حملة لتوفير أجهزة كمبيوتر.. دعوات لتأهيل المدارس لتعليم التكنولوجيا | تفاصيل    تراجعت على العربات وبالمحال الصغيرة.. مساعٍ حكومية لخفض أسعار سندوتشات الفول والطعمية    وفقا لوزارة التخطيط.. «صيدلة كفر الشيخ» تحصد المركز الأول في التميز الإداري    الجيش الأوكراني: 96 اشتباكا قتاليا ضد القوات الروسية في يوم واحد    طائرات جيش الاحتلال تشن غارات جوية على بلدة الخيام في لبنان    3 ملايين دولار سددها الزمالك غرامات بقضايا.. عضو مجلس الإدارة يوضح|فيديو    كرة سلة - ال11 على التوالي.. الجندي يخطف ل الأهلي التأهل لنهائي الكأس أمام الجزيرة    المقاولون العرب يضمن بقاءه في الدوري الممتاز لكرة القدم النسائية بعد فوزه على سموحة بثلاثية    تصريح مثير للجدل من نجم آرسنال عن ليفربول    السجن 15 سنة لسائق ضبط بحوزته 120 طربة حشيش في الإسكندرية    إصابة أب ونجله سقطا داخل بالوعة صرف صحي بالعياط    خناقة شوارع بين طلاب وبلطجية داخل مدرسة بالهرم في الجيزة |شاهد    برومو حلقة ياسمين عبدالعزيز مع "صاحبة السعادة" تريند رقم واحد على يوتيوب    رئيس وزراء بيلاروسيا يزور متحف الحضارة وأهرامات الجيزة    بفستان سواريه.. زوجة ماجد المصري تستعرض جمالها بإطلالة أنيقة عبر إنستجرام|شاهد    ما حكم الكسب من بيع التدخين؟.. أزهري يجيب    الصحة: فائدة اللقاح ضد كورونا أعلى بكثير من مخاطره |فيديو    نصائح للاستمتاع بتناول الفسيخ والملوحة في شم النسيم    بديل اليمون في الصيف.. طريقة عمل عصير برتقال بالنعناع    سبب غياب طارق مصطفى عن مران البنك الأهلي قبل مواجهة الزمالك    شيحة: مصر قادرة على دفع الأطراف في غزة واسرائيل للوصول إلى هدنة    صحة الشيوخ توصي بتلبية احتياجات المستشفيات الجامعية من المستهلكات والمستلزمات الطبية    رئيس جهاز الشروق يقود حملة مكبرة ويحرر 12 محضر إشغالات    أمين عام الجامعة العربية ينوه بالتكامل الاقتصادي والتاريخي بين المنطقة العربية ودول آسيا الوسطى وأذربيجان    سفيرة مصر بكمبوديا تقدم أوراق اعتمادها للملك نوردوم سيهانوم    مسقط تستضيف الدورة 15 من مهرجان المسرح العربي    فيلم المتنافسون يزيح حرب أهلية من صدارة إيرادات السينما العالمية    إسرائيل تهدد ب«احتلال مناطق واسعة» في جنوب لبنان    «تحيا مصر» يوضح تفاصيل إطلاق القافلة الخامسة لدعم الأشقاء الفلسطينيين في غزة    وزير الرياضة يتابع مستجدات سير الأعمال الجارية لإنشاء استاد بورسعيد الجديد    الاتحاد الأوروبي يحيي الذكرى ال20 للتوسع شرقا مع استمرار حرب أوكرانيا    مقتل 6 أشخاص في هجوم على مسجد غربي أفغانستان    بالفيديو.. خالد الجندي: القرآن