«التنظيم والإدارة» يتيح الاستعلام عن نتيجة مسابقة وظائف وزارة العدل    يونس: أعضاء قيد "الصحفيين" لم تحدد موعدًا لاستكمال تحت التمرين والمشتغلين    «الصناعات الهندسية» وجامعة بورسعيد يبحثان تأهيل الطلاب لسوق العمل    سعر طن الحديد اليوم الجمعة 7-6-2-2024 في المصنع وللمستهلك    «التنمية المحلية» في أسبوع.. تسليم مدفن صحي شبرامنت ومتابعة جهود «أيادي مصر»    قبل عيد الأضحى.. أسعار الأضاحي 2024 في الأسواق ومزارع الماشية    تموين الإسكندرية تشكل غرفة عمليات لمتابعة توافر السلع استعدادا لعيد الأضحى    رانيا المشاط تبحث مع وزير النقل الأذرى ترتيبات انعقاد لجنة التعاون المشتركة    الأمم المتحدة تدرج إسرائيل بالقائمة السوداء للدول المتورطة بإلحاق الأذى بالأطفال    زيلينسكي: الحرب الروسية ضد أوكرانيا نقطة تحول في تاريخ أوروبا    الأيرلنديون والتشيكيون يتوجهون لمكاتب الاقتراع في ثاني أيام انتخابات البرلمان الأوروبي    يورو 2024 – مدرسة هولندا الخاصة لغات.. لم ينجح أحد    ضياء السيد: حسام حسن غير طريقة لعب منتخب مصر لرغبته في إشراك كل النجوم    موعد أول أيام عيد الأضحى المبارك 2024 في مصر.. «كم يوما إجازة؟»    صدمته سيارة مسرعة.. الاستعلام عن صحة شخص أصيب فى حادث مروري بالهرم    100 لجنة لاستقبال 37 ألف و 432 طالباً وطالبة بامتحانات الثانوية العامة في المنيا    خلال ساعات.. تعرف على موعد نتيجة الشهادة الإعدادية فى محافظة قنا 2024    إخماد حريق داخل شقة سكنية فى المنيب دون إصابات    استجابة لأهالي الحي السابع.. إزالة إشغالات مقهى بمدينة نصر    محمد صابر عرب: أهم ما نملكه التراث وعملت 20 سنة في إدارة وتطوير مؤسسات ثقافية    وزيرة الثقافة وسفير اليونان يشهدان «الباليه الوطني» في الأوبرا    مسئولة فلسطينية: الموت جوعا أصبح حالة يومية فى قطاع غزة    «8 الصبح» يحتفي بذكرى ميلاد الفنان الراحل محمود مرسي.. شارك في 300 عمل فني    دعاء للمتوفى في العشر من ذي الحجة.. «اللهمّ اغفر لأمواتنا ذنوبهم»    داعية إسلامي: أبواب الخير كثيرة في ذي الحجة ولا تقف عند الصيام فقط    «السبكى»: توقيع عقدي تعاون لتعزيز السياحة العلاجية ضمن «نرعاك في مصر»    علي عوف: متوسط زيادة أسعار الأدوية 25% بسبب ارتفاع تكاليف الإنتاج    المتحدة للخدمات الإعلامية تعلن تضامنها الكامل مع الإعلامية قصواء الخلالي    واشنطن تطالب إسرائيل بالشفافية عقب غارة على مدرسة الأونروا    التعليم العالي: إدراج 15 جامعة مصرية في تصنيف QS العالمي لعام 2025    خالد جلال ناعيًا محمد لبيب: ترك أثرًا طيبًا    سلوى عثمان تكشف مواقف تعرضت لها مع عادل إمام    ذا جارديان: "حزب العمال البريطانى" قد يعلن قريبا الاعتراف بدولة فلسطينية    لوكاكو يكشف إمكانية إنتقاله للدوري السعودي في الموسم الجديد    تعرف على فضل صيام التسعة أيام الأوائل من ذي الحجة    إصابة 7 أشخاص إثر انقلاب ميكروباص بالطريق الدائري