كيف كنا نعيش في رأس البر: أم كلثوم وتوفيق الحكيم والصاوي وسليمان نجيب قامت الحرب في أوائل خريف 1939.. وأقبل صيف 1940 والطرق إلي أوروبا مسدودة أمام المصريين الذين اعتادوا تقضية فصل الصيف علي ضفاف بحيرات ايطاليا وسويسرا أو مصايف جبال الألب أوشواطئ الريفييرا والنورماندي، واضطر هؤلاء أن يقنعوا راضين أو كارهين برمل أسكندرية وشاطيء بورسعيد وبورفؤاد، ولكن غارات طائرات المحور ألمانية وإيطالية بدأت تزلزل الأسكندرية وبورسعيد وقواعد الجيش البريطاني علي امتداد قناة السويس، وفزع المصيفون، واضطروا أن ينزلوا في قناعتهم أو في تواضعهم درجة بل درجات وأن يلجأوا إلي مصيف رأس البر المتواضع الهادئ الفقير،لأنه كان يومئذ المصيف الوحيد الأمين الذي ليس فيه أهداف عسكرية تغري طائرات المحور، بل ليس فيه ما يساوي قنبلة واحدة، ولأول مرة في تاريخه عرف مصيف رأس البر معني الإقبال ومعني (العز) ومعني الزحام، ولأول مرة سمعت رأس البر في شوارعها ألقاب أصحاب المقام الرفيع والدولة والمعالي،بل ألقاب الجلالة والسمو،فصاحبة الجلالة نازلي ملكة مصر السابقة وبناتها صاحبات السمو يقمن في فندق كريستال علي الضفة الشرقية للنيل أمام رأس البر،ورفعة النحاس باشا وأسرته يقيمون في أحد ملاحق فندق كولرتيل، وصاحبا الدولة إسماعيل صدقي باشا وعبد الفاتح يحيي باشا يقيمان في فندق مارين فؤاد، ومعالي مكرم عبيد باشا يقيم بجناح بفندق كورتيل لكي يكون بالقرب من صديقه وزعيمه الجليل، وعلي الشاطئ الرملي البدائي الساذج خطرت الغزلان، الغواني والغانيات يرتدن ثياب الاستحمام وأحدث أزياء الصيف التي كن اشترينها من دور الأزياء في دوفيل،ونيس،وكان، وروما، وباريس. الآن في رأس البر بعد دوفيل وفينسيا وكان ومونت كارلو،ما أبعد الشقة،ولكنها الحرب! كانت لي عشة صغيرة علي شاطئ البحر مباشرة، وأنا من هواة رأس البر حتي ومن قبل قيام الحرب، كانت عشتي الصغيرة أشبه بدار ضيافة للأصدقاء،فقد كنت أرجوهم أن يقيموا معي ويؤنسوا وحدتي،وكانوا يتفضلون بقبول الرجاء، وكان يحدث أن أترك رأس البر إلي القاهرة لعمل ما ثم أعود إلي عشتي بعد يومين أو ثلاثة فأجد أن صديقا أو صديقين قد حضرا أثناء غيابي واحتلا غرفة نومي، وهنا كان نزلاء العشة يجتمعون في هيئة"لجنة طوارئ"، يبحثون لي عن "كنبة" أو مقعد طويل يضعونه في حجرة الطعام مثلا لأنام عليه، أو يجرون قرعة بيني وبين الصديقين اللذين احتلا حجرتي وفراشي،كان في العشة ثلاث حجرت للنوم وفي كل حجرة منها سريران، وكانت هذه الأسرة تتسع أحيانا لعشرة من الأصدقاء، عدا كنبتين أو أريكتين، في قاعة الطعام،ومثلهما في الشرفة التي تطل علي البحر، كنا إذن عشرة.. وكان العدد يرتفع في عطلات الأسبوع إلي خمسة عشر، عدا الأصدقاء الذين كانوا يقيمون في الفنادق ويفدون علي العشة للزيارة أو لتمضية السهرة، وكنا نسمي هؤلاء الزائرين"أعضاء شرف" ومنهم- أم كلثوم وحنفي محمود ويوسف وهبي ونجيب الريحاني الذي كان يصحب معه دائما إستفان روستي وحسن الأعور ودكتور سعيد عبده وقاسم علي ويوسف الشريعي وأحمد الألفي عطية، أما الأعضاء العاملون الذين كانوا يقيمون في العشة، فكان منهم سليمان نجيب وتوفيق الحكيم وكامل