الكريم لا تنتهي عجائبه ولا أنواره الساطعات على القلب    دعاء ياسين: أحمد السقا ممثل محترف وطموحاتي في التمثيل لا حدود لها    "بتكلفة بسيطة".. أماكن رائعة للاحتفال بشم النسيم 2024 مع العائلة    القوات المسلحة تحتفل بتخريج الدفعة 165 من كلية الضباط الاحتياط    جامعة طنطا تُناقش أعداد الطلاب المقبولين بالكليات النظرية    الآن داخل المملكة العربية السعودية.. سيارة شانجان (الأسعار والأنواع والمميزات)    وفد سياحي ألماني يزور منطقة آثار بني حسن بالمنيا    هيئة الرقابة النووية والإشعاعية تجتاز المراجعة السنوية الخارجية لشهادة الايزو 9001    مصرع طفل وإصابة آخر سقطا من أعلى شجرة التوت بالسنطة    رئيس غرفة مقدمي الرعاية الصحية: القطاع الخاص لعب دورا فعالا في أزمة كورونا    وزير الأوقاف : 17 سيدة على رأس العمل ما بين وكيل وزارة ومدير عام بالوزارة منهن 4 حاصلات على الدكتوراة    «التنمية المحلية»: فتح باب التصالح في مخالفات البناء الثلاثاء المقبل    19 منظمة حقوقية تطالب بالإفراج عن الحقوقية هدى عبد المنعم    رموه من سطح بناية..الجيش الإسرائيلي يقتل شابا فلسطينيا في الخليل    تقرير حقوقي يرصد الانتهاكات بحق العمال منذ بداية 2023 وحتى فبراير 2024    مجهولون يلقون حقيبة فئران داخل اعتصام دعم غزة بجامعة كاليفورنيا (فيديو)    حملات مكثفة بأحياء الإسكندرية لضبط السلع الفاسدة وإزالة الإشغالات    «الداخلية»: تحرير 495 مخالفة لعدم ارتداء الخوذة وسحب 1433 رخصة خلال 24 ساعة    "بحبها مش عايزة ترجعلي".. رجل يطعن زوجته أمام طفلتهما    استشاري طب وقائي: الصحة العالمية تشيد بإنجازات مصر في اللقاحات    إلغاء رحلات البالون الطائر بالأقصر لسوء الأحوال الجوية    عبدالجليل: سامسون لا يصلح للزمالك.. ووسام أبوعلي أثبت جدارته مع الأهلي    دعاء آخر أسبوع من شوال.. 9 أدعية تجعل لك من كل هم فرجا    مفتي الجمهورية مُهنِّئًا العمال بعيدهم: بجهودكم وسواعدكم نَبنِي بلادنا ونحقق التنمية والتقدم    نجم الزمالك السابق: جوميز مدرب سيء.. وتبديلاته خاطئة    برج القوس.. حظك اليوم الثلاثاء 30 أبريل: يوم رائع    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



السلطة الفرنسية وإشكالية كتابة تاريخ‮ ‬
حملة‮ "‬جيش الشرق‮ "‬ علي مصر في القرن ال‮ ‬19
نشر في أخبار الحوادث يوم 27 - 08 - 2016

يتفق ذلك مع ما شهدته فترة ما بعد الحملة الفرنسية علي مصر والشام من حيث الشغف والولع بكتابة تاريخ تلك الفترة القصيرة،‮ ‬التي امتدت حوالي ثلاث سنوات،‮ ‬بغية تسجيل شهادات من عاصروها ونشرها في شكل يوميات أو مذكرات‮.‬