بالقليوبية    خلاف داخل الناتو بشأن تسمية مشروع دعم جديد لأوكرانيا    قافلة طبية مجانية بقرى النهضة وعائشة في الوادي الجديد    ارتفاع حجم التجارة الخارجية للصين بواقع 6.3% في أول 5 أشهر من 2024    خبراء عسكريون: الجمهورية الجديدة حاربت الإرهاب فكريًا وعسكريًا ونجحت فى مشروعات التنمية الشاملة    مداهمات واقتحامات ليلية من الاحتلال الإسرائيلي لمختلف مناطق الضفة الغربية    توقعات الأبراج اليوم الجمعة 7 يونيو 2024.. ترقيه جديدة ل«الحمل» و«السرطان»يستقبل مولودًا جديدًا    الإسكان: تم وجارٍ تنفيذ 11 مشروعًا لمياه الشرب وصرف صحى الحضر لخدمة أهالى محافظة مطروح    الأخضر بكامِ ؟.. سعر الدولار أمام الجنيه المصري في تعاملات اليوم الجمعة 7 يونيو 2024    تفشي سلالة من إنفلونزا الطيور في مزرعة دواجن خامسة بأستراليا    افتتاح المهرجان الختامي لفرق الأقاليم ال46 بمسرح السامر بالعجوزة غدًا    مفاجأة.. دولة عربية تعلن إجازة عيد الأضحى يومين فقط    الأوقاف تفتتح 25 مساجد.. اليوم الجمعة    رغم الفوز.. نبيل الحلفاوي ينتقد مبارة مصر وبوركينا فاسو .. ماذا قال؟    ما قانونية المكالمات الهاتفية لشركات التسويق العقاري؟ خبير يجيب (فيديو)    عيد الأضحى 2024| أحكام الأضحية في 17 سؤال    ساتر لجميع جسدها.. الإفتاء توضح الزي الشرعي للمرأة أثناء الحج    مجلس الزمالك يلبي طلب الطفل الفلسطيني خليل سامح    غانا تعاقب مالي في الوقت القاتل بتصفيات كأس العالم 2026    حظ عاثر للأهلي.. إصابة ثنائي دولي في ساعات    إبراهيم حسن: الحكم تحامل على المنتخب واطمئنان اللاعبين سبب تراجع المستوى    في عيد تأسيسها الأول.. الأنبا مرقس يكرس إيبارشية القوصية لقلب يسوع الأقدس    بمكون سحري وفي دقيقة واحدة .. طريقة تنظيف الممبار استعدادًا ل عيد الأضحى    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



يصنع جمالا في قلب الشقاء
قراءة في كتاب‮ "‬الشاعر والطفل والحجر‮" ‬فتحي عبدالسميع
نشر في أخبار الحوادث يوم 27 - 08 - 2016

بينما وأنت‮ ‬تقرأ كتاب الشاعر والطفل والحجر للشاعر فتحي عبدالحميد لابد وأن تشعر في كل صفحة بل وكل فقرة أن‮:‬
1‮ - ‬هناك طاقة شعرية متدفقة تتخلل هذا النص وتنتشر عبر صفحاته وأفكاره وسطوره وكأنه يكتب هنا نصا موازيا لكتاباته الشعرية الخالصة أو أنه يكتب نصا يمزج من‮ ‬إبداعاته الشعرية وكتاباته وأطروحاته النظرية أو البحثية عن الثأر والقربان المقدس والمهمشين‮.‬
2‮ - ‬وقد أعجبني ولفت اهتمامي في هذا الكتاب هذا الصدق والاخلاص والاعتراف بجوانب النقص والقصور في الرؤية والمعرفة وكذلك ذلك الدأب وتلك المثابرة وهذا الفهم الخاص للمعرفة والتطور والتصحيح الذاتي للأفكار والمفاهيم والرؤي والآليات‮.‬
