وما ندعو إليه هو التوازن في المشروعات الكبري، وتوجيه الإنفاق التريليوني إلي حيث تلزم الحاجة الملحة افتتاح مشروع إنتاج »الإيثلين» و»البولي إيثلين» بشركة »إيثيدكو»، وهو واحد من المصانع الجديدة لشركة »بتروجت» من القطاع العام، وعاونت في تشييده وتركيب ماكيناته الحديثة »الهيئة الهندسية للقوات المسلحة»، وقد صارت الأخيرة عنوانا علي كل نجاح يتحقق، والماركة المسجلة للإنجاز السريع الكفء المبهر، في الافتتاح الرسمي الذي حضره الرئيس السيسي، وخلال جولات التفقد تحت حرارة الشمس الملتهبة، كانت التعليقات في الأحاديث الجانبية موحية، واجتمعت ربما علي شيء واحد في مغزي القصة كلها، هو أن هذا هو المطلوب، أي إنشاء مصانع كبري جديدة، وتصنيع البلد كطريق له الأفضلية لإنقاذ الاقتصاد، وليس الجري وراء سراب اتفاقات صندوق النقد الدولي، وجلب الخراب فوق الخراب الحادث. وقبل شهور طويلة، كتبت في هذا المكان مقالا بعنوان »صبح علي مصر بمصنع»، كان المخاطب في العنوان هو الرئيس السيسي، وكانت فكرة »الاصطباحة» من وحي نداء الرئيس الشهير للمصريين، ودعوته لكل مصري أن »يصبح علي مصر بجنيه»، ولم أر في دعوة الرئيس عيبا في ذاتها، ولا في »صندوق تحيا مصر» الذي خذله الأغنياء ومليارديرات النهب، ولا في مجهود مرئي لحشد موارد مالية هائلة من خارج الموازنة الحكومية، جري إنفاقها في المشروعات الوطنية الكبري، ووصلت إلي رقم مهول جاوز التريليون جنيه بكثير، ففي ختام عاميه الأولين في الرئاسة، قال السيسي وقتها إن التكلفة الفعلية بلغت تريليونا و40 مليار جنيه، وأنه نجح في توفير 360 مليار جنيه من جملة المبالغ التي كانت مطلوبة، أي أن المبلغ الذي كان مطلوبا وصل إلي 1400 مليار جنيه حتي نهاية سنتين من حكم الرئيس، وبدون احتياج إلي حسبة برما، ومع حساب توالي شهور عام الرئيس الثالث في الحكم، وبمعدلات إنفاق العامين الأولين، يمكن توقع زيادات التكلفة التي جرت حتي ساعة تاريخه، وأنها قد تكون تجاوزت رقم التريليون ونصف التريليون جنيه، وهو رقم يقارب إجمالي الموازنة الحكومية في عامين، وقد لا يكون من جدل كبير في إلحاح وصواب وأولوية مشروعات كبري بعينها، ومن نوع تعظيم قوة الجيش ومشاريع تنمية قناة السويس والاستصلاح الزراعي وتوفير إمدادات الطاقة وتأهيل »الضبعة النووية» وغيرها، وإن كان الخلاف حول أولوية مشروعات أخري من لزوم ما يلزم، فقد كان ممكنا ولايزال أن نفكر بطريقة أخري، وأن نوفر نصف مبالغ المشروعات الكبري، أي ما يزيد علي 700 مليار جنيه إلي الآن، والاستعانة بها في القفز مباشرة إلي خلق اقتصاد إنتاجي، وإنقاذ وتجديد قلاع صناعية كبري من الغزل والنسيج إلي »الحديد والصلب» و»مجمع الألمونيوم» وصناعة السيارات وغيرها، وبناء مئات المصانع الجديدة الكبري مثل مصنع »البولي إيثلين»، وقد تكلف كل مجمع البتروكيماويات الذي يضم المصنع وغيره ما يقل عن ملياري دولار، وتكفي سبعين بالمئة من إنتاج المصنع لإشباع احتياجات السوق المصرية من مادتي »الإيثلين» و»البولي إيثلين» المطلوبتين في صناعات المطاط والبلاستيك، بينما تتبقي ثلاثون بالمئة كفوائض للتصدير، وهذا مجرد مثال لكفاءة استثمار الموارد، إضافة إلي إمكانية توفير موارد جديدة بمئات مليارات الجنيهات، بتسييل أصول وأراضي المصانع العامة القديمة مع نقلها وتحديث ماكيناتها وخطوط إنتاجها، فخطوات كهذه تغير الصورة العامة كليا، وتبعث الأمل الحقيقي في قلوب الناس، وتوفر فرص عمل دائمة منتجة، وتبني صناعة حديثة متقدمة، توفر إنتاجا يحل محل الواردات، وتضيف طاقة تصدير هائلة لاقتصاد عليل لا يجد ما يصدره، بدلا من إضاعة الوقت وإنفاق مئات المليارات علي مشروعات بنية أساسية، هي أقرب بطبيعتها للاستثمار الميت، والذي قد يضيف أصولا لها قيمتها وفرص عمل موقوتة، لكنها لا تدر العوائد إلا بعد سنوات، تظل خلالها في صورة إنجازات لا تنكر، لكنها تبقي بعيدة عن عين وقلب المواطن العادي، يسمع عنها، لكنه لا يحس لها أثرا مباشرا في تحسين حياته، ولا في حل اختناقات البطالة وأزمات الاقتصاد المدمرة. وما ندعو إليه هو التوازن في المشروعات الكبري، وتوجيه الإنفاق التريليوني إلي حيث تلزم الحاجة الملحة، فالتصرف بالموارد هو جوهر السياسة، والبلد لا يحتمل المزيد من »تجريب المجرب» الذي ثبت أنه مخرب، وقد عشنا مع صندوق النقد والبنك الدوليين لأربعين سنة خلت، وكانت النتيجة خرابا ووبالا وإفقارا لغالبية المصريين العظمي، وانتهينا إلي دوائر مفرغة من الخيبة المتصلة، فلم يدخل صندوق النقد بلدا إلا وخربه، وليس متوقعا أن يأتي الاتفاق الجديد مع الصندوق بخير، حتي مع ترديد اسطوانات باتت مشروخة عن وطنية البرنامج المسمي إصلاحيا، فهذا كله من »الفولكلور» البائس الذي سمعناه عقودا، والذي يهدد بتفجير البلد بعد تضييع ما تبقي من اقتصادها هذه المرة، ويحول حياة أغلبية المصريين إلي جحيم لا يحتمل، ويشعل حرائق الغلاء في السلع الأساسية وفواتير المياه والكهرباء وتذاكر المترو والقطارات، ولاحقا في أسعار الوقود والبنزين مع إلغاء دعم الطاقة، ثم تعويم وتدمير الجنيه مع جعل السيادة المطلقة للدولار، ودون أن يؤدي ذلك إلي شيء مما يزعمون من إصلاح، فسوف يرتفع جبل الديون الخارجية بالذات إلي ما يفوق المئة مليار دولار، والأسوأ بعد الأسوأ هو العودة للخصخصة و»المصمصة»، وبيع الشركات الاستراتيجية الناجحة في مجالات البنوك والبترول ومحطات الكهرباء، وحرمان الخزانة العامة من عوائدها الضخمة، وتماما كما جري في تجريف القلاع الصناعية العظمي علي عهد المخلوع مبارك، وتعميق سيطرة الأجانب علي اقتصادنا وأسواقنا، وتفريغ الاقتصاد من أي طاقة إنتاجية يعتد بها، فطريق الخراب واحد متصل، بينما طريق البناء في اتجاه آخر، عناوينه الاستقلال الوطني والعدالة الاجتماعية وكنس الفساد والتصنيع الشامل، فالتصنيع هو الحل الذي يتقدم ويعلو ويسبق كل حل آخر، وبالاعتماد علي الذات وما تيسر من موارد وتعبئة شعبية، وليس علي شنقنا بحبل ديون وقروض صندوق »النكد» وإخوته الناهبين.