الشناوي والصاوي وإحسان عبد القدوس ومحمد عبد الوهاب، وفي شهر رمضان كان بيننا من يصوم ومن لا يصوم، الوحيد الذي كان يصوم ويؤدي فروض الصلاة هو سليمان نجيب. ولكنه رحمه الله كان في يومي السبت والأحد يتصل بالتليفون بمكاتب المراهنات في الأسكندرية ليملي رهانه في سباق الخيل،ثم يجلس في المساء إلي جانب التليفون ينتظر نتيجة السباق، وسخرجمال جبر ذات مرة وتساءل كيف يمكن الجمع بين الصلاة وصيام رمضان ولعب القمار، واحمر وجه سليمان نجيب غضبا، ونفرت عروق جبهته، وفتح فمه لكي يسب ويلعن، ولكنه تذكر انه صائم.. واستطاع بعد جهد أن يحكم أعصابه، ثم قال بهدوء للذي سخر منه : اللهم اني صائم، اللهم إني صائم يا ابن..، ولكن بعد أذان المغرب راح أعرف ازاي أتفاهم معاك يا ابن ستين..! كان طاهي العشة الأوسطي أحمد لا ينسي أن يرسل في الصباح الباكر إلي صديقنا توفيق الحكيم فصين من الثوم النيئ،كان القصصي المشهور يتناولهما علي الريق، ويمضغهما جيدا وهو يتلمظ ويمصمص شفتيه ويقول إن فص الثوم علي الريق يقي من واحد وأربعين مرضا منها الروماتيزم وتصلب الشرايين واليرقان وذات الرئة أو الدرن وتجلط الدم، إلي آخره، أما صديقنا الصاوي فكان ينصحنا دائما بالإقلال من طعام العشاء ويقول "اقلل طعامك تحصد منامك"، ومن ثم كان يعزف عن تناول اللحوم الحمراء في العشاء ويكتفي بطبق من البسطرمة المقلية بالسمن مع خمس أو ست بيضات، وكان يسمي هذا طعاما خفيفا يحصد معه المنام، أما سليمان نجيب فكان يحضر معه دائما من القاهرة (برطمانا) مملوءا بالشطة الحمراء والفلفل الأحمر المسحوق، وكان طبق الشطة يوضع دائما أمامه علي المائدة، يرش منه علي الحساء وعلي الأرز وعلي الملوخية أو البامية أو أي نوع من أنواع الخضراوات، وكانت أم كلثوم تضحك وتقول لسليمان وهو ينثر الشطة بسخاء علي طعامه،كانت تقول:" برضه ولو، والله لو تشرب الشطة بالملعقة، برضه ما فيش فايدة "،الذين يفهمون النكتة كانوا يضحكون، أما توفيق الحكيم فكان دائما يسأل: "يعني ايه؟.عاوزه تقول ايه؟مافيش فايدة في ايه؟ " ! كنا نخرج للنزهة علي شاطئ البحر سيرا علي الأقدام، وغالبا إلي حيث كانت تجلس أم كلثوم،كانت تقيم في عشة في آخر المصيف،الي الجنوب، وكانت أم كلثوم تجلس دائما أمام عشتها علي الشاطئ تحت مظلة وفي يدها كتاب، وكنا نحييها ونجلس علي الرمال حولها، وبعد أن توزع نكاتها علينا بالعدل والقسطاس كانت أحيانا تسألني: طابخين ايه النهارده عندكم؟ وكنت أحيلها علي سليمان نجيب لأنه كان الوحيد الذي يهتم بالمطبخ وما يجري فيه، والوحيد الذي كان يشترك مع الطاهي الأوسطي احمد في إعداد قائمة الطعام، وكانت الأطباق المفضلة عند أم كلثوم هي البط علي الطريقة الدمياطية، والأوز بالملوخية والرقاق، وورق العنب والكوارع واللحم والحمام، فإذا تصادف ان يكون أحد هذه الأطباق في قائمة طعام اليوم قالت المطربة الذواقة علي الفور: " طيب اعملوا حسابي بأه، جاية اتعشي النهارده معاكم"، وكانت السهرات التي تحضرها أم كلثوم علي رأسها تسخر من الذين يأكلون بشهية، وتسخر من الذين يأكلون بدون شهية، وتروي القصص، أو تتحدث عن الحرب أو في السياسة الداخلية، أو خبرا عن هذا وذاك، نتناول سيرة