3‮ - ‬عبر هذا الكتاب أكد فتحي عبدالسميع أهمية ما يسميه بالروح الشعرية التي تميز الانساني عن البشري،‮ ‬فالإنسان‮ "‬قد نجح في الرقي بفضل جوهره الإنساني،‮ ‬غير أن جوهره البشري لم يمت بل يصارع من أجل الوجود‮.. ‬هكذا‮: "‬يرتبط البشري بكل ما هو همجي أو بدائي أو‮ ‬غريزي أو يرتبط بالشر بينما ترتبط الروح الشعرية بكل ما هو إنساني‮ ‬،‮ ‬بالجانب الراقي الإبداعي السامي الأخلاقي البناء الذي يقاوم الهدم والمسخ والمسوخ والشرور والشياطين وقوي الظلام كلها الموجودة داخل البشري والذي يظل موجودا يقاومه الإنسان ويعلو ويرتقي من خلال استخدامه لكل ما هو راق وشعري أو يحوي بداخله طاقات الشعر وامكاناته الهائلة المتفجرة‮.‬
4‮ - ‬ليست الروح الشعرية خاصة بالشعراء وحدهم بل هي ملك لكل انسان،‮ ‬ملك لكل من يحاول أن يرتقي ويسمو ويبدع في أي مجال وهنا يقدم لنا فتحي عبدالسميع تمييزا بين كائنات تقف عند مرحلة الحاجات البيولوجية الأساسية كالطعام والشراب والجنس والامتلاك وغيرها وهي مرحلة أو مستوي يشترك فيه جميع الكائنات الحية‮: ‬الحيواني والبشري والإنساني‮.‬
وكأنه هنا يقترب من مدرج ماسلو للحاجات الإنسانية والذي ميز فيه عالم النفس الأمريكي هذا بين أربعة مستويات من الحاجات الإنسانية‮:‬
مستوي الحاجات البيولوجية‮ - ‬مستوي الأمن المادي‮ - ‬مستوي الأمن الاجتماعي‮ - ‬ثم مستوي‮ (‬الصداقة والحب والزواج‮) ‬ثم مستوي الاحترام والتقدير‮ (‬المكانة‮) ‬ثم مستوي تحقيق الذات‮.‬
5‮ - ‬هكذا يتحرك الإنسان من المستوي البيولوجي المحدود حتي المستوي الإنساني اللا محدود،‮ ‬إلي مستوي الشعر والخيال والإبداع والتحقيق والوجود الحقيقي‮.‬
6‮ - ‬ليس معني ذلك أن الإنسان قد ترك كل ما هو همجي أو متوحش وراءه إلي الأبد،‮ ‬فهو يعود دوما خلال الحروب والعدوان والتعصب والتطرف ومحاولات إقصاء الآخر المختلف‮.. ‬الخ‮.‬
7‮ - ‬ولا يعرض فتحي عبدالسميع رؤيته هنا المتعلقة بالطاقة الشعرية دون أن يذكر لنا خطرات وإشارات عن مسيرته الشعرية،‮ ‬عن كراهيته في البداية للشعر الحديث وانصرافه عنه‮ ‬وعن كيف‮ ‬مرت السنين فأصبح من عشاقه ومبدعيه وهي مسألة سيستمر في الإشارة إليها عبر هذه الكتابة،‮ ‬باعتبارها قصته الخاصة أو سيرته الشعرية الخاصة الموجودة داخل هذا الاطار العام الكبير الذي يقدمه هذا الكتاب الجميل‮.‬
8‮ - ‬مسيرة الإنسان علي الأرض مذهلة كما يقول عبدالسميع وانه‮ "‬كثيرا ما أتقمص روح الحيوانات وأتخيل كيف ينظرون للمنجزات الإنسانية الكبيرة،‮ ‬وكيف يتعجبون في الوقت نفسه من الوحشية التي تظهر في صورة حروب أو مذابح أو أعمال عنف فردية يجفل عن فعلها الحيوان الضاري‮" ‬هكذا فإن الشعر لديه في جوهره صراع بين عمالقة الجمال والخيال من ناحية وبين المسوخ البشر وشياطينهم من ناحية أخري،‮ ‬والجمال والشر موجودان داخل الكائن الواحد في صراعه الذي لا يتوقف ضد الطبيعة القاسية من ناحية،‮ ‬وضد طبيعة الوحشية الظلامية الهمجية الشيطانية من ناحيةأخري‮.‬
9‮ - ‬في هذا الكتاب أيضا حديث عن أعداء الشعر‮: ‬عن أعدائه الموجودين في البيت والمدارس والإعلام وتلك المؤسسات كلها التي تحول الشعر إلي مسخ أو ألعوبة أو تجعل الشعر نفسه عدوا للشعر حين تقدم علي إبراز كل ما هو سطحي أو دعائي أو مباشر وكذلك حين تهمل كل ما هو متميز وجديد وقريب من روح الإنسان الحقيقية وكذلك الذاكرة من أعداء الشعر الالداء المخلصين‮.‬
