انتحر يسري. ردد الناس. وعرفتُ وقتها أن من حق المرء أن يختار الطريقة التي يريد أن يخرج بها من هذا العالم. لكنني لم أعرف لماذا يسبه هؤلاء الناس. قالوا إنه ضعيف وتافه وعاص لربه. قلل الجميع من معاناته. ربما لأنهم لم يدركوا أن البقاء في حياة مسلوبة منك هو الانتحار بعينه. الآن أراهم منتحرين، ويسري الوحيد الحي بينهم. هو وغيره من الذين أرادوا الغياب. فكل 40 ثانية ينتحر إنسان في مكان ما في العالم. وذلك وفق إحصاءات منظمة الصحة العالمية التي قالت "كُثر هم الذين يحاولون الانتحار كل يوم". هذا يعني أن الحياة صارت عبئاً علي الناس، ورغم ذلك يتظاهرون بالقوة والفضيلة، ويعلنون عن مقتهم للمنتحرين. وحدهم الكُتّاب الذين أنصفوا المنتحرين، سواء بكلماتهم عنهم، أو بالانضمام إلي صفوفهم. لذلك كلما سمعت عن انتحار شخص أعرفه، أو لا أعرفه، أتلو أحد النصوص. خاصة نصوص الشاعر اللبناني وديع سعادة (1948) المهاجر إلي أستراليا منذ أواخر ثمانينيات القرن الماضي، الذي وضع المنتحرين في مكانة يتمني كل منّا الوصول إليها، إذ قال عنهم "المنتحرون قدّيسونا.. سادة المحو.. سادة الخواء". وذلك في ديوانه (غبار)، الذي خصص فيه مساحة للحديث عنهم. كأنهم إخوته. وعائلته. وأحباؤه. فهم بالنسبة له مقتحمو الحواجز والمخاوف والمحرمات. الذين تركوا المقاعد وثرثرات الوعود، وذهبوا إلي صمتهم. الذين لم يملكوا حياة، فملكوا موتاً. الذين يضعون شيئاً في العدم حين يتدلون من الحبل، فيملأون المسافة الفارغة بين السقف والبلاط. يري أنه: "لا ينتحر غير من طفح بالحياة. من طفحت فيه الحياة فاندلقت. ولا ينتحر غير من يعلو علي الموت. من يسوده. المنتحر يهب الموت معني. ويدحره. من ينتحر يترك لطختين، واحدة علي وجه الحياة.. وأخري علي وجه الموت." الانتحار عند وديع سعادة ليس محض جسد يشيعه الناس قبل آوانه، إنه حالة من التأمل والاكتشاف، ليس فقط للمنتحرين، بل للأحياء أيضاً؛ "الجثة حين يحملها الحاملون، يجدون ما اعتقدوه وراءهم يمشي أمامهم. يجدون الجثة الميتة تسبق الجسد الحي، والماضي يمشي بعد المستقبل، والموت يتقدم علي الحياة. يجدون الحياة في الجثة لا في الجسد". نحن إذن المنتحرون. الباقون لأجل موت عادي. المتفائلون جداً. والبائسون جداً. لا نجرؤ علي القفز من شرفة، أو علي الوقوف أمام قطار قادم. لذلك فهُم أجملنا، مثلما وصفهم وديع سعادة في نصه البديع (جمال العابر) المنشور في ديوانه (من أخذ النظرة التي تركتها أمام الباب؟): "أجملنا الراحلون. أجملنا المنتحرون. الذين لم يريدوا شيئًا ولم يستأثر بهم شيء. الذين خطوا خطوةً واحدة في النهر كانت كافية لاكتشاف المياه". كانت سارة كين الكاتبة المسرحية البريطانية أجمل وآخر الكُتاب المنتحرين في القرن العشرين. ففي إحدي صباحات عام 1999. يوم العشرين من فبراير. الساعة الرابعة وثماني وأربعون دقيقة. قررت الخلاص من هذا العالم. تاركة لنا رسالة قالت فيها: "إنني أكتب للموتي، لأولئك الذين لم يولدوا بعد. كل مجاملة تقتص قطعة من روحي، لا شيء يمكن أن يطأ غضبي، ولا شيء يجعلني استعيد إيماني. ليس هذا