لم تفلح محاولات زوجتي الطيبة في مداواتي بأكواب الشاي بالنعناع أو الحبوب المسكنة، ألسنة من الوجع تلهب رأسي الصغير وتطوف بين حناياه لتسيطر بالألم علي جل دماغي، الشارع دائما مزدحم عند الذهاب للعمل ، يمد جسور طرقاته لتستقر في ناحية من رأسي".. وهل فوجئت أنا اليوم بأن الشارع مزدحم؟!"، صوتها يرن في أذني " منذ مدة طويلة لم نتذوق طعم اللحم ،آتنا ولو بنصف كيلو". كجندي مقاتل اقتحمت دكان الجزار، وبجرأة قائد عسكري نطقتها : أريد نص ك.. لم تقو شفتاي علي تكملة الجملة فانسحبت براية راتبي الهزيلة، وهرعت حزينا لتستقر صورة كيلو اللحم في جانب آخر من رأسي ضاربا عرض الحائط بصراخ زوجتي. الآن فقط أيقنت بالتجربة بأن الأرض كروية ، نعم لابد أن تكون كروية ،علمني ذلك "المنطق وأستاذ الجغرافيا منذ كنت صغيرا في المدرسة " أتذكر أنه كان يشير دائما بعصاه علي مجسم كرة الأرض إلي القارات و البحار و المحيطات والمدن والأنهار... ليعلمنا بأن الأرض كروية وليست ثابتة كما كنا نعتقد ويبرهن لنا بأنها تلف كل ثانية ، ويلف معها كل شيء. لم تصدق زوجتي التي دائما تصبرني علي تحمل الصداع الذي زحف ليحتل رأسي كاملا عندما أخبرتها بأن جغرافيا الأرض حتما ستتغير وأنني أتمني أن تصبح فصول السنة ثلاثة فصول أكثر من أمنيتي في الحصول علي كيلو اللحم، نعم أريدها صيفا و شتاء و خريفا فقط ، فالربيع صار ترابا و هدما و تشتتا و رياح الخماسين التي أماتت بعض خلايا دماغي من التفكير في طريقة هبوبها و إلي أين اتجاهها وهل هي فعل طبيعي أو بشري؟!، تحضر لي زوجتي الطيبة فنجانا من الشاي مع حبتين للصداع علي رأس كل ساعة كما أمر الصيدلي ، ولا تعلم بأن نشرات الأخبار دائما تهاجمني و بنفس التوقيت كل يوم أكثر ضراوة من الصداع، فعندما أهرب من رأسي الذي هو كروي أيضا كالأرض ، ياللتوهة في دروب أي مسلسل يلاحقني الوجع بشريطه الإخباري الذي يأتي كالشيطان ليسامر ما بقي من مساحة في رأسي المسكين ، فيصور لي النشامي وهم يغرقون ذبحا و غرقا في نهر دجلة والفرات ليصبح لون الدم مصاحبا للمجاعة في بلد المليون نخلة،لماذا لم تعد حبوب الصداع تجدي نفعا معي ،أتراه صداعا أم صراعا؟!! لا أدري يأتينا كل يوم في العمل يحمل حقيبة صغيرة لنبتاع منها أي شيء و بالتقسيط المريح ، يأخذ منك أي مبلغ و من الممكن إرضاؤه و لو بباكو بسكويت مع كوب من الشاي،" ذلك هو "زياد السوري" الذي اختصر وجع بلاده في هذه الحقيبة الهزيلة. - دعني أقيس لك الحرارة .. يا إلهي! مرتفعة جدا لابد من زيارة طبيب مختص، لم يعد صداعا بل أخطر .. لا تكف زوجتي عن قول هذا،قالت لي هذا وأنا أتفحص جريدة الصباح لأعرف حظي اليوم الذي يقول " ستدور معها أينما ذهبت و بنفس الإتجاه" لا أدري لماذا شعرت بألم شديد في رأسي لحظتها. بلحيته الطويلة جدا و بتأففه الدائم و ترديده دائما "لا حول ولا قوة إلا بالله" يقول الشيخ عمر عندما وجدني أصرخ في وجه بيومي عامل الشاي:" كفاية حظي النهارده زي الزفت " تلك شعوذة كيف تؤمن بالحظ من خلال الجرائد " القدر من صنع الله وليس من صنع البشر" ، والله لو طبقنا شرع الله في كل شيء، فالكل سيلتزم و ستصبح الحياة آمنة وكيف نطبق شرع الله مثلا في حالة الصداع القاتل عندي يا شيخ عمر ؟! نظر إلي وكأنني روث للبهائم وقال : لو حافظت علي صلاتك و تقواك لنصفك وشفاك الله . - وكمان طلعت كافر.. أيها الصداع كف عني . زوجتي بالفعل محقة لابد أن أذهب إلي الطبيب،آه...تذكرت طبيبا هو صديق لأخي، يا لله فمنزله في الشارع المجاور للشارع الذي كان يسكن فيه مدرس الجغرافيا الذي كان يعلمني أن الأرض كروية، نعم سأذهب اليوم للطبيب وقد أعلمني أخي بأنه مختص في حالتي ،وعندما صعدت للطبيب شعرت بدوار كبير و صداع قاتل ساعتها قررت أن أصف لطبيبي كيف أن جيوش الوجع تهاجمني وفي أي وقت وتقتل خلايا دماغي بأقذر أسلحة الوجع و تنهش أرض رأسي و أنا لا حول لي فكيف سأهاجمها بأسلحة الأدوية و الحبوب الهزيلة ، وهل ستستمر طويلا أم من الممكن أن يبرق لي أمل يدعني أعيش في أمان .. كلها أسئلة لابد وأن أسألها للطبيب أليس معالجا بل ومختصا أيضا؟! أيقنت الآن فقط أنه لابد أن يكون رأسي كروي مثل الأرض... لا أدري لماذا وجدتني أمام منزل الأستاذ مؤمن مدرس الجغرافيا الذي كان يعلمني في الابتدائية أن الأرض كروية لا تكف عن الدوران ، ولا أدري لماذا وجدتني أدق بابه. لو سمحتِ ، هل الأستاذ مؤمن موجود؟، أريده في أمر ضروري. لماذا تريده؟ يا سيدتي فقط لأسأله هل ما زالت الأرض تدور أم كفت عن الدوران؟ بل رأس الأستاذ مؤمن هو الذي كف عن الدوران يا بني بينما مازالت الأرض تدور و تدور. ..... فسقطتُ مغشيا عليّ .