من هذا المنطلق يبرز سؤال وهو هل يصح أن تؤرخ مثل هذه الكتابات،‮ ‬أوالمذكرات،‮ ‬لأحداث حملة‮ "‬جيش الشرق"علي مصر وتأثيرها بل والاعتماد علي وجهات نظر أصحابها في توثيق أحداث تلك الفترة؟‮ ‬
إذا كان‮ "‬التاريخ‮" ‬يضع في الاعتبار أن الحقيقة‮ "‬هي كل ما حدث‮"‬،‮ ‬كما يقول هيجل،‮ ‬فإنه في ذات الوقت يخدم قضايا أخري موجهة إلي مقاصد معينة‮. ‬لذا فإن عرض التاريخ وتفسيره للأحداث تخضع لانفعالات بزعم امتلاك كاتبها الحقيقة المطلقة للإبقاء علي الأشياء كما هي أوعلي الأقل‮ "‬التقليل من قدر كل ما يعترض تلك الرؤية المطروحة‮"‬،‮ ‬وهنا يصبح التاريخ مذهبا إيدولوجيا يفقد جزءا أصيلا من وظيفته الأساسية‮.‬
وما زال الموقف من آثار الحملة الفرنسية علي مصر والشام قضية خلافية بين طرفيها،‮ ‬مصر وفرنسا،‮ ‬رغم مرور أكثر من مائتي عام علي نزول الفرنسيين أرض مصر عام‮ ‬1798،‮ ‬فبين اتجاه يراها‮ ‬غزوا عسكريا استعماريا حمل آثارا سلبية في حياة المصريين،‮ ‬خرج آخرون برؤية اعتبرتها فاتحة خير لمصر وبزوغ‮ ‬عصر جديد للنهضة الحديثة أنقذ البلاد وانتشلها من ظلام ثلاثة قرون هي عمر الحكم العثماني للمنطقة‮.‬
ويرصد الباحث أو المهتم بتاريخ الحملة الفرنسية علي مصر تأثيرا كبيرا علي كتابات تاريخ تلك الفترة لا سيما خلال النصف الأول من القرن التاسع عشر،‮ ‬كما يلاحظ وجود حالة انقسام بين الكتّاب الفرنسيين أنفسهم ممن كانوا شهود عيان علي أحداث الفترة بحسب نزعاتهم الفكرية ودرجة ولائهم لبطل الحملة وقائدها،‮ ‬نابليون بونابرت،‮ ‬فجاءت شهاداتهم متفاوتة من حيث وقائع السرد والتفسير‮.‬
وافقت بعض تلك الشهادات أو‮ "‬مذكرات قادة وضباط وجنود الحملة‮" ‬أهواء بونابرت الرامية إلي التعتيم علي فشل حملته العسكرية علي مصر والشام،‮ ‬ذلك الهاجس الذي طارده طوال حياته حتي نفيه في جزيرة سانت هيلان،‮ ‬في حين جاءت شهادات أخري كشف أصحابها عن أحداث تتعارض مع طموح القائد الشاب وتشوه صورة المجد وتحقيقها لانتصارات لفرنسا وثورتها‮.‬
وهنا نرصد ثلاث نزعات فكرية سادت فرنسا خلال القرن التاسع عشر لعبت دورا مهما في كتابة تاريخ الحملة الفرنسية علي مصر‮:‬
‮(‬أولا‮) ‬نزعة فكرية جعلت من بونابرت نفسه نقطة انطلاق وبؤرة تمحورت حولها عملية سرد أحداث وتفسير وقائع الحملة،‮ ‬وهو‮ ‬اتجاه فكري ركز علي تمجيد شخصه أوالتستر،‮ ‬بصورة أو بأخري‮ ‬،‮ ‬علي مواطن ضعفه حتي لا تتسرب إلي نسيج المجتمع الفرنسي والرأي العام وتشوه مجده الأسطوري‮.‬