أحد المصطافين أو إحدي المصطافات، وغالبا الاثنين معا، فتصرخ أم كلثوم : "أعوذ بالله من لسانكم اللي زي المبرد "،ولكنها مع ذلك تشترك معنا بنصيب الأسد في الحديث،وفجأة ننتبه لشئ ما،وتخفت الأصوات ثم تسكت تماما، فقد بدأت أم كلثوم (تدندن) وهي تبتسم لنا كأنها تتحدانا أن نستمر في حديثنا إذا استطعنا،ويعلو النغم قليلا،قليلا، ويرتفع، ثم ينطلق قويا يجلجل،وتختفي الابتسامة، وتتوه عيناها فقد نسيتنا جميعا ونسيت كل ما حولها، وهي تغني لنفسها، أدور بعيني علي الحاضرين،هذا أحمد الألفي عطية قد أطبق بأسنانه علي راحتيه يعض فيها لكي يحبس في حلقه صرخات الإعجاب،وإذا أفرجت أسنانه عن الراحة الملهوثة خرج من بين شفتيه زفير وحشرجة (أه يا خرابي..يا خرابي ياني)، وسليمان نجيب يشد في شعر رأسه،ثم يركل بعصبية، وهنا يتراجع توفيق الحكيم بمقعده إلي الوراء بعيدا فقد أصيب بإحدي (رفصات) سليمان نجيب، وحفني محمود مغمض عينيه، ورأسه بين يديه، وتوفيق الحكيم يهز رأسه ويمصمص شفتيه، والصاوي أحمر العينين يغالب النعاس فقد كان صديقنا الذي يسهر في عمله الصحفي إلي الصباح، كان في تلك الأيام لا يطيق السهر بعد العاشرة مساء، واذا ما انتهت أم كلثوم من الغناء..سمعنا دوي التصفيق خارج العشة، فنخرج إلي الشرفة المطلة علي البحر ونجد عشرات وعشرات من سكان العشش المجاورة الذين كانوا أقبلوا علي غناء أم كلثوم قد افترشوا رقعة الرمال التي تفصل بين العشة ومياه البحر، ويستأذن الصاوي وينسحب إلي غرفة نومه وفراشه، ونجلس نحن علي الشرفة.. ونمضي السهرة في الحديث، وكم سمعنا وكم روينا في هذه السهرات، ويوسف الشريعي وقصصه عن ثارات أبناء الصعيد الأعلي، وأم كلثوم والصفحات المجهولة من تاريخ كفاحها المضني في دنيا الغناء، ومحمد عبد الوهاب وكيف أتي يوم كاد يفقد فيه صوته، وكان غلاما سنه بضع عشرة سنة، والذين يدن لهم بالفضل والجميل، مصطفي رضا وأحمد شوقي وحسن أنور، ويوسف وهبي ومغامراته أيام الشباب في إيطاليا، وأحمد الصاوي وجولاته وغزواته في باريس، وتوفيق الحكيم و"سرحانه" عندما كان "يسرح" ويسير علي غير هدي في أزقة مونتمارتر أو شوارع الحي اللاتيني الضيقة، أو يجلس في مقهي أو في بار قديم يتوحي من "الجو" المحيط به مادة لقصة أو لونا يرسم به شخصية ما في قصة ما، وفي رأس البر وعلي شرفة هذه العشة كتب صديقنا الصاوي قصته " الشيطان لعبته امرأة"، وكان يقوم بعد مبكرا ويجلس في مقعد كبير ويسند الورق إلي ركبتيه العاريتين إلا من سروال "الشورت" قصير ويكتب، ثم ينظر إلي البحر ويطيل النظر كأنه يريد أن يجمع من وراء الأفق البعيد ذكريات الماضي البعيد. وفي رأس البر وعلي نفس الشرفة ولدت في رأس أديبنا الفيلسوف نظرية (التعادلية) وقد ولدت يومئذ في لفائف من الغموض والإبهام، فكان توفيق الحكيم يحدثنا أو يحاضرنا فيها وهو لا يدري علي وجه التحديد في أي موضوع يتحدث فقد كان المولود او كانت الفكرة يومئذ شيئا لا ذات له ولا كيان.. ولا اسم يعرف به بين الأسماء. وكان لابد لصديقنا الأديب أن ينتظر اثنتي عشرة سنة قبل أن يعثر علي الذات والكيان والاسم، وينضو عن المولود لفائف الغموض والإبهام! محمد التابعي أخبار اليوم - مارس 1952