هذه القراءة ليست مَعنيةً بالدفاع عن الشاعر فتحي عبدالسميع، ولا هي مهتمة أصلا بإثبات أنه شارك معنا في ثورة يناير، ولا أنه كان وما يزال ضد الحكم الديني، وضد كل نظام استبدادي، ولا هي مشغولة بالتأكيد علي أن الشاعر مثل كثيرين يدخن فقط ولا يتعاطي أي مشروب - رغم أنه لو كان يفعل لكان أمرا شخصيا - لكنه لا يفعل .. لكن هذه القراءة تنصب فقط علي قراءة وتحليل بعض الكتابات باعتبارها خطابات ثقافية قادرة علي إنتاج دلالات يبدو المضمَر فيها أكثر من المعلَن... لكنني قبل البدء في عملية التحليل تجب الإشارة إلي أنني لا أكاد أشك لحظة واحدة أن قرارا سيصدر خلال الساعات أو الأيام القليلة القادمة - إنْ لم يكن قد صدر بالفعل - بتعليمات من وزير الثقافة المصري حلمي النمنم بإعفاء الشاعر فتحي عبدالسميع من مهمة إشرافه علي سلسلة الإبداع المعاصر التي تصدرها الهيئة العامة للكتاب، وهي المهمة التي صدر قرارها منذ ثلاثة أسابيع تقريبا ولم يبدأ فيها الشاعر خطوة واحدة بعد ..!! وسبب يقيني ذلك أن وزير الثقافة لا قِبَل له بالتصدي لأخابيط وحيتان وتماسيح الفعل الثقافي المصري، هؤلاء الذين تربطهم جميعا شبكة من المصالح المشتركة في دائرة ضاقت أو اتسعت إلا أنها دائرتهم الخاصة التي ينظرون من خلالها إلي حركة الثقافة المصرية باعتبارها كعكة لا يجوز لغيرهم الاقتراب منها... خاصةً إذا كان هؤلاء كُتَّابا في صحف كبري، أو صحفيين في مؤسسات تخاطب الرأي العام، وتملك بالتالي من آليات الإيعاز والتحريض ما تجعل أي مسئول يتحسس خطواته قبل قراراته... ولا أظن أننا بحاجة في هذه المقالة للحديث أو الدفاع عن الشاعر والباحث فتحي عبد السميع محمود، ولا عن منجزه ومشروعه الثقافي والإبداعي، ولا عن قيمته كمبدع ومثقف حقيقي يمارس دوره وفعاليته في الحركة الثقافية المصرية والعربية، أقول لسنا بحاجة إلي ذلك بقدر حاجتنا لفضح تلك الكتابات الأخري المضادة التي انطلقت تهاجمه وتتهمه مذ صدر قرار الهيئة العامة للكتاب باختياره للإشراف علي إحدي سلاسلها الإبداعية " سلسلة الإبداع المعاصر"، ولن يكون هذا الفضح سبا ولا شتيمة ولا تعريضا بقدر ما سيكون محاولة ثقافية متواضعة لتحليل خطاباتها كما ذكرنا أمام القاريء ليعرف فقط كيف تدار الأمور في مصر. وسنكتفي بنموذجيْن فقط داليْن تماما علي ما تتمتع به تلك الخطابات من كذبٍ وتضليل وادّعاء، النموذج الأول منشور بجريدة الأهرام بتاريخ 2016/7/4 تحت عنوان " تحالفات التطرف تدير الثقافة " للكاتب د. ي.ع، لنلاحظ أول ما نلاحظ استدعاء مفردة " التطرف " و" الثقافة " في العنوان باعتبارهما نقيضيْن، ورغم أن كلمة " التطرف " وحدَها كافية لجذب انتباه القاريء إلا أن الكارثة الكبري التي سوف يستشعرها المتلقي أن " التطرف " هو الذي ليس فقط يدير الثقافة وحده بل بتحالفاته أيضا... لينجح الشَّرَك في جذب الانتباه ومن ثم الوقوع في مصيدة القراءة!! لتبدأ بعد ذلك سيمفونية التحريض باستحضار 30 يوليو واعتبار