10‮ - ‬هكذا قد يتحول الشعر بفعل ممارسات عدة‮: ‬شخص‮ ‬غريب‮ "‬لا نقابله إلا صدفة،‮ ‬ويكون اللقاء عابرا‮" ‬ص10،‮ ‬لكن الشعر ينبغي أن يكون صديقا وأن تكون الصداقة معه مبرأة من الهوي منزهة عن الغرض‮ "‬لقد تغيرت حياتي للأفضل عندما صار الشعر صديقي‮" ‬ص10.‬
11‮ - ‬يأتي الشعر دائما كهدية جميلة‮ "‬وردة وسنبلة في الوقت نفسه‮" ‬من يؤمن بالسنبلة وحدها يجحد الحياة،‮ ‬ومن يؤمن بالوردة وحدها يجحد الحياة،‮ ‬وكل ذهن لا يستوعب اتحاد الوردة والسنبلة في نبتة واحدة تدعي القصيدة،‮ ‬ذهن معطوب‮" ‬ص11.‬
12‮ - ‬القصيدة كالحلم والحلم كالقصيدة‮: ‬تداعيات وصور تبدو لا منطقية وفي أعماقها منطقها الخاص‮ "‬والجسد الإنساني نفسه هو الشاعر الأول،‮ ‬فالجسد لا يتوقف خلال النوم ليلا،‮ ‬بل يتنفس،‮ ‬ويحلم،‮ ‬والحلم في تقديري هو القصيدة التي يكتبها الجسد كل يوم،‮ ‬إنه عالم مكون من مفردات الحياة نفسها،‮ ‬لكن صياغته مختلفة وترتيبه مختلف ولغته مختلفة،‮ ‬وزمنه مختلف‮".‬
13‮ - ‬لا تلعب أحلام البوم و حدها دورا كبيرا في الإبداع الشعري،‮ ‬فأحلام اليقظة تلعب دورا مهما أيضا،‮ ‬وإلي درجة أن باشلار قد أطلق عليها مصطلح‮ "‬شاعرية أحلام اليقظة‮" ‬وتحدث عن أحلام الصعود والهبوط وأجنحة الألم شاعرية أحالم اليقضة،‮ ‬اعتراف واضح بالعلاقة بين أحلام اليقظة والشعر،‮ ‬ودور التهويم وعمليات التداعي الحر الطليق في الإبداع عموما والإبداع الشعري علي وجه خاص‮.‬
14‮ - ‬للشعر دور أيضا في علاج روح الإنسان،‮ ‬إنه طب الروح في مقابل علم الطب الذي يعالج أوجاع الجسد،‮ ‬هكذا ينبغي أن نهتم كما قال عبدالسميع‮ "‬بعلم الشعر،‮ ‬بتنمية الوعي به،‮ ‬وفهم طبيعته،‮ ‬وامتلاك القدرة علي تذوقه‮".‬
15‮ - ‬مثلما هناك صراع قديم بين قوي التدمير بمختلف أشكالها وقوي التعمير بمختلف أشكالها،‮ ‬صراع دائم يأخذ صورا ساطعة عندما نجد قوي التدمير تنشر المذابح والخراب كما يحدث في وقت الحروب،‮ ‬ويأخذ أحيانا صورة باهتة أو خفية لكن الصراع قائم باستمرار سواء شعرنا به أو لم نشعر ص13.‬
والشعر موجود في هذا الصراع وإن علي نحو خفي فحروب الشعر لا تكون دائما واضحة جلية،‮ ‬بل في أشكال مستترة واضحة،‮ ‬بل في أشكال مستترة خفية لأنها تعمل علي الوجدان،‮ ‬وتتحرك خطوة خفية خطوة خطوة في ازاحات متتابعة متتالية من أجل تجديد الوعي وإثراء الوجدان،‮ ‬هكذا فإننا نعيش كما جاء في هذا الكتاب‮ ‬في عصر العلم والعقلانية‮.‬
15‮ - ‬ب‮ - ‬وتحدث حروب الشعر ضد كل تلك الفيروسات التي تهاجمنا‮ "‬في هيئة مشاعر سلبية،‮ ‬أو في هيئة قيود ذهنية أو صور ضيقة الأفق للعالم‮" ‬ص14.‬