‮(‬ثانيا‮) ‬نزعة فكرية أعقبت سقوط بونابرت وتنحيه عن حكم البلاد عام‮ ‬1815‮ ‬بعد هزيمته في معركة ووترلو الشهيرة أمام الحلفاء‮ (‬روسيا والنمسا وبروسيا‮)‬،‮ ‬وهو اتجاه فكري دعمته الملكية الفرنسية العائدة والمتمثلة في أسرة بوربون‮ ‬ Bourbon (1815-1830) بهدف فضح الدعاية‮ "‬البونابرتية‮" ‬والحط من قدره ومجده،‮ ‬وركز أنصار هذا الاتجاه في كتاباتهم علي اعتبار حملة مصر أولي حملاته الفاشلة وبداية سلسلة من الهزائم العسكرية لفرنسا‮.‬
‮(‬ثالثا‮) ‬نزعة فكرية قومية حافظ أنصارها علي إنجازات الثورة الفرنسية وانتصاراتها العسكرية كإرث وطني لا يمكن بأي حال من الأحوال حصره في كنية شخص بعينه مهما عظم قدره،‮ ‬وهو اتجاه فكري ركز في كتاباته علي اعتبار حملة مصر واحدة من حروب الثورة المتميزة التي انطلقت بها عملية نشر مبادئ وقيم الثورة خارج حدود فرنسا‮.‬
اتخذت السلطة الفرنسية المتمثلة في شخص بونابرت في ذلك الوقت موقفا شديد الصرامة والعداء تجاه كل ما يكتب في مذكرات كتبها قادة أوضباط أوجنود بسطاء شاركوا في حملة‮ "‬جيش الشرق‮" ‬علي مصر والشام،‮ ‬وظهر ذلك جليا في تعامل السلطة مع مذكرات الجنرال رينيه‮ ‬کeynier التي نشرها في العام التالي علي خروج الجيش من مصر وعودته إلي فرنسا،‮ ‬عام‮ ‬1802،تحت عنوان‮ "‬مصر بعد معركة هيليوبولس‮ ‬Del'Egypte après la batailled'Héliopolis".
كشف رينيه في مذكراته حالة التخبط التي أصابت الجيش الفرنسي في مصر والشام وما تكبدته البلاد من خسائر بشرية ومادية فادحة فاقت قدرة الإدارة الفرنسية في ذلك الوقت،‮ ‬فلم يجد بونابرت سبيلا سوي إصدار قرار بحظر تداول تلك المذكرات وملاحقتها في المكتبات ومصادرة نسخها‮.‬
أدرك نابليون منذ الوهلة الأولي أن نشر حقائق أو مجرد معلومات بشأن حملته العسكرية علي مصر قد يفقده رصيدا ثمينا لدي الرأي العام الفرنسي ويكبده خسائر سياسية،‮ ‬فضلا عن كون هذه النوعية من المذكرات تفتح الباب علي مصراعية أمام معسكر خصومه للثأر منه وربما محاسبته علي نتائج حملته سياسيا وعسكريا وتصفية حسابات‮.‬
في الوقت عينه نجحت إنجلترا،‮ ‬العدو اللدود لفرنسا،‮ ‬في الحصول علي نسخة من مذكرات رينيه وترجمتها إلي اللغة الإنجليزية ونشرتها في نفس العام تحت عنوان‮ "‬StateofEgypt, AftertheBattleofHeliopolis[کeynier "‮ ‬وأشاد الناشر بحيدة رينيه التي تعلي من شأن عمله لدي المجتمع الإنجليزي‮.‬
أذكت مذكرات الجنرال رينيه ونشرها في مكتبات فرنسا رغبة لدي نابليون في محاولة التخلص من الوثائق والتقارير التي تدينه في دور الأرشيف الفرنسية،‮ ‬فنجده يرسل صديقه وسكرتيره الخاص لوي دو بورين‮ ‬Louis de Bourrienneفي‮ ‬17‮ ‬يونيو عام‮ ‬1802‮ ‬إلي المسؤول عن دور الأرشيف ومطالبته بتسليم كل ما بحوزته من أوراق خاصة ووثائق تتعلق بمصر،‮ ‬علي حين ذهبت بعض المصادر إلي حد الإشارة إلي رواية تقول إن بونابرت أصدر قرارا بحرقها كاملة عام‮ ‬1807 .
