الساعة الثانية بعد الظهر. رجُلٌ عجوزٌ بالطريق عائد إلي بيته بعد أن تمتع بإفطار بسيط مع أصدقائه القدامي. متوكئاً علي عصاه، يأخذ الخطوة وأخري ثم يستريح لبرهة قبل أن يستأنف السير. قد رفض العجوز تماماً من ابنه الشاب أن يُقلّه إلي حيث المقهي الشعبي الذي لم يكن ببعيد إطلاقاً عن البيت. صرخ بوجه الفتي الشاب رافضاً " لستُ طفلاً، أعرفُ الطريق بنفسي "تزيد الرياح في سرعتها اثر الخريف، والأجواء تزداد عصفاً. كانت بعض أوراق الشجر تتساقط فوق الأرض، وبعضٌ آخر ما يزال يحلّق بالهواء ويرسم بلونه البُنّي خوفاً داخل العجوز الذي تخطّي خريف عُمره. وكانت ورقة واحدة تحلّق منفردة مترددة نصب أعين العجوز. وقف يستريح ويلفظُ زفيراً بارداً، أحكم يديه علي عصاه. قبضة فوق أخري. وراح يتمايل مع الورقة في الهواء. ارتفعت إلي الأعلي فارتفعَ معها. شاب وحيد ينتظر حبيبته التي تأخّرت، كان يلاحظ الأمر عن بُعد، وطارت روحُه مع خريف الورقة والعجوز الهائمين لثانيتين أوثلاث. لم يلتفت العجوز لأمره بلا ريب. كان التعب البدني يفصله عن الواقع، والورقة تحمله إلي الخيال. كما لو كان العجوز ليس هناك فوق الأرض ولا بأي مكانٍ آخر. ثوان في بياض الأبدية. هولا شيء غير الصورة الماثلة أمامه. جزء من الورقة والخريف وبياض السماء وسواد الغيام. ثم ثكل الخريف شاباً من شرفته، علي حين غرة، فوقع علي الورقة الهائمة وقضي عليها بجسده الذي تفتتت عظامه فوق الأرض. فجّر دوي السقوط خوفاً بنفوس أهل الحي جميعاً. هرع الجميع ينظر ويندهش. خيّمَ الصمت لثلاث أو أربع ثوان علي الأرجح. قبل أن تخرج أولي الصرخات من حلق فتاة، ربما كانت أخته أو احدي الجارات. ثم انفجر عويلٌ وبكاء في أرجاء المكان، وملأ الخوف نفس الطفل الذي كان يلعب. فهرع عن لعبته إلي أمه التي تختلج. كذلك الشاب الذي كان ينتظر. اتشح بوشاحه الشتوي وعاد من حيث أتي. رسمَ سقوط الشاب حفرة صغيرة بعمق سنتيمترات داخل الأسفلت الجديد. ارتعب العجوز وعاد إلي الخلف خطوة، لحظة الكارثة، فوقع علي ظهره. ولعله وقع أثر ريح السقوط. نظر الابن من النافذة ورأي والده الهرم واقعاً علي الأرض وشابٌ بجواره، ولم ير ورقة الشجر. هرع إلي الشارع وعلي درجات السلم بينما يقفز كان يخالجه شعورٌ بالذنب كاد أن يكسر عظامه بالطابق الأول، لمّا تعثّرت قدمه عن الدرجة الوحيدة المكسورة التي حذّرَ والده منها جيداً فلم يقع والده من علي الدرجات، لكنه وقع هنالك تحت السماء مع الخريف والولد الفقير الذي اجتاح الفناء. اجتمع الناس وهمّت الأيادي تمتد خارجة من الجيوب الدافئة لترفع العجوز والفتي. العجوز يلتقط الأنفاس بصعوبة والفتي ضلّت عنه الأنفاس إلي الابد. الجسد مشوه داخل الأسفلت. بفم الفتي البُنّي الميت، ورقة شجرٍ بنيةٌ ميتة، ولا يعرفُ أحد كيف وصلت إلي هناك. أما العجوز فقد أخذته سيارة إلي المشفي المجاور, لمّا رجّح ابنه تأخُر سيارة الإسعاف. ظن البعض أن الفتي البُنّي قد أكل الورقة قبيل سقوطه. فرقعت الكفوف وتذمر كل من كان هناك، ونبحَ برقة كلبٌ جائع متشرد حكَّ ذيله يطلب عظمة من الناس. وعاد طائر أواثنان فَحطّا فوق جذع الشجرة التي تطل علي جسد الحادثة. ولم ينبس واحد منهم بتغريدة واحدة. حضرت الشرطة وانهار الأهل انهياراً، حضر بعض الأصدقاء وخيّم الحزن المخيف علي