر المكر اليومي الذي تجلس خلفه بقايا الآخر المتربص بالذات المشغولة بروح العاشق التائه في مياه الخلق الأولي . فالمعادلة تكمن في الذات المشغولة بنفسها هذا من جهة والعالم المشغول بها من جهة ثانية، فينتج عنهما نص يحمل الأصوات المتلاشية التي جاءت في صورة الأحصنة الصغيرة / قصائد الديوان . ويقول أيضا : " أنا خائفٌ من ذهابي إليّْ أحاول أن أتذكرَ من كنتُ قبلَ وجودي، وما كان اسمي وهل كان شكلي كما هو أم كنتُ غيري؟ كأن حياتين تلتقيان هنا فجأة ً وكأن المرايا ستعكسُ وجهين ِ وجهي ووجهي الغريب علي ّْ" . تبدو روح الذات الشاعرة كما تبدت في النص الفائت يغلب عليها طابع الحنين المتوتر القلق الذي لايستطيع أن يتخذ قرارا ما، فهي حائرة بين الوجود واللاوجود، نلاحظ بروز الذات المتشظية في النص حيث إنها تحاول الوصول إلي نموذج ثابت لها فلا تستطيع ذلك، وكأنها أصبحت تعيش أكثر من حياة، الوجه الحقيقي الأصلي والوجه الغريب، وتكمن المفارقة الدرامية التي يتلاعب بها النص نفسه حيث إننا أمام نص متعدد الوجوه في حقيقة الأمر، لما تعكسه مرايا الذات المتحركة . التي تعكس أكثر من وجه وتقوم بعملية الفصل بين الأصل والقناع الآخر . ترتكز البني اللغوية التي اعتمد عليها فريد أبو سعدة في ديوانه علي حركية المفردة من خلال التوافق الدرامي بينها وبين الصورة التي تلبست النص الشعري نفسه، فتحمل روح المناجاة الداخلية أحيانا وروح المليودراما أحايين أخري، مما يمنح النص اتساعا في القراءة، ورمزية في التلقي، فيمزج الشاعر بين روحه وروح الذات واللغة والايقاع الخافت الذي يختفي وراء البني العميقة التي تتحكم في بنية النص الرئيسة . تجلي أيضا في الديوان شخصيات متعدد وكأنها التي تمسك بالتفاصيل الكبري في حقيقة الأمر، لأنها شخصيات لم تظهر علي سطح الكتابة، لكنها كانت عاملا مؤثرا في الحركة التي تقوم عليها المعادلات الشعرية، ففي قوله : :" سبيلان ِ للموتِ لا غيرَ إما أحبُّكِ أو لا أحبُّكْ أنا مغرمٌ بكِ يا من أسمِّيكِ حلماً تأجَّلَ أكثرَ مما أطيقُ وأطولَ مما سأبقيَ ! " يتكيء الشاعرُ فريد أبوسعدة علي معادلتين متناقضتين، هما الحبُّ أو اللاحبُّ، فكلاهما سينتج عنه الموت، فحب نتيجته الموت، واللاحب أيضا سيكون الموت مصيره، فهل كانت الحبيبة مجرد امرأة عابرة في حياة الذات الشاعرة؟ أم هي الحلم الأكبر، الأرض، الوطن، العدالة، الحقيقة، الفن؟ أم أنَّ هي الأشياء الجميلة التي تحرضنا علي محبتها في كل زمان ومكان . حتي وإن كان نهايتنا علي يديها، نتيجة محبتنا أو كراهيتنا لها . كما تطل المعادلة المفارقة في نهاية النص في قوله : ( يا من أسميكِ حلما تأجلَ، أكثر مما أطيق، وأطول مما ، سأبقي ! ) نلاحظ أن الحلم المؤجل الذي طال انتظاره مما أصاب الذات بالملل والقهر والفتور، ثم يحدث الارباك النصي في المشهد الثاني وأطول مما سأبقي ! وتصنع علامة التعجب دلالة المخاتلة المشهدية التي ينسجها النص نفسه بعيدا عن دور الشاعر وكأن النص هو الذي ينتج معانيه من شحوناته الداخلية فكلما يتحرك للأمام يضيء أكثر مما يتحرك للخلف، كالدينمو مثلا، وهذه المعادلة الرياضية التي أفاد منها شعر فريد أبو سعدة تجعله شاعرا مائزا في الشعرية العربية برمتها، لأنه ربط الثابت بالمتحرك والمتحرك بالموت، والموت بالحب، والحب بالفيزياء، كله تأويلات تكاد تقترب من الجوهر الحقيقي لشعر فريد أبو سعدة، لما يمثله من وعي شعري خالص، يدرك سقف القصيدة المكشوف كالأنثي التي يظن كل شخص مار بها تبتسم له وحده ولا تلتفت للآخرين، هو هذا شعر أبي سعدة، يرمي شباكه ومعادلاته في حجورنا ويرحل ليبني جبالا شاهقة من الشعر، أو تكمن فيها روح الشاعر القطب الذي لا يعنيه المعني بقدر ما يعنيه فناء المعني في روح الآخر العابر، من حال إلي حال ومن سبيل إلي آخر . اعتمد