جمعت أحمد بهاء الدين علاقة قوية مع نجيب محفوظ كانت بداياتها عبر شلة الحرافيش، هنا بعض مما كتبه بهاء عن عميد الرواية العربية في مناسبات مختلفة. 1 هل يمكن حقاً "الاقتراب" من "كنه شخصيتة" أي فنان عظيم؟ لا أظن ذلك، فالفنان العظيم أحياناً يكون بطبيعته منعزلا نائياً يقضي معظم حياته في عزله بعيدة وأحياناً يعيش في خضم الحياة اليومية في قلب مدينة صاخبة. ولكن الفنان العظيم في الحالتين يكون له دائماً "عالمه الخاص" المغلق عليه، الخاص به الدائم التأمل والتجول فيه.. والذي بالتالي يصعب أو يستحيل اختراقه أو الاقتراب منه. ونجيب محفوظ من النوع الثاني. إنه ليس "توماس هاردي" المعتزل في الريف الإنجليزي مثلاً. إنه ابن "القاهرة" أحد أكبر مدن العالم حجماً، وأشدها زحاماً، وأكثرها ضجيجاً، وأحفلها بالمشاكل والمشاغل اليومية لمن يسكنها أو يسير في شوارعها، أو يجلس علي مقاهيها أو يعمل في مكاتبها. نجيب محفوظ كان دائماً يفعل كل هذا. ولكنه ذلك الفنان الذي يمتلك أجهزة للاستشعار، والامتصاص نادرة المثال في قوتها وحساسيتها، كالأقمار الصناعية التي تلتقط صورة أدق التفاصيل علي بعد مئات الأميال وفي النور والظلام. وهذا يتبدي في نوع إنتاجه القصصي الذي يذهلك بالحشود الهائلة من النماذج البشرية التي يحتوي عليها وتنوعيها الشديد.. وأحياناً غرابتها الشديد رغم أنك حين تتأمل أغرب شخصية تشعر أنها ليست مخترعة اختراعاً ولا مركبة تركيباً. ولكنها شخصية حقيقية، وتكاد تقول لنفسك أنك تعرفها ولكنها لم تستوقفك أو لم تتذكرها إلا الآن، ولا بد أنها كانت راقدة في "لا وعيك" أو"لا شعورك" حتي نبهك إليها نجيب محفوظ. فاحتكاك نجيب محفوظ الشديد بالحياة لعب دوراً أساسياً في فنه، بدليل أننا يمكن أن نعرف أي البشر والمجتمعات خالط وأي البشر والمجتمعات عرف عن بعد ولم يخالط، من عمق غيرها، فمجتمع الفلاحين ليس له مكان في إنتاجه الغزير، وهو أكثر بكثير من عمال المصانع، و"بنت البلد" أكثر من فتاة الجامعة، وهكذا. 2 من "ثوابت حياة نجيب محفوظ".. شلة من الأصدقاء؟.. اشتهروا باسم "الحرافيش" يلتقي بهم مساء كل خميس."البذرة الصلبة" لهذه الشلة هي الأستاذ عادل كامل المحامي والأديب الذي بدأ مع نجيب محفوظ ثم آثر التفرغ للمحاماة، والمرحوم الكاتب الساخر محمد عفيفي، والمرحوم الفنان صلاح جاهين، والممثل أحمد مظهر، وصديق من أيام الوظيفة هو الأستاذ أحمد مخلوف، والمخرج السينمائي توفيق صالح، وينضم إلي هؤلاء وينفصل عنهم، آخرون في مواسم دون مواسم أو أسابيع دون أسابيع. وقد صاحبتهم بعض هذه المواسم، في الستينيات.. وكانت معلومات الأصدقاء اللصيقين بنجيب محفوظ أنه غير متزوج، وأنه يقيم مع والدته في حي لا أذكره من أحياء القاهرة المعزية. ونجيب محفوظ "مشاء" أي يحب المشي ويزاوله يومياً ولا يستعمل في تحرك إلا قدميه، وفي الليل يحب السير علي ضفاف النيل أو استنشاق نسيم منتصف الليل عند الهرم، هكذا كنا حين نختم "سهرة الحرافيش" في بيت احد من