لسوء حظي لم ألتق بالأستاذ حمدي قنديل مطلقا ، لكنني قرأت حتي الآن أكثر من ثلثي سيرته الذاتية "عشت مرتين " دار الشروق 592 صفحة من القطع الكبير ،وهي سيرة ليست ممتعة فقط ،بل هي عُمر مديد من الانتصارات والآلام ،يختلط فيها الشخصي بالعام بالعمل والتأسيس والإنجاز والإخفاق ،علي نحو بالغ الإدهاش ،كما أن حمدي قنديل ناثر كبير يُخفي خلف السخرية مرارة من كان شاهدا علي سلسلة الانهيارات المتتالية للأحلام الكبيرة التي كانت يوما ما واقعا حيا يعيشه الناس ،ناثر حقيقي كما لو كانت الكتابة مهنته ،وليس إعلاميا بارزا كبيرا فقط. أبادر إلي القول أولا إنني أختلف كثيرا مع قناعات الأستاذ حمدي ومع تصوراته ،لكن القارئ أمام جدارية كبري للوطن والصحافة والإعلام في كل الدول العربية تقريبا ،فقد تولي وأسس العشرات من المؤسسات العربية بل والعالمية مثل اليونسكو في كل العواصم العربية تقريبا ،وفي كثير من مدن العالم. الحقيقة أن الأستاذ حمدي لم يعش مرتين فقط ، لقد عاش كثيرا جدا (أمدّ الله في عمره وأعطاه الصحة والعافية )،عاش كل يوم ،ولم يتوقف لحظة واحدة .ومازال يحتفظ بعشرات المفاتيح التي سرقها من فنادق العالم للحجرات التي نزل فيها ، وهي هواية لم يبرأ من ممارستها ،علي الرغم من المواقف المحرجة التي تعرّض لها! كان المفترض أن يتخرج في كلية الطب في ستينيات القرن الماضي ، ودخل كلية الطب فعلا عام 1955 ، وبعد عامين ، كانت الصحافة قد اختطفته ، هو ورفيق عمره أستاذنا الكبير محمد العزبي ، وغادرا مقاعد كلية الطب ، فقد عيّنهما مصطفي أمين في آخر ساعة واختارهما بنفسه .وهكذا عمل عدة سنوات في بلاط صاحبة الجلالة، وحضر مجد آخر ساعة أثناء رئاسة تحرير هيكل ، وانتقل إلي مجلة التحرير ومنها إلي التليفزيون ليبدأ مرحلة جديدة في إنجازه الممتد . هذه سيرة مدهشة وممتعة حقا ، وراءها روح كبيرة قادرة علي أن تحذف من الذاكرة كل الصغائر تقريبا ، وعلي الرغم من غناها الفادح بالتفاصيل ،إلا أنها تمرّ سريعا علي ضعف وخسة الكثيرين ، وعلي العكس تتريث أمام من صادفهم من الرجال الحقيقيين والنساء المحترمات ،وهم وهن كثيرون في السيرة المحتشدة . ولكن حيّرني الدقة والتوثيق والذاكرة اللاقطة ، ولحُسن الحظ ، كما أشار هو في مواضع عديدة ،يحتفظ بكثير من أوراقه مرتبة ولديه أرشيف جيد لحياته ،علي الرغم من الحياة التي أمضاها في عشرات المدن هنا وهناك.لهذا فالسيرة من جانب آخر تمتلك قيمة توثيقية ،إلي جانب قيمتها الشخصية. لا أمتدح الأستاذ حمدي ، وإن كان يشرفني أن أمتدح قامة كبيرة أختلف معها بكل مودة،لكن مثل هذه السيرة نادرة بين سير عديدة ،حققت الكثير مما سأحاول الإشارة إليه إذا امتد الأجل ..شكرا يا أستاذ حمدي.