ظل بونابرت يطارد ويتعقب كل ما ينشر عن حملته علي مصر والشام،‮ ‬وبعد صدور مذكرات جندي فرنسي يدعي جاك ميوJacques Miot شارك في الحملة وفضح تلك الحالة السيئة التي كان عليها الجنود والجيش في مذكراته بعنوان‮ "‬مذكرات تاريخ الحملات علي مصر وسوريا خلال السنوات السادسة والسابعة والثامنة للجمهورية الفرنسية‮ ‬Mémoirespourservir à l'histoire des expéditionsenEgypte et enSyrie pendant les années »I, «II et «III de la کépubliquefrançaise" ،‮ ‬لذا اتخذ نابليون قرارا جديدا تخطي حدود مصادرة ما يكتب عن حملة مصر،‮ ‬وهو تشكيل لجنة معنية بمراجعة وتنقيح الكتب قبل نشرها وشمل الإجراء كل ما يكتب عن الحملة علي مصر تحديدا أو حروب الثورة عموما‮.‬
ويذكر الكاتب فليكس بونتاي‮ ‬Félix Ponteil في كتابه بعنوان‮ "‬نابليون الأول ونظام السلطة في فرنسا‮ ‬Napoléon 1er Et L'organisationAutoritaire De La France" ‮ ‬أن توطيد حكم نابليون جعله يحكم من رقابته علي نشر مذكرات رجاله العسكريين الذين شاركوه في حملته علي مصر والشام،‮ ‬وإعطاء صلاحيات واسعة لمجلس الدولة وصلت إلي حد تحديد عدد نسخ الكتاب و حذف معلومات يعتبرها المجلس‮ ‬غير مناسبة،‮ ‬وأحيانا فرض‮ ‬غرامات مالية علي الكتّاب أو إصدار قرارات اعتقال ومصادرة ممتلكاتهم،‮ ‬فالمجلس هو جهة ترعي حماية مصالح فرنسا المتمثلة في دولة الإمبراطور بونابرت‮.‬
في خضم تلك الأحداث طرح نابليون فكرة تعمل كبديل عن تلك الرقابة المسيطرة علي ما يراه‮ " ‬فوضي كتابة تاريخ حملته‮"‬،‮ ‬وهي فكرة تهدف إلي صياغة قصة حملة مصر من خلال نشر مذكرات أخري كتبها قادة يدينون له بالولاء والحب وتجميعها في كتاب يحمل عنوان‮ "‬مذكرات عن مصر‮ ‬Mémoiressurl'Egypte ".
ظلت حملة مصر تلاحق بونابرت طيلة حياته،‮ ‬لذا نراه يحرص كل الحرص علي إملاء تصوراته وتفسيراته الخاصة بشأن حملته العسكرية علي مصر والشام مرتين‮:‬
الأولي علي نحو موجز ضمن سرد وقائع تاريخ حروبه في مذكرات تعرف باسم‮ "‬مذكرات سانت هيلان‮ ‬Le MémorialdeSainte-Hélène" والمعروفة باسم‮ "‬الميموريال‮" ‬والتي أملاها علي الكونت لاكاس‮.‬
والثانية علي نحو مفصل في مذكرات الشهيرة التي أملاها علي الجنرال برتران‮ ‬Bertrand والتي نشرت عام‮ ‬1847‮ ‬بعنوان‮ "‬حملات مصر وسوريا1798‮-‬1799‮ ‬مذكرات تاريخ نابليون كما أملاها بنفسه في سانت هيلان»‬ampagnes de Egypte et de Syrie, 1798-1799. Mémoires pour servir à l'histoire de Napoléon, dictés par lui-mème à Sainte-Hélène, et publiés par le général Bertrand،‮ ‬والتي أعاد نشرها المؤرخ الفرنسي هنري لورانس‮ ‬ Henry Laurensفي عام‮ ‬1998‮ .‬