هكذا يحارب الشاعر ضد كل ما هو سلبي أو ضيق من صور وأفكار نمطية جامدة أو مشاعر لا مبالاة ويأس وإحباط‮ "‬يحررنا من الداخل‮" ‬فنكون أكثر إنسانية،‮ ‬علي الشاعر أن‮ "‬يصنع شطا في قلب البحر‮" ‬فالشاعر لا يوجد علي الشاطيء،‮ ‬لا يتفرج أو يشاهد من بعيد،‮ ‬بل هو موجود في قلب اليم في أعماق الماء الهائج وفوق سطحه الهاديء أيضا،‮ ‬وموجود أيضا في مملكة الأحلام،‮ ‬وموجود حيث تكون القصيدة‮: ‬هي تلك‮ " ‬المنطقة اللطيفة التي تتكشف فيها أسرار الانسان‮.. ‬وتتجلي فيها رغباته الدفينة،‮ ‬وعقده الأليمة،‮ ‬القصيدة التي يتوحد هو فيها الزمن الانساني،‮ ‬فنجد الحاضر والماضي‮ ‬والمستقبل معا،‮ ‬ونجد الواقع وقد أخذ أشكالا جديدة‮ ‬غريبة وعجيبة،‮ ‬تجعلنا نقف علي ثراء الحياة الذي تحجبه قشرة سميكة،‮ ‬هنا وطن الشاعر‮".‬
16‮ - ‬تلعب الطفولة دورا مهما في إبداع الشاعر،‮ ‬بل وفي الابداع عموما،‮ ‬هكذا كان بودلير يقول‮ "‬إن العبقرية هي الطفولة مستعادة بفعل الإرادة‮" ‬وهنا يقدم لنا فتحي عبدالسميع رؤيته كيف تتحرك القصيدة من الصحو إلي النوم الي الحلم و من الولادة،‮ ‬الي الطفولة ثم النضج،‮ ‬والشاعر كالطفل يتحرك من رؤية كلية للعالم،‮ ‬رؤية‮ ‬غير متمايزة،‮ ‬إلي رؤية كلية متكاملة مرة أخري،‮ ‬بفعل عوامل الإداراك والتلقائية والتدفق والعفوية وعوالم اللعب والخيال والأحلام‮.‬
17‮ - ‬يكتب فتحي عبدالسميع عبر هذا الكتاب من خلال لغة متدفقة فيها الكثير من التهويمات والتأويلات والاشراقات والاستبصارات والاستبطانات والخبرات المتراكمة التي يتوالي حضورها بلا حدود،‮ ‬وكأنه هنا يكتب أحلامه أو أمانيه،‮ ‬فيجمع في كتابته بين طزاجة الطفولة وعفويتها ورصانة الحكماء وبعد نظراتهم‮. ‬هكذا يذهب الشاعر إلي ما وراء الواقع المعطي المباشر،‮ ‬إلي عوامل بكر لم تكتشف بعد،‮ ‬إلي آفاق لا محدودة وقارات مجهولة داخل الوعي أو اللا وعي الإنساني،‮ ‬الفردي والجمعي علي حد سواء‮.‬
18‮ - ‬قد يبدو فتحي عبدالسميع هنا وكأنه يقيم رؤيته للعالم والشعر علي أساس ثنائيات ضدية منفصلة مثل‮.‬
‮ ‬البشري في مقابل الإنساني،‮ ‬والعقلي في مقابل الوجداني والعلمي في مقابل الشعري وهذا‮ ‬غير صحيح علي الاطلاق وذلك لأنه‮ ‬يرفض‮ ‬في أعماق كل تلك الثنائيات التي تقسم العالم في ضوء مقولة‮ »‬‬إما‮.. ‬أو‮» ‬وتؤكد جانبا وتنفي الجانب الآخر،‮ ‬يشير فتحي إلي أن هذه الضديات تكون موجودة معا متصارعة خلال الوقت نفسه،‮ ‬وليس هناك من تعارض بينها بل صراع وقد تتكامل أحيانا،‮ ‬وقد‮ ‬يحل أحد محل الاخر الي حين لكن ذلك لا‮ ‬يعني أبدا أن الطرف الأول،‮ ‬فالبشري والإنساني موجودان معا في حالة صراع أو حتي تكامل وكذلك الأمر بالنسبة للضديات الثنائية الآخرة التي‮ ‬يزخر بها هذا الكتاب‮.‬
19‮ - ‬ويرتبط بذلك كله نظرة الشاعر الواسعة إلي الشعر بمفهومه الواسع الذي‮ ‬يستوعب القصيدة والرواية،‮ ‬والسينما،‮ ‬وكل الفنون الأخري،‮ ‬فالحالة الشعرية واسعة والقصيدة نبع مهم جدا من منابع تلك الحالة ص30‮ ‬هكذا تكون الطاقة الشعرية موجودة في الفنون التشكيلية والمسرح والسينما والموسيقي والفنون كافة‮.‬