أشداق أقرب الناس إلي روح الميت. حتّي الأشجار، لم تخف الزعل، ظل يترنح بعضها وضجَّ حفيفه حول الجثّة ضجيجاً مدوياً. تشتت الرجال ورحلوا، رفعت الشرطة الجثة ونقلتها للمشرحة وبدأ التحقيق في ملابسات الواقعة. وقد وجدوا في الجيب الخلفي لبنطال الشاب ورقة مربعة الشكل كُتب فيها " قتلتُ نفسي " ورغم سفاهة المطروح في الورقة غير أنها إنما سهّلت، في الواقع، الكثير علي الكثيرين. ففي مثل تلك الحوادث لا يحصل الأهل فقط علي حُزنٍ وإنما يواكب الحزن تحقيقات تزيد من وجع الحادثة وربما ترجيحات تخدش الحياء من الشرطة والمجتمع. شكوك في قتل الأب لابنه الذي وبّخهُ أمام أعين الجميع بالثلاثاء الماضي، أو أنّ الأخت قتلته لتخفي جريمة ما. كلماتٌ لا تجري علي اللسان سوي لكي تجري. سوي لتُسلّي من يشغلهم الفراغ ويحيط بهم. حاول الأهل إخفاء حقيقة الورقة المربّعة. لكن الكلمات قد تسرّبت من بين أصابع اليد إلي آذان أهل الحي ثم من أهل الحي إلي صحيفة مغمورة بمستهل مشوارها ثم إلي التلفاز وباقي الصحف كي يعرف الجميع الخبر. كي يستفيد الجميع من الحدث " انتحار شاب في ظروف غامضة" " الشرطة مازالت تحقق وتبحث" الخ.. وقد عثر شُرطيٌ أثناء بحثه وتفتيشه بحجرة الميت، علي ورقة مطوية بالخزانة، وعلي ما يبدو أن الشاب قد دوّنها قبيل وفاته بساعات : " ماعُدتُ أحبُّ تأمل السماء، ولا أحتملُ النظر إلي ما بالأرض من بلاء، وما هو قائم فوق الأرض علنا خارج الخباء. البؤس يأكلُ العشب، والأمعاءُ تقتلُ الفقراء. العناءُ خيّم خارج الصحراء، اِرتحلت عنّا أرواحُ الأشياء وظلت الأشياء ملأي بالخواء، تأكلُ خواء تشربُ خواء تشعرُ خواء . أهذه هي الحياة التي تستحقها الإنسانية؟ بدأنا بسفك الدماء وسننتهي بشرب الأرض للدماء. كأنَّ شيئاً لم يكن. كأنَّ قلباً واحدا لم يشعر بإله، ويبتسم نياطه لجمال الشعور بمطلق الجمال. كأنَّ بداخل القلب خواء نُزِفَ علي الأرض ونثرتهُ الريحُ كهباء. كأنّي لم أكن هنا ضمِنٌ من ضمنِ البشر، كنتُ روحاً شاردة ضلّت طريقها عن الشجر، فامتثلت جسداَ بشريٌا غرّدَ لضوء القمر. بشريٌ يترنح بالأخضر، يبتلعُ سموماً ويفُوحُ عبيراً. بشريٌ يتألّم لأجل وجع الصليب، ويبكي من أعين الفقير. وينزفُ دماً عوضاً عن بريئةُ اعتدي عليها شرُ الأرض. ويفني لأجل كثرة الاعتداءات، وقوة شر الأرض. عن كم دم القلب." تساءل الشرطي الذي وجد الجواب " أكان شاعراً أم أبله هذا الفتي؟". وأهمل الكلمات داخل الورقة وألقاها بسلة المهملات. ثم تابع بحثه عن شيء له قيمة. وبصباح اليوم التالي، كان العجوز قد عاد إلي بيتهِ سليماً وكانت الطيور فوق الشجرة ساكنة بلا تغريد وثقلت الريح في المحيط ولم تعد تهب إلي فوق اليابس. السماءُ سواد غيامٌ بلا بياض، ربما تمطر بعد برهة. أتي الشاب ينتظر حبيبته، ونظر إلي حيث الحادثة وتذكر مشهد طيران الشاب ولحظة اصطدامه بالأرض. وتذكر أول صرخة خرجت من شرفة الطابق الخامس، وخاف شيئاً من الخوف البسيط لمّا تعمّق بعمق الفجوة التي رسمها جسد الفاني. ثم طلّت الحبيبة، صافح يدها وابتسمَ بوجهها البشوش. ثم أخذها بين يده إلي السينما ليشاهدا فيلماً درامياً كوميدياً كان أو رومانسياً. وكادا أن يتعثّرا بلعبة الطفل الصغير. الذي عاد ليلعب كما كان بالأمس، في الشارع الذي عادَ كما كان قبل الأمس.