في حجرة مكتبه احتفظ أحمد بهاء الدين بتمثالين: الأول لغاندى، والثانى لدون كيشوت. غاندى هو المثال الأوضح للرجل المكتفى الذى يكتسب قوته من مقدرته على الاستغناء. أما «دون كيشوت» فهو الفارس المدجج بالسلاح والذى ظل يحارب "طواحين الهواء". ربما يلخص هذا الاختيار ملامح شخصية أحمد بهاء الدين الذى تمر هذه الأيام الذكرى العشرون على رحيله. هو المثقف المستغنى الذى شعر بعد تجارب ومعارك متعددة أن الواقع أكبر بكثير من قدرتنا كأفراد على تغييره، واستمر رغم ذلك مدافعا عن قيم الحرية والديمقراطية التى لم تتحقق! كان بهاء أكبر من مجرد صحفى..أو مفكر.. إنه عقل كبير، لامع..لم يفقد قدرته على ربط الأشياء والحوادث والسياحة فى التاريخ والجغرافيا إلا بالرحيل. ربما من هنا كان الاجماع حوله من مختلف القوى السياسية، والتيارات الفكرية رغم تناقضاتها ..وهو الاجماع الذى يرجعه جلال أمين إلى " تجرده الرائع فى الحدود الممكنة". كان بهاء ابنا بارا لليبرالية المصرية، ظل همه البحث عن جماليات الديمقراطية فى الكتابة.. الكتابة التى تمزج بين الوطنية والمعرفة والقدرة على التحليل والنفاذ إلى المستقبل..وعبرت كتاباته عن توق دائم للعدالة، مستقل الرأى وفردى النزعة، ولا يخضع لكادر تنظيمى..لم يتمذهب فى كل ما كتب، بل كان يفضل الحوار وسيلة للاقتناع والتعبير والتنبيه الدائم إلى خطورة " إيقاع الكلمات" والاصلاحات..ومن هنا يستطيع أن " يشدك بحضوره..شديد الجاذبية لتقرأه من الكلمة الأولى حتى التوقيع، جمله متتابعة، مختصرة، مرتاحة، تقول الكثير فى موجز محكم لا شحوم ولا شغت ولا عسر هضم ولا كلشيهات سابقة التجهيز والاستهلاك، ولا كتل اسمنتية"..كما تقول الكاتبة صافيناز كاظم. فى كتاباته لم يكن ينظر إلى أيه قضية بشكل جزئى أو رؤية مبتسرة، وإنما كانت النظرة الشمولية النفاذة أهم ما يحرص عليه، وكان يدعو إلى ضرروة النظر إلى المشكلات على أنها أجزاء متصلة، واصفا " السطحية" بأنها النظر إلى المشاكل "على أنها جسد واحد له نبض واحد"، لذا نراه فى معالجته لأى قضية كما يرصد مصطفى الحسينى " يحتفل بالتفاصيل والجزيئات، بما يعتبره كثيرون مسائل صغيرة، بينما مهمتهم هى القضايا الكبيرة..لكنه لم يكن يقف عند التفاصيل والجزيئات والمسائل الصغيرة، إنما كان يمشى عليها إلى القضايا الكبري، إلى الكليات" وكان هذا الدخول من التفصيلى إلى الشامل، ومن الجزئى إلى الكلى، متصلا برؤيته إلى المذاهب، فأصحاب المذاهب يفعلون العكس، ينظرون إلى التفصيلى والجزئى واليومى من خلال الكلى والشامل، لذلك يغفلون عن كثير من حقائق الأمور وجواهرها". ولم يسع بهاء الى السلطة بل هى التى سعت إليه، فلم تكن أفكاره صدى لمسئول ولم يخلع استقلاليته ونديته على باب الدخول، وهذا لم يجنبه الصدام مع عبد الناصر عندما كان نقيبا للصحفيين، فبعد النكسة وقع بيانا إثر مظاهرات الطلاب والعديد من فئات الشعب عام 1968..أثار البيان مراكز السلطة وجعل شمس بدران يصر على القبض عليه وهو ما رفضه عبد الناصر، الذى قال لمن طالب بالقبض على بهاء: اتركوا بهاء، هو مخه كده! وفى بداية حكم السادات أقترب كثيرا، لكن لم تغره بقعة الضوء، بل دخل فى مشكلات عديدة، من بينها عندما أصدر السادات قرارا بنقل بهاء من دار الهلال إلى روزاليوسف، وغضب بهاء غضبا شديدا وكتب للسادات رسالة عنيفة قائلا: لقد اخترعت الثورة صحفيين وكتابا ودكاترة فى كل مجال ولكنى لست أحد اختراعات الثورة فمن حقى أن يؤخذ رأيى فى أى أمر يتصل بى شخصيا فلا أقرأه فى الصحف دون سابق علم ولا أتحرك كقطعة شطرنج من مكان إلى مكان بلا رغبة«. هكذا حدد منذ البداية علاقته بالسلطة لم يسقط فى اغراءاتها، بل احتفظ بمساحة من المناورة كافية للحفاظ على استقلاله المهنى. حسب تعبير الروائى خيرى شلبي:" لم يتلون ولم يتحول إلى بوق..فقد كانت قدراته المتوازنة تتيح له أن يتحرك فى الهامش الضوئى، مهما كان ضيقا وأن يمشى على الصراط المستقيم دون أن ينعوج أو يختل توازنه. فلم يكتب إلا ما يؤمن بأنه متسق مع ضميره ومفيد للبلد". بل وصل به الأمر أن يصف سياسة الانفتاح بأنها " سداح مداح" فى أعنف نقد وجهه إلى رئيس الدولة وسياساته وقتها. كان بهاء يردد دائما:" تعودت طوال حياتى أن أصل حتى الأسلاك الشائكة ثم أتوقف"..وفى نهاية حياته كان يقول: " إن المثقف ليس فارسا مدججا بالسلاح يرتدى دروعا حديدية لا يخترقها الرصاص..المثقف ابن مجتمعه وابن ظروفه التاريخية". ومن هنا لم يكن يستطيع بفرديته الخالصة ومثالياته التصدى للرأى السياسى المستبد كان هنا أشبه ل »دون كيشوث «!. عندما وجد بهاء أن كل شىء قد أنهار حوله وكل الأحلام احترقت اختار الصمت. عندما لم يحتمل خطايا البشر تحول إلى " شجرة صامتة" ولكنها مثمرة كما قال عنه صديقه الفنان التشكيلى عبد الغنى أبوالعنيين..كم نحن فى حاجة ماسة للعودة إلى بهاء حياته ومواقفه.