مكنت هذه الهيمنة وإحكام قبضة بونابرت علي كل ما ينشر في عصره بشأن حملة جيش الشرق والتهديد بعقوبة الكاتب والناشر وإخضاعهم لسلطة ما أطلق عليهم الرقباء‮ ‬les »‬enseurs،‮ ‬كما يشير بونتاي في كتابه المذكور،‮ ‬من انفراد القائد بالسلطة والساحة الإعلامية معا وصناعة مجد وأسطورة بذل من أجلهما الغث والثمين‮.‬
شهدت ساحة نشر مذكرات العسكريين نشاطا كبيرا بعد سقوط نابليون عام‮ ‬1815‮ ‬وعودة الملكية لفرنسا،التي استفادت بدورها من حالة السخط والاستياء من رقابة نابليون السابقة علي حركة نشر وكتابة كل ما يتعلق بحملته علي مصر،‮ ‬لذا أطلقت الملكية الجديدة العنان لمذكرات ضباط الحملة وهو ما يتضح جليا في إشارة امتنان كتبها ناشر يدعي موريسو عام‮ ‬1818‮ ‬في مقدمة كتاب بعنوان‮ "‬مذكرات عن حملة مصر‮ ‬Mémoiressurl'expeditiond'Egypte" التي كتبها النقيب جوزيف ماريه مواريه‮ ‬Joseph-Marie Moiret،‮ ‬وهو أحد ضباط الحملة،‮ ‬إذ يقول الناشر المحتمل لتلك المذكرات إنه‮ "‬أصبح من الممكن الآن كشف الحقيقة،‮ ‬لا يوجد سبب للصمت،‮ ‬ولم نعد نخشي سطوة الرقباء‮".‬
وحتي لا يتبادر إلي الذهن أن المناخ الجديد للسلطة اتسم بحرية الرأي والتعبير،‮ ‬نشير إلي أن الملكية اتخذت موقفا معاكسا لموقف بونابرت لكنه مماثل من حيث الهدف،‮ ‬إذ فرضت من جانبها رقابة صارمة وعملت علي تقييد نشر مذكرات أو كتابات تجعل من بونابرت بطلا قوميا أو تفتح الطريق أمام الجمهوريين من أنصاره لرد اعتباره،‮ ‬وهو ما أكده الضابط هويه‮ ‬E.L.F. Hauet في مقدمة مذكراته بعنوان‮ "‬حملة مصر‮: ‬مذكرات ضابط في الجيش الفرنسي‮ ‬Expéditiond'Egypte (1798-1801):Mémories d'un officier de l'arméefrancaise" مشيرا إلي أن الملكية‮ "‬أجبرت الصحف علي الحط من قدر الأمجاد العسكرية لتلك الفترة‮".‬
كما تطرق شامبليون‮ -‬فيجاك في كتابه بعنوان‮ "‬فورييه ونابليون،‮ ‬مصر ومئة يوم‮ ‬Fourier etNapoléon, l'Egypte et les cent jours" الصادر في باريس عام‮ ‬1844‮ ‬إلا أن الرقابة الملكية طالت مجلدات موسوعة‮ "‬وصف مصر‮ ‬Description de l'Egypte" وبدأت بدورها تراجع كل صغيرة وكبيرة في متن العمل لا لشئ سوي لكونه المشروع الثقافي الضخم الذي ينسب بالطبع إلي بونابرت،‮ ‬بغية حذف كل ما يشير بوضوح إلي شخصه‮.‬
ونلاحظ أن كلا نظامي الحكم في فرنسا في ذلك الوقت،‮ ‬الإمبراطوري أوالملكي،‮ ‬اتفقا علي فرض رقابة علي كل ما ينشر من حقائق تتعلق بحروب تلك الفترة،‮ ‬والتي يطلق عليها حروب الثورة الفرنسية،‮ ‬ويؤكد هويه تلك الرؤية مشيرا إلي أن حملة مصر عانت من التشويه وتزييف الحقائق علي مدار‮ ‬30‮ ‬عاما من عودة جيش الشرق إلي بلاده،‮ ‬بل نجده في مقدمة كتابه يصف تلك الكتابات بأنها‮ "‬منتج يتسم بالغباء‮"‬،‮ ‬في حين وصفها الجنرال بورين،‮ ‬وزير الخارجية في عهد بونابرت،‮ ‬في مذكراته بأنها كتابات لمجموعة من‮ "‬المحتالين‮" ‬أضفوا عليها‮ "‬الطابع التاريخي‮".‬