هكذا تكون الطاقة الشعرية موجودة في الفنون التشكيلية والمسرح والسينما والموسيقي والفنون كافة‮.‬
20‮ - ‬الشعر هنا هو مدرسة التسامح والتعايش وهو أيضا بطل مناويء للعنف والفوضي،‮ ‬وعلي الرغم من وجود قصائد تحرض علي العنف والكراهية والعدوان والتعصب،‮ ‬فإن الشعر‮ ‬يظل في جوهره‮ "‬دعوة لتحاوز العنف،‮ ‬فضاء للتسامح،‮ ‬للتواصل الحميم بين البشر‮!!! ‬وصوتا لأجمل ما في الضمير الإنساني وأنبل ما‮ ‬يبلغه الخيال‮".‬
21‮ - ‬تكمن قيمة الشعر كما‮ ‬يري عبدالسميع في أشياء كثيرة ومتداخلة‮ "‬لكن علاقة الشعر بالكلمة فقط تكفي لوضع الشعر كتاج فوق رأس الإنسانية وذلك لأن اللغة أساس الحضارات الإنسانية بل إنها كما قال عالم الفسيولوجيا الروسي المعروف‮ "‬ايفان بافلوف‮": ‬هي التي جعلت منا بشرا،‮ ‬ترتبط اللغة بالوجدان والخيال،‮ ‬والهوية،‮ ‬ونحن نفكر في أنفسنا وواقعنا وحياتنا من خلال لغتنا الخاصة لا من خلال لغة مستعارة وتمثل لغة الشعر بما تحتوي عليه من إشارات ورموز وصور وايماءات وغير ذلك من الجوانب مستوي أرقي أكثر استشرافا من‮ ‬مستويات اللغة العملية أو العلمية المباشرة الأخري،‮ ‬إنها اللغة القادرة علي‮ ‬إثارة‮ ‬الدهشة،‮ ‬المتحررة من النمطية والتكرار،‮ ‬القادرة علي لفت انتباهنا إلي أشياء ومشاعر لم تلفت انتباهنا هكذا من قبل‮. ‬والشاعر جوهره متمرد علي الصورة الجاهزة للعالم وكذلك علي الصور الجاهزة وعليه أيضا أن‮ ‬يتمرد علي الصورة الجاهزة لنفسه وشعره‮.‬
الشاعر صائد‮ ‬غزلان،‮ ‬وهو أيضا إنسان مغامر‮.‬
22‮ - ‬والشعر كذلك صياد أسماك،‮ ‬والذات الإنسانية‮ "‬بحر عامر بالأسماك‮" ‬لكن الشاعر‮ "‬لا‮ ‬يجرح خيشوم السمكة‮" ‬لا‮ ‬يضع السمكة في الماء و"لا‮ ‬يلتهم لحمها الجميل‮" ‬الشاعر هنا صياد أسماك خاصة،‮ ‬الشاعر‮ ‬ينقذ الأسماك من ضياعها،‮ ‬من وجودها في متاهتها المائية،‮ ‬يعيدها إلي وجود ناصع،‮ ‬يمنحها خلودا‮. ‬يحملها في جسده كما تحمل الأم جنينها،‮ ‬ويعيدها للحياة مخلوقا جديدا مدهشا‮. ‬القصيدة صنارة أيضا‮ ‬والشاعر صياد،‮ ‬لكنه صياد‮ "‬لا‮ ‬يذهب إلي النهر عندما‮ ‬يرغب في صيد السمك،‮ ‬بل‮ ‬يذهب إلي الطين ليجمع الطعم الذي‮ ‬يصطاد السمك‮" ‬الشاعر كالصياد صبور وهو‮ ‬يلقي صنارته وينتظر أن تأتي له بصيد وكذلك وهو‮ ‬يجذب السمكة بخفة وسرعة‮ "‬سعيدا‮" ‬برعشة السمكة وحيويتها‮" ‬فعل الصيد‮ ‬نفسه هو فعل كتابة القصيدة ولا أهمية لدي الشاعر الحقيقي لما‮ ‬يوجد وراء عملية الصيد نفسها من محاولة بيع السمك أو أكله أو عرض القصيدة أو تسويقها،‮ ‬فالمتعة كامنة في عملية الصيد ذاتها،‮ ‬التقاط وصيد القصيدة ذاتها‮. ‬إنها المتعة الداخلية التي تفوق أية متعة خارجية كما‮ ‬يقول بعض المبدعين‮.‬