أعضائها المؤسسين، غالباً في بيت المرحوم الكاتب محمد عفيفي في شارع الهرم، نركب السيارات إلي المدنية متوجهين إلي بيوتنا ويطلب نجيب محفوظ عادة أن يتركنا ويترجل عند "كوبري الجلاء" بالجيزة ليتمشي في رحلة الإياب. وفي فترة رئاستي لتحرير مجلة صباح الخير.. دخل علي ذات صباح صلاح جاهين والدهشة تقفز من عينيه وقال لي: - لقد اكتشفنا أن نجيب محفوظ متزوج!! وبادلته نفس الدهشة وأنا أقول له: مستحيل!.. ما هي الحكاية؟ وروي لي صلاح جاهين أن "الكشف" بدأ بصديق روي أن له ابنه في مدرسة لها زميلة تلميذة معها اسمها "أم كلثوم نجيب محفوظ" وأن زميلاتها يعرفن أنها ابنة نجيب محفوظ الكاتب المشهور، وأجريت تحريات أثبتت ان هذه المعلومات صحيحة! وفي يوم الخميس التالي، نزل نجيب محفوظ من سيارة أصدقاء ليلاً كالعادة عند كوبري الجلاء ولكنهم هذه المرة لم ينصرفوا، بل تظاهروا بالانصراف، ثم عادوا ليتابعوه دون أن يدري حتي دخل عمارة من أربعة ادوار، علي شارع النيل، حيث يسكن في الدور الأول، وهكذا عرف لأول مرة أن نجيب محفوظ له بيت وزوجة وابنتان: فاطمة وأم كلثوم! وبعد تشاور بيني وبين صلاح جاهين قررنا نشر الخبر "السبق الصحافي" في صباح الخير: أن نجيب محفوظ الذي تحاصره الأضواء، وتمتلئ الصحف بأخباره علي أنه أعزب عنيد.. متزوج منذ أكثر من عشر سنوات، ويعيش في التبات والنبات، وله اثنتان من البنات، في غفلة عن العالم، وكان الخبر وقتها مثيراً بالفعل! ولم تدخل الصحافة والتلفزيون وكاميرات التصوير، وأقرب أصدقائه، بيته إلا بمناسبة نيله جائزة نوبل بعد نشر خبر زواجه ومعرفة عنوانه بأكثر من عشرين سنة! إذ لم يعد هناك مفر. 3 ويلاحظ المرء علي حياة نجيب محفوظ الاجتماعية، وعلاقته بالناس، أنه في الأغلب الأعم لا يعاشر ولا يصادق أهل الفئات الأخري الخارجة عن عالمه، أبناء الطبقة المتوسطة القاهرية. فرغم أنه تربع وسط دائرة الضوء منذ الخمسينيات، في عالم الكتب وفي عالم الصحافة الأوسع، وإن مثله ممن صاروا نجوماً وإن كانوا أقل منه بريقا كان طبيعيا أن تجرهم هذه النجومية إلي مجتمعات وبيئات أخري، علي المستويات الرسمية والاجتماعية العليا، ولكنه لم يكن يستسيغ هذه المجتمعات، وليست لديه رغبة في الغوص فيها، ولا يتركها تنعكس علي أنماط حياته المألوفة، كان هذه العوالم الأخري سوف تشتت تركيزه وعكوفه علي الشرائح التي نذر حياته لتسجيل حياتها، فيما عدا بالطبع ضرورات الاتصال بأهل الآداب والفنون من شتي الأجيال، أيضاً بغير موضوع مشترك إلا الآداب والفنون بقي "الأفندي" النموذجي أعظم من سجل عصر "الأفندي" يوم كان هو العمود الفقري للمجتمع المصري وصاحب الاحترام والهيبة في البيت والشارع والمقهي والديوان، قبل أن تهب بالعواصف الاجتماعية من الثورة، ثم من البترول، فيختلط الهرم الاجتماعي اختلاطاً شديداً، ويسحق "الأفندي" تحت الركام المتهاوي من هذه العواصف. ويكمل هذه الملامح التي تؤكد العوازل التي حمي بها نجيب محفوظ "عالمه الخاص" عزوفه