وانقلبت الطاولة من جديد علي العسكريين من شهود عيان الحملة علي مصر الموالين لبونابرت،‮ ‬وأحكمت سلطة البوربون القبضة علي مذكراتهم وشهاداتهم بتهمة الولاء له ولفترة حكمه،‮ ‬فساد الصمت من جديد أقلاما انتظرت فرصتها التاريخية لسرد شهاداتها بنوع من الاستقلالية،‮ ‬وتصحيح المسار،‮ ‬بحسب وجهة نظرهم،‮ ‬بعيدا عن ضغوط تفرضها أنظمة حاكمة‮.‬
ويذكر الكولونيل شالبران‮ ‬»‬halbrand في كتابه‮ "‬الفرنسيون في مصر أو ذكريات حملتي مصر وسوريا‮ ‬Les FrançaisenEgypte, ou Souvenirs des campagnesd'Egypteet de Syrie" المنشور في باريس عام‮ ‬1855‮ ‬أن تلك الضغوط دفعت جيل العسكريين المتقاعدين من الخدمة العسكرية والموالين لبونابرت إلي عقد لقاءات ومناقشة كل ما ينشر عن حملته مع إلي نحو دفع الكثيرين إلي مراجعة ما لديهم من وثائق للشروع في كتابة مذكرات تخدم تصحيح مسار تلك التفسيرات التي اعتبروها مغلوطة شوهت حملتهم وقائدهم‮.‬
كان خروج هؤلاء العسكريين عن صمتهم ضمن حالة سخط استشرت في المجتمع الفرنسي بسبب مقت الأوضاع التي آلت إليها فرنسا بعد انهيار إمبراطورية بونابرت،‮ ‬فضلا عن تأجيج حالة سخط مجتمعي بسبب حركة القمع التي لجأت إليها الملكية،‮ ‬الأمر الذي أفضي إلي ثورة أطاحت بأسرة البوربون في عام‮ ‬1830،‮ ‬كما أشار محمد فؤاد شكري في كتابه المهم‮ "‬الصراع بين البرجوازية والإقطاع‮ ‬1789‮-‬1848‮".‬
أتاحت تلك الظروف علو شأن مذكرات بونابرت،‮ ‬أو‮ "‬الميموريال‮" ‬السابق ذكرها،‮ ‬ووجد أنصاره من العسكريين شهود العيان فرصة ملائمة لرد اعتبار جيش الشرق وقائدهم،‮ ‬فاجتمعت رغبة جيل جديد من الشباب الفرنسي الطامح إلي معرفة تاريخ بلاده وحروب ثورته مع رغبة قادة يتوقون إلي سرد وقائع حملتهم العسكرية علي مصر والشام من منظورهم الخاص‮.‬
لم يطرأ تغير كبير علي الساحة السياسية الفرنسية،‮ ‬ولم تفرز الثورة والإطاحة بأسرة البوربون الحاكمة نظاما جمهوريا جديدا،‮ ‬بل يشير محمد فؤاد شكري في كتابه السابق،‮ ‬إلي أن أوروبا كانت تخشي من قيام نظام جمهوري حربي في فرنسا علي‮ ‬غرار ما أعقب الثورة الفرنسية عام‮ ‬1789،‮ ‬وكان من البديهي أن تواصل أسرة‮ "‬أورليانOrléans" الحاكمة الجديدة نوعا من الرقابة للبقاء في السلطة،‮ ‬فساد من جديد حالة من الحذر والحيطة تجاه نشر مذكرات تعلي من شأن نابليون والنظام الجمهوري‮.‬