23‮ - ‬يعيد الشاعر فتحي عبدالسميع في هذا الكتاب ومن خلال إقامته في قنا وعمله كموظف في إحدي محاكمها النظر في العديد من المسلمات المتعلقة بالمركز والهامش،‮ ‬فالهامش‮ ‬يمكن أن‮ ‬يصبح مركزا أو متنا والمركز‮ ‬يمكن أن‮ ‬يصبح هامشا،‮ ‬كذلك الأمر فيما‮ ‬يخص العلاقة بين الابداع والكتابة من ناحية وبين العمل والوظيفة من ناحية أخري،‮ ‬حيث الشعر والعمل لديه‮ "‬وجهان لعملة واحدة،‮ ‬تلك قناعتي،‮ ‬وصلت إليها متأخرا بعض الشيء،‮ ‬لكني صرت مؤمنا بها تماما‮" ‬هكذا قد‮ ‬يصبح العمل مصدرا للشعر،‮ ‬وجوه الناس ومشاكلهم وأحلامهم وأمانيهم وإحباطاتهم وتطلعاتهم ووجودهم البشري والإنساني وكافة تحولاتهم كلها مصادر للشعر والكتابة وهكذا‮ ‬يكون الشاعر في موضع لا‮ ‬يفرض فيه اللغة علي الحياة،‮ ‬بل تكون الحياة هي التي تفرض اللغة عليه،‮ ‬وهكذا كان الشعر موجودا في‮ "‬مئات الوجوه والمواقف والحكايات العجيبة،‮ ‬كنت أتأملها تأمل العاشق الشغوف،‮ ‬وأري فيها شعرا‮ ‬يناديني‮. ‬صور ومشاهد وعبارات عادية كانت تصدمني وتعري المجاز من قدسيته الشديدة وتدعوني للسرد باعتباره عنصرا فنيا وجديرا بالاهتمام‮" ‬ص25.‬
24‮ - ‬يحدثنا فتحي عبدالسميع أيضا عن ذلك الولع بالقراءة والكتب وكذلك تطور الوعي الثقافي المتعلق بالقراءة والكتاب لديه،‮ ‬عن دور أسماء مثل‮: ‬محمد مغربي،‮ ‬وسيد عبدالعاطي وعطية حسن‮.‬
25‮ - ‬وأيضا عن الأهمية الخاصة لزياراته المنتظمة للمعابد،‮ ‬خاصة معبد دندرة وساحات التصوف وموالد الأولياء والقوّالين الشعبيين وصناع الفخار أو منتجات الجريدة أو أية أشغال‮ ‬يدوية أخري إلي آخر ما‮ ‬يتراءي لي جديرا بولع الطفل الذي بدأ‮ ‬يتجدد بداخلي‮" ‬عن دور شاعر الربابة وأمة التي تقول شعرها وتنساه،‮ ‬عن‮ "‬العديد‮" ‬وألحان تلك البكائيات الشعبية،‮ ‬وأغاني الرجال وهم‮ ‬يروون الحقول ب"الشادوف‮" ‬عن تلك الأصوات التي كانت تنساب من فم عامل الشادوف مبهمة‮ ‬غامضة أشبه بعواء آدمي جميل مفعم بالحسرة والوجع الحاد،‮ ‬بعضها محفوظ وبعضها‮ ‬يتم ارتجاله‮. ‬هكذا كان الغناء لديه وسيلة لمقاومة التعب والوحدة وتحريرا للبدن من سطوة الوقوف‮ ‬في موضع واحد،‮ ‬يميل لأسفل وينفرد،‮ ‬هكذا بلا نهاية‮.. ‬هكذا مزج‮ ‬غناء عامل الشادوف بين وجوده الخاص والوجود العام،‮ ‬شاعرا بالأنس ومبددا لوحشته من خلال‮ ‬غنائه وكأن‮ ‬غناءه هنا لغة أخري‮ ‬غير تلك التي‮ ‬يتحدث من خلالها البشر،‮ ‬لغة تبعده عن التفكير في همومه ووحدته أو وحشته الطاعنة،‮ ‬هكذا كان‮ ‬يأنس بغنائه حتي لو كان أجش،‮ ‬يغني محصنا من نظرات الاعجاب أو النفاق،‮ ‬يطرح مشاعره وأحاسيسه ويصنع جمالا في قلب الشقاء‮".‬
أنا أعتقد أن فتحي عبدالسميع هو أيضا هكذا،‮ ‬يكتب دون أن‮ ‬يضع في اعتباره كثيرا نظرات الاعجاب أو استجابات النفاق،‮ ‬مستغنيا عن العالم والأضواء،‮ ‬تؤنس كتابته وحدته وعزلته‮ "‬ويصنع جمالا في قلب الشقاء‮".‬
26‮ - ‬للفنان مايكل أنجلو مقولة شهيرة قال من خلالها إنه كان‮ ‬يتصور‮ ‬الشغل الذي‮ ‬يريد نحته موجودا داخل الكتلة التي سيقوم بالنحت فيها قبل أن‮ ‬يلمسها‮. ‬هكذا تبدو لنا الحياة داخل هذا الكتاب،‮ ‬أو بالأحري تبدو للشاعر ثم لنا،‮ ‬أشبه بصخرة كبيرة لكنها قابلة لأن‮ ‬ينبجس منها الماء،‮ ‬وقابلة أيضا لأن تتدفق بالشعر،‮ ‬فالطفولة ترتبط بالشعر وترتبط كذلك بالحجر والشعر بالنسبة لعبدالسميع عملية تحرير للطفل الذي بين جنبي الحجر،‮ ‬ومدارسنا في الغالب هي المستعمرات التي تتجمد فيها الطفولة،‮ ‬وتتيبس في دروبها الأرواح‮" ‬هكذا‮ "‬صار التعليم في الصغر كالنقش علي الحجر‮" ‬عملية تترك علامات‮ ‬غائرة في العقل والوجدان لا‮ ‬يمكن محوها إلا بتفتيت الحجر،‮ ‬بالخيال وبإخراج الإنسان الذي تم دفنه داخل الحجر،‮ ‬بالعمل كما‮ ‬يعمل النحات الذي‮ ‬يقف أمام قطعة كبيرة من الصخر ويخرج منها منحوتته الجميلة أو تمثاله الذي قد‮ ‬يتحول الي عاشق أو معشوق كما كان الحال لدي بجماليون وقد كان ديدالوس في الميثولوجيا الاغريقية أول من ابتكر فن النحت للأشكال البشرية من الصخور وأول من أعطاها قوة الكلام ولذلك حكم عليه بالنفي وكان هو أيضا الصانع البارع الذي صنع المتاهة ثم سجن فيها ثم هرب مع ابنه ايكاروس من خلال الطيران نحو الشمس‮.‬
هكذا‮ ‬يقول لنا فتحي عبدالسميع إنه لم‮ ‬يكن‮ ‬يكتب شعرا عندما انطلقت انتفاضة الحجارة الأولي عام‮ ‬1987‮ "‬ولم‮ ‬يكن‮ ‬يخطر علي بالي أنني سأنطلق إلي الشعر منها‮" ‬لكنه وعلي الرغم من أنه بدأ من أطفال الحجارة،‮ ‬ومن كون انتفاضتهم‮ "‬حدثا شعريا بالدرجة الأولي لأنها قامت علي الدهشة،‮ ‬واعتمدت علي لغة مختلفة وكسرت المنطق والمجري العادي للأمور،‮ ‬الطفل‮ ‬يربك جنديا‮!!! ‬والحجر‮ ‬يربك دبابة‮!!! ‬تلك قصيدة وليست حدثا‮ ‬يجري علي أرض الواقع‮.‬
هكذا صنع الأطفال الحدث،‮ ‬صنعوا القصيدة،‮ ‬صنعوا قصيدتهم التي أدهشت العالم،‮ ‬لكن علي الشاعر أن‮ ‬يتحرر من ذاكرته،‮ ‬من مخزونه الإدراكي‮ "‬الآني‮" ‬وأن‮ ‬يستبطن اللحظة ويستقطر الدلالة،‮ ‬لا‮ ‬يكتب عن أطفال الحجارة،‮ ‬بل عما‮ ‬يكمن في أعماق قصيدتهم التي كتبوها،‮ ‬أن‮ ‬يعمل من خلال‮ "‬عتمة اللغة والتباساتها‮" ‬وكذلك من خلال عتمة الحياة والتباساتها،‮ ‬ومثلما‮ "‬توحد مع أطفال الحجارة،‮ ‬فإنه لابد له وأن‮ ‬يفصل عنهم أيضا‮"‬،‮ ‬أن‮ ‬يعبر عن وجوده مثلما عبروا عن وجودهم،‮ ‬أن‮ ‬يكون شجاعا ومدهشا كما كانوا،‮ ‬أن‮ ‬يكون صادقا ومتشبثا بأزمته ووجوده مثلهم،‮ ‬هكذا كانت علاقته بالطفولة وكذلك الحجر وهي علاقة لم تزل قائمة حتي الآن‮.‬
27‮ - ‬هذا كتاب جميل وشديد العمق أيضا،‮ ‬كتاب‮ ‬يصعب تلخيصه أو حصره في كلمات أو صفحات قليلة وهو أيضا كتاب شديد المتعة والفائدة بالنسبة لهؤلاء الذين‮ ‬يهتمون بديناميات عمليات الإبداع من الدارسين والنقاد والقراءة عامة،‮ ‬وهو أشبه أيضا بشهادة إبداعية طويلة مفعمة بالحيوية والمرونة والحرية والصدق والإرادة واللأرادة،‮ ‬والثقافة والتداعيات،‮ ‬وأنا أدعو وزارة الثقافة الي أن تتحمس وتنشر هذا الكتاب في مكتبة الأسرة وأتمني من وزارة التربية والتعليم أن تدخل هذا الكتاب أيضا ضمن مقررات الطلاب في المرحلة الثانوية الخاصة بالأدب واللغة العربية أو ما شابه ذلك من المقررات‮.‬


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.