الغريب عن السفر إلي الخارج، احد اقوي ملامح عصرنا، فقد دعي نجيب محفوظ إلي كل بلاد الدنيا تقريباً وعشرات المرات بمفرده وضمن وفود، ولكنه كان يعتذر علي الدوام، ويقول كثيرون من أصدقائه إن السبب هو خوفه من ركوب الطائرات، ولكنني اعتقد أن السبب الأعمق هو عزوفه المطلق عن الاغتراب. عن أي رحلة تأخذه بعيداً خارج ذاته، خارج "المعمل" التحليلي التأملي الموجود في باطنه، والعاكف عليه باستمرار. .. كنت مع أصدقاء نتفرج علي التليفزيون، والسفير السويدي يزور نجيب محفوظ ويبلغه بنبأ حصوله علي الجائزة. وقلت لهم ضاحكا: اعتقد انه يعتذر له عن السفر إلي ستوكهولم وضحكنا. وفي اليوم التالي قرآنا في الصحف انه سأل السفير هل يجب أن يذهب شخصياً إلي ستوكهولم. فرد عليه السفير قائلاً إنه يمكن أن يتسلم سفير مصر الجائزة أو أي قريب له يختاره.. وعندما سألت نجيب محفوظ بعد ذلك بأيام، قال لي إنه بالعكس كان ينوي السفر وبدأ في تفصيل "البذلة" التي لا بد منها لحفل التسلم. ولكن الأطباء هم الذين أصروا علي عدم سفره، وإن كنت اعتقد أن نجيب محفوظ في قراره نفسه قرر عدم السفر حتي لا "يبدل ثيابه" 4 ولست بهذه اللمحات أحاول أن أصف نجيب محفوظ بأنه شخص انطوائي منعزل يعيش في برج عاجي، علي العكس تماماً، إنه شديد الانفتاح علي الحياة والالتصاق بها، شديد الاهتمام والتدقيق في كل ما يجري حوله منأحداث سياسية واقتصادية واجتماعية، شديد المتابعة لكل جدل أو نقاش، له آراؤه في كل صغيرة وكبيرة، إنه إنسان سياسي بكل معني الكلمة، تتفق معه أو تختلف معه ولكنه أقرب إلي تكون آرائه من فكره الخاص لا من المجادلات مع الآخرين. فكتاباته، كما أنها أعمال فنية خالصة من زاوية فهي وثائق اجتماعية من زاوية أخري، وهي آراء سياسية من زاوية ثالثة، فأنت حين تري شخوصه وأحداث رواياته لا يخطئك أن تري في كل شخص رمزاً، وفي كل موقف رأياً، فروايات نجيب محفوظ من بين مظاهر عبقريتها أنها تجمع أمرين لا يجتمعان لكل مؤلف بالدرجة نفسها في وقت واحد: الموضوع الكبير، الذي هو هذا الخضم البشري الاجتماعي الضخم من جهة، وبين الموضوع الخاص جداً، وهو النفاذ الغريب إلي عمق أعماق الشخصية الإنسانية، وما يشكل النفس البشرية الواحدة، وأحياناً في اللحظة الواحدة، من أمزجة وغرائز وطباع وملابسات.. إنما أردت بهذه السطور أن اقترب، لا من عالم نجيب محفوظ الخاص، ولكن من الأسرار الخارجية لهذا العالم. فجوهر هذه الملاحظات هي أن نجيب محفوظ له عالم خاص شديد الخصوبة تحميه سبعة أسوار عالية، تجمع بين الشفافية التي تسمح بدخول كل الأصوات الخارجية، وتسمح في الوقت نفسه بأن تصبح، ساعة أن تدخل، أصواتاً أخري منغمة علي إقاعات أخري، هي التي تعزف لنا هذا الفن العظيم... ولولا هذا العكوف المتواصل، في اليقظة والمنام وفي العزلة وبين الناس، لما أمكنه أن يقدم لنا هذه الثروة من القصص والحكايات والشخصيات أصغر كائن فيها له مغزي، ورمز، وأهم من ذلك، له فلسفة، وموقف من الحياة. 3-11-1988