أيضا علي بنية الإبيجرام القصير الصادم حيث إنه يجمع مشهدين متناقضين تربطهما معادلة خفية، وهي الرغبة في الحياة الدائمة، رغم فنائها المحتم، فيقول فريد : " هنا حيث نبدو كأنا نجونا وكلُّ المدينةِ غارقة ٌ تحتنا " تحديدالفضاء النصي في الشعر من الأمور المهمة التي تميز بها شعر فريد في هذا الديوان تحديدا ( أنا صرت غيري )، فتتجلي روح المكان من خلال الإشارة إلي القريب ( هنا ) وكأن المكان يسكن الذات الشاعرة أو تسكن هي فيه تحاوره وتراقصه علي حافة الليل، والغرق والنجاة، هذه شعرية المتناقضات / المفارقات التي تخفي الكثير من جماليات النص تحتها، فقد امتص قصة ابن نوح عليه السلام التي سردها القرآن الكريم في سورة هود قال الله تعالي: " قَالَ سَآوِي إِلَي جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلاَّ مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ " (هود آية 43.) . هذا هو الابن الرابع واسمه يام وقيل كنعان، وهو الهالك، وأما الناجي من ولد آدم فهو سام، وحام، ويافث وكان كافراً، دعاه أبوه أن يؤمن ويركب معهم، فرفض وصعد إلي الجبل كان يظن أن الجبل سيعصمه من الموت . يتجلي التناص القرآني بشكل كبير في نصوص فريد أبو سعدة، وهذا لايخلو من دلالة تأويلية مهمة، وهي أنه العاشق الصوفي الأكبر في شعرية السبعينيات، بل إنه يحاول أن يتناص تناصا معاكوسا في مناطق شعرية كثيرة، الحدث الذي اتكأ عليه من خلال المدينة غارقة تحتنا، وهنا نستدعي الإشارة التناصية الخفية، وكأن الذات الشاعرة في علوها ترفرف بعيدة عن الغرق فهي ذات تنجو بنفسها متعلقة بمحبيها، فعشقها أنجاها مما كانت فيه من ذي قبل . ويقول متحدا بمقولات المتصوفة الكبار مستحضرا أبي منصور الحلاج : " أحبُّكِ هذا صحيحٌ أحبُّكِ هذا أكيدْ ولكن تري ما الذي كنتُ أعنيهِ حينَ صرختُ : أنا مغرمٌ بكِ هل كنتُ أعني اكتمالي؟ وأني بحبكِ أدركتُ معني وجودي وأني بدونكِ لاشيءَ أو كل شيءْ وأني هنا تحت هذي النجوم ِ وتحت عيونكِ أدركتُ ما بي وأدركتُ أن المدينة َ تركضُ تحت ثيابي وأن الإلهَ الرحيم َ، الإلهَ الذي أستجيرُ بهِ، عرشهُ ها هنا تحت جلدي أنا ! تتجلي روح المتصوف الأكبر الشاعر فريد أبو سعدة، في النص السابق، وقد لاحظتُ كثيرا في شعره هذه الظاهرة الفنية التي يتعايش فيها ببدنه وقلبه وملابسه التي لاتخلو من رائحة العشق الإلهي المنزه، النص محمل بالتأويلات المباشرة وتأويل التأويل، لأنه يمتح من معين السلف الكبار بروح الحداثة التي كانت تنطلق في زهدهم وألقهم الليلي البهيم، كما جاءت صورة المعشوقة التي أعلنت الذات لها الحب الصريح، فهي الإله الذي يسكن البدن يمشي به ويحب من أجله ذاته . يطرح أيضا الفكرة التي طرحنا في صدر كلامنا، وهي المعادلات المكتملة والناقصة المتحركة الثابتة في شعرية أبي سعدة، لأنه يقول : " وأني بحبكِ أدركتُ معني وجودي، وأني بدونكِ لاشيءَ " وكأن الحب هو الذي يحقق الكمال البشري للذات بل تطفو فوق سطح الحياة لتعرج إلي آفاق الغيم العابد، فربما يكون الكمال الذي يتحدث عنه الشاعر ما هو إلا الوجود الكامل للذات، وأنها بدون الحب الخالص للنفس من ناحية والفناء في المعشوق لن تكون الذات الشاعرة ذات قيمة حقيقية لها مداركها الواسعة التي تتدلي من العلو السماوي المسكون تحت عباءة الشعرية . سيظل النص الشعري لدي فريد أبو سعدة غامضا ومنغلقا أمام اتساع ثقافة الشاعر ونضجها، وتحققها الخالص، ومازال مشروعه الشعري والمسرحي يحتاجان الكثير من النبش والتفكيك الجماعي، كي يمنحنا النص بعض خباياه وهباته الكامنة . أعترفُ أنَّ دهشة نصه حطمتني فعجزت أدواتي عن القراءة، بل لجأت إلي المحايلة القرائية كثيرا في قراءة شعر أبي سعدة، لأننا أمام نص عظيم لشاعر عظيم أيضا، يتطلب جهود الباحثين عن جوهر الشعر وعوالمه السماوية .