كل رأي مخالف أو متحفظ علي بعض منجزاتها أو مكتسباتها هو رأيٌ " موتور " و" ابتلاء " و"مُخزٍ" مع استخدام كلمات مثل " قيادي ومتطرف " الأمر الذي سيضع القاريء مباشرة أمام حالة استنفار نفسي وعصبي وثقافي بالطبع أمام تلك الشخصية المتحدَّث عنها... ولا يكتفي كاتب المقال بهذا، إذ لا بد من الحديث عن الثقافة والتطرف والإرهاب حديثا إنشائيا لدغدغة مشاعر القاريء، ومن ثم يجب الضغط عليه باستحضار نموذجيْن مثقفيْن كبيريْن باعتبارهما هنا من وجهة نظر الكاتب - النقيض للنموذج الآخر (فتحي عبد السميع) وهُما إدوارد سعيد وصنع الله إبراهيم ... ولا يمكن لأي قاريء بالطبع أن يطالع هذين الاسمين دون أن يترحم علي أيامنا هذه التي استطاع فيها التطرف وتحالفاته أن يديروا الثقافة -لاحِظ عنوان المقالة - !!! ومخطيء مَن يظن أن الكاتب انتهي، فلا بد من مغازلة وزير الثقافة نفسه فها هو يقول نصا " ومِن عجب الدنيا أن يكون علي رأس الوزارة الآن كاتب قضي ردحا من عمره في مجابهة الإسلام السياسي وجماعاته المتشددة "، وهذا العجب لا بد له بأن ينتهي باستجابة الوزير الذي سيؤذيه بالطبع أن يكون قضي ردحا من عمره في مجابهة الإسلام السياسي بينما يعجز هنا عن إصدار قرار يوافق هوي ورغبة كاتب المقال. ولعل تلك المغازلة الرخيصة لوزير الثقافة مدخلنا للنموذج الآخر الذي كتبه م.ك بجريدة "الوطن" بتاريخ 2016/7/4 تحت عنوان " كرباج لِم تعابينك يا نمنم "، دعونا من العنوان ومفردتَي " اللم " و" التعابين" فنحن أمام صحفي كبير..، لكن دلالة " الكرباج " واضحة وجلية وكأن الكاتب بما سيقوله جلاد لابد من الاستماع بل والانصياع لطلباته، وإلا فإن كرابيجه لن تتوقف .. نحن هنا أمام جلاد يبدو أكثرَ مكرا ودهاءً من رفيقه السابق؛ إذ لم يؤخر المغازلة بل جعلها في صدارة حروفه وأول كلماته، إذ يقول نصا في مفتتح مقالته " الأستاذ حلمي النمنم، وزير الثقافة، صديق قديم. كان بالنسبة لي »مرجعية ثقافية» أسعدني توليه حقيبة وزارية هي الأهم في مواجهة الإرهاب كفكر«، فأنا أعرف أن االنمنم مقاتل شرس في معركة الاستنارة." نحن هنا لسنا أمام مجرد وزير يؤدي عمله، لكننا أمام " صديق قديم " للكاتب، و" مرجعية ثقافية " ليس هذا فقط بل نحن بصدد " مقاتل شرس " ووزارته هي " الأهم في مواجهة الإرهاب كفكر " ... كما أن الكاتب (سعيد) بتوليه الحقيبة الوزارية الأهم .. فهل يمكن بعد هذه الصفات والكلمات ألا تكون عند الكاتب مصداقية فيما سيتفضل علينا بقوله؟ وهل سينكر الوزير صداقته للكاتب؟ هل سيطرق خجلا وحياءً أمام أهمية وزارته؟ مستحيل طبعا خاصة وأننا أمام معركة " الاستنارة " التي هي عند الكاتب بلاغ أخلاقي للسيد الوزير أن الشاعر فتحي عبدالسميع مِن رواد " الجريون "!!!! يا للكارثة ويا للفضيحة الكبري ... شاعر مصري يرتاد الجريون!! وهنا تظهر نعرة أخري كنا نظن أنها ولت من قاموس المثقفين المصريين عندما يصف كاتبُ المقال الشاعرَ بقوله " شاعر صعيدي " وكأنها سبة أو