ومن الأمثلة علي ذلك شهادة الضابط شارل ريشاردو‮ ‬کichardot»‬harlesويومياته خلال الحملة علي مصر بعنوان‮ " ‬مذكرات جديدة عن حملة الجيش الفرنسي علي مصر وسوريا‮ ‬Nouveaux Mémoiressurl'arméefrançaiseenEgypte et enSyrie " التي باتت جاهزة لحين سقوط الملكية وإعلان الجمهورية الفرنسية الثانية عام‮ ‬1848،‮ ‬كذلك شهادة الجنرال بارون ديفيرنوا‮ ‬Baron Desvernoisالذي شارك في معظم الحروب الفرنسية وعزوفه عن نشرها بسبب سخطه علي النظام الملكي في فرنسا كما يشير في مذكراته بعنوان‮ "‬مع بونابرت في إيطاليا ومصر،‮ ‬مذكرات الجنرال بارون ديفيرنوا‮ ‬Avec Bonaparte enItalie et enEgypte, Memoires du general Baron Desvernois".‮ ‬وإن كانت الرقابة علي نشر مذكرات ويوميات العسكريين واختلاف نزعاتهم الفكرية واتجاهاتهم السياسية قد أسهمت في تفاوت ملامح الصورة في تلك الفترة خلال النصف الأول من القرن التاسع عشر،‮ ‬فإن حالة الانفراجة الفكرية التي سادت بدايات القرن العشرين أتاحت فرصة نشر نفس الوثائق بطريقة مستقلة حسبما أشار لاجونكيير‮ ‬La Jonquiere في كتابه‮ "‬حملة مصر‮ ‬l'expéditiond'Egypte"،‮ ‬المكون من خمسة مجلدات نشرها بين عامي‮ ‬1897‮ ‬و‮ ‬1906‮ ‬،‮ ‬قائلا إن الظروف الحرجة لفرنسا في تلك الفترة هي التي أعاقت نشر الحقائق،‮ ‬مضيفا‮ " ‬الآن وبعد مرور قرن علي الحملة،‮ ‬فقد الجدل بشأنها جدواه،‮ ‬كما تراجعت الأسطورة،‮ ‬وأصبح التاريخ الموضوعي المحايد كتابا مفتوحا‮".‬
عكست كتابة تاريخ حملة‮ "‬جيش الشرق‮" ‬علي مصر والشام حالة التخبط التي سادت الصعيدين العسكري والسياسي خلال النصف الأول من القرن التاسع عشر‮. ‬وإن كان التيار الفكري القومي أو الثوري في كتابة تاريخ تلك الحملة قد تراجعت قوته مع عودة العهد الملكي لفرنسا،‮ ‬إلا أن النصف الثاني من نفس القرن شهد إنطلاقة جديدة لتلك النزعة الفكرية و بقوة،‮ ‬لاسيما في أعقاب ثورة‮ ‬1871‮ ‬وتأسيس الجمهورية الفرنسية الثالثة عام‮ ‬1880،‮ ‬وهو الاتجاه الذي خدم التوسعات والنزعات الاستعمارية فيما بعد حتي عام‮ ‬1940،‮ ‬وركز علي سرد وقائع الحروب الفرنسية وحروب بونابرت تحديدا وإبراز ما حققته تلك الحروب من إنجازات لفرنسا‮. ‬
ونري أنه لا يمكن إغفال القراءة مذكرات قادة وضباط الحملة الفرنسية علي اختلاف مذاهبها ومنابعها الفكرية،‮ ‬ودراستها جيدا لكونها تؤرخ حدثا يعد‮ "‬محطة تاريخية‮" ‬مهمة علي طريق كتابة تاريخ مصر الحديث،‮ ‬لكننا نفهم ذلك بالطبع علي اعتبار أن المقصود هو أنها محطة نرصد بها حالة الوعي بالهوة الحضارية بين مصر والغرب الأوروبي في تلك الفترة،‮ ‬أو كما يحلو للبعض وصفها ب"إفاقة حضارية‮" ‬للمصريين في نهايات القرن الثامن عشر الميلادي،‮ ‬لتبدأ مصر بعدها خطوات البناء الحديث بسواعد مصرية علي يد محمد علي بخبرات علمية فرنسية حتي نهاية القرن التاسع عشر‮.‬


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.