عالم أرغب بالعيش فيه. أشعر وكأن عمري ثمانين عاماً! إنني متعبة من الحياة وروحي تريد أن تموت. بعد 84:4 صباحاً سأتوقف عن الكلام". ولدت سارة كين في برينتوود، إسكس، المملكة المتحدة عام 1971 لعائلة مسيحية متشددة، وتأثرت بهم بطبيعة الحال، لكنها سرعان مافقدت إيمانها بعد مراهقتها، إلي الحد الذي كانت تناقش فيه الله علي الملأ. ما جعلها تُصاب بالحزن والاكتئاب بعد أن فقدت اهتمام أقرب الناس إليها، وبعد أن فقدت هي اهتمامها بالحياة. الحياة التي تراها بشعة ومخيفة ولا تُحتمل مثلما تناولتها في مسرحياتها الخمس (البغيض، وعطش، ونهم، وتطهير، وعشق فيدرا). فمن خلال التكثيف اللغوي والاختزال الشديد استطاعت أن تعبر عن الواقع وتنقله بسوداوية. حيث جسدت مشاهد العنف والقتل والاغتصاب. الأمر الذي لم يلق رواجاً وقبولاً بين الناس. لم تتراجع سارة كين عن فضح التشوهات الموجودة فينا، رغم الانتقادات الجمة التي واجهتها، وكانت دائماً ما تتطرق إلي الانتحار باعتباره الخلاص من العبث والفراغ الروحي في الحياة، وهو ما قامت به في النهاية، والتي أعلنت عنه في مسرحيتها (ذهانات الساعة 84:4) التي كتبتها قبل أيام من انتحارها. ما يعني أنها كانت تخطط جيداً، حتي للتوقيت الذي ستموت فيه. فابتلعت 150 حبة مضادة للاكتئاب و50 حبة منوّم، لكن رفيقتها نجحت في انقاذها، وهرعت بها إلي مستشفي كينج كوليج في لندن. أحست سارة كين حين وجدت نفسها علي قيد الحياة بالضياع والخوف، فانتهزت فرصة خروج رفيقتها التي تركتها لمدة تسعين دقيقة، وقامت بشنق نفسها بأربطة الأحذية. تقول في مسرحيتها الأخيرة: "أنا حزينة. أشعر بأن لا أمل في المستقبل، وأن الأمور لا يمكن أن تتحسن. أشعر بالملل وعدم الرضا عن أي شيء. أنا فشل ذريع. أنا مذنبة، أنا أُعاقب. أرغب في قتل نفسي." أي حياة هذه التي تجعلك تكره نفسك، وترغمك علي الذهاب إلي الموت بخطي ثابتة. كان من الأولي ألا نكون موجودين. ألا يُعذب الكاتب المصري رجاء عليش تحديداً. الذي احتقرته الحياة لأنه ولد قبيحاً. فلم يعش أحد في العالم القبح كما عاشه. عينان جاحظتان، ووجه طويل، وأنف مدبب. ملامح جعلته يشعر أنه إنسان مغاير، يثير ضحك الناس، وازدرائهم، كأنه عاهة. فقد حرمه القبح من الحب والعمل والحرية. إذ كانت تلمع العيون من حوله دائماً بسخرية شديدة. تذكره بأن عليه أن يعود إلي حجمه الحقيقي، كما رسموه له، وليس كما هو في الحقيقة. لقد دمروا معنوياته، وسلبوا آدميته. وكان هذا أخطر كثيراً من سلبه حاسة من حواسه. وأبعد آثراً في تدمير حياته، وتشويهها. لم ينظر أحد إلي داخله، ليجدوه جميلاً ونقياً، كما وجدته أمه، التي تقبلته عندما رفضته كل النساء، وأحبته عندما كرهه العالم. ففي كتابه (لا تولد قبيحاً)، تحدث رجاء عليش عن ذاته المجروحة.. المطرودة من الحياة. يري نفسه أغرب رجل في العالم. أقبح وجه يمكن أن تصادفه في أي مكان علي الأرض. لا أحد يحبه. لا أحد يشفق عليه أو يثق فيه. إنه المرفوض الأول.. المكروه الأول.. المُعذب الأول.. إنه ضمن وخارج إطار الحياة المألوفة. فلقد عاقبه الناس علي شيء لم يفعله، وجمدوه في مكانه، حتي صار أشبه بصخرة في محيط من الأمواج الصاخبة. يصف نفسه قائلاً: "أنا رجل بلا امرأة، بلا حقل للقمح، بلا زجاجة نبيذ، بلا كرة للعب، بلا ذكريات مضيئة، بلا طريق للمستقبل. علي قبري ستُكتب العبارة الآتية: هنا يعيش إنسان مات أثناء حياته. أنا رجل تتبعه الضحكات والكلاب؛ ضحكات الناس ودعوات الكلاب. أنا رجل تلعنه المرأة في الشارع، وتحبه في السرير. أنا ملك يرتدي ثياب صعلوك. مفكر يلعب بدمية طفل صغير. مهرج يحاول أن يخلع قناع الضحك من فوق وجهه دون جدوي، فالطبيعة قد وضعته هناك، وألصقته جيداً، ليبقي إلي الأبد." في عام 1979 كان رجاء عليش يعبر جسر الأربعين دون امرأة، ودون طفل يشعره أنه لا يزال هناك أمل في أن يصير العالم أكثر إنسانية. وكان قد كتب عمله الثاني والآخير، وهو رواية (كلهم أعدائي) التي دون فيها مرثيته، وأنهي بعدها حياته؛ "ارقد أيها القلب المعذب فوق صدر أمك الحنون واسترح.. دع أحلامك الميتة تتفتح كزهرة تعيش مليونًا من السنين.. أنت أيها الملاح التائه في بحار الظلمات البعيدة، لقد جئت إلي أمك الأرض لتعيش في حضنها إلي الأبد" وغادر العالم بطلقة رصاصة استقرت في رأسه. ليتخلص من عذاباته. لكنه قبل هذا الفعل، كتب رسالة إلي النائب العام يخبره فيه بأنه كان يحلم بالانتقام من أفراد المجتمع الذين أفلحوا في أن يجعلوه يكفر بكل شيء . قبل اللحظة التي ستحسم كل شيء، لم يكن يرغب أي منتحر سوي أن يعيش حياته التي يريد، حياته التي لم يجدها، ومن العبث حينها أن تناقشه في أن يتراجع عن قراره. فهو مريض الحياة، المنتقم منها، ومن نفسه. وهو التوصيف الذي استخدمته الشاعرة اللبنانية جمانة حداد (1979) في كتابها (سيجيء الموت وستكون له عيناك)، الذي جمعت فيه قصائد 150 شاعراً انتحروا في القرن العشرين. من 48 بلداً مختلفاً. وأهدته إلي جدتها جميلة، التي كتبت قصيدة انتحارها يوم الثلاثاء 22 يونيه 1976، والتي بسببها أحبت المنتحرين، وجعلتها تنظر لهم بصورة مختلفة؛ "المنتحر ليس ميتاً. ليس ميتاً عادياً. هو شيء أكثر. شيء آخر. لا ميت ولا حيّ. بين بين. والاثنان معاً. وثالث. ضيفٌ مرتبكٌ وصل متأخراً إلي الحياة، ومبكراً إلي الموت". حين وجدت جمانة حداد ابنة الخمس سنوات، جدتها مسجّاة علي الأرض، فتحت عينيها، ونظرت، هكذا سعيت إلي رؤية جثث المنتحرين، حيث أدركت أن الانتحار بالحبوب المنومة ربما يكون الأكثر جمالية، لأنه عبور مسالم من الميتة الصغري إلي الكبري. كما رأت أيضاً صور الأشلاء المرعبة، والوجوه المتفحمة، والصدور الممعوسة، وغيرها من الصور الرهيبة، وقتها لم تقو علي التفكير بأن الانتحار شعر. وأن الشعر انتحار. لذلك حملت علي عاتقها أن تجمع الشعراء الذين انتحروا في كتاب واحد، ليكون لهم بمثابة البيت والحياة، منهم 15 شاعرا عربيا، هم: منير رمزي وأحمد العاصي وفخري أبو السعود من مصر، وخليل الحاوي وانطوان مشحور من لبنان، وإبراهيم زاير وقاسم جبارة من العراق، وعبد الباسط الصوفي ومصطفي محمد من سوريا، وعبد الله بو خالفة وفاروق اسميرة وصفية كتو من الجزائر، وتيسير سبول من الأردن، وعبد الرحيم ابو ذكري من السودان، وأخيراً كريم حوماري من المغرب. "نابشةُ القبور أنا، قبور الشعراء المنتحرين. مئة وخمسين نعشاً فتحتُ، نعم، وإلي مئة وخمسين جهنم نزلتُ. مئة وخمسين جثة أنعشتُ بماء الزهر، ومئة وخمسين شيطاناً روّضتُ. مئة وخمسين دمعة رشفتُ. وبمئة وخمسين ناراً احترقتُ. مئة وخمسين حكاية حكيتُ، ومئة وخمسين مرة سألتُ، بحسرة سألتُ، وقهراً، وعارفةً سألتُ: لماذا ينتحر من ينتحر؟" في نظر الكاتب الروماني إميل سيوران (1911 1995). رسول العدم أو فيلسوف الخواء كما يحلو للبعض تسميته. "لا ينتحر إلا المتفائلون. المتفائلون الذين لم يعودوا قادرين علي الاستمرار في التفاؤل. أما الآخرون، فلماذا يكون لهم مبرر للموت وهم لم يملكوا مبرراً للحياة؟". كانت فكرة الانتحار تراود إميل سيوران طوال حياته. وفي العشرينيات من عمره كان قاب قوسين أو أدني منه. لكن كان هنالك شيء دائماً غير معروف يؤكد له أنه غير قادر علي الانتحار. هذا الشيء، أو هذا الصوت الداخلي، كان يخفت عنده أحياناً، حينما تستحوذ عليه هواجسه السوداء، فيخرج من غرفته مسرعاً، لأنه لا يضمن أن يسيطر علي بعض قراراته المفاجئة إذا بقي وحيداً، وكان هذا بالنسبة له قمة البؤس. كتب في إحدي شذراته يقول: "في كثيرٍ من الأحيان لا يوجد سوي خيط واحد يربطنا بالحياة، وهذا الخيطُ يُقطع. ما يفسر صعوبةَ الانتحار وسهولته. أحياناً لا يمكنني تصوره، وأحياناً أخري يبدو لي مغريا ولا يمكنني مقاومته. أستطيع تفهم أن يقتل المرء نفسهُ لأنه موجود، لكن أن يقتل نفسه بسبب فشل، يعني بسبب رأي الآخرين، هذا ما يتجاوز قدرتي علي الفهم تماماً: وتقريبا كل حالات الانتحار تنطلقُ من الإحساسِ بالفشل. ستبصقُ البشريةُ كلها في وجهي، أنا أفهم هذا. لكنني لن آخذَ نتائجها كتقييم. لن يكون بصاقهم حتي دافعاً لأستبين درجةَ تفاهتي. كلما تقدمتَ، وجدتَ أنه لا توجد مبررات للحياة ولا حتي للموت. لنعش و نموت في العبثية الخالصة إذن. الحياةُ هي التي تتخلص منا، ولسنا نحن الذين نتخلص منها." من هذا المنطلق واصل إميل سيوران حياته مثل كثير من الفلاسفة، فلم يكن من الذين آمنوا أن هناك خلوداً، وأن ثمة حياة أخري تنتظرهم. ربما لأجل هذا كان يُعدل عن فكرة الانتحار. وقال مرة: "أن أفكر في الانتحار شيء، وأن أخضعَ له شيءٌ آخر تماما"، وقد اعتبره هاجساً سلمياً، لأنه ساعده علي مقاومة رغبته في تدمير ذاته. لكنه ظل يكتب عن الانتحار، وعن أصدقائه وأقاربه المنتحرين، كأنه واجب عليه القيام به؛ " منَ الغريب جداً أن أكونَ قد تحدثتُ بهذا القدر عن الانتحار، أنا الذي أحب الحياةَ كأي شخص آخر، بل أكثر من أي شخص آخر". لقد تقبل إميل سيوران الحياة، وتقبل الموت، وتقبل حتي الانتحار، لكنه لم يتقبل الولادة واعتبرها أبشع الجرائم التي يمكن أن يرتكبها المرء، لذلك رفض أن ينجب أطفالاً، كأنه أراد الانتحار بصورة آخري؛ ألا يكون هناك شيئاً يجبره علي البقاء بعد الموت. لذا كان طبيعياً أن يري أن أكثر المحظوظين في هذا العالم، ليس الذين واصلوا الحياة أو الذين انتحروا، بل هؤلاء الذين لم يصلوا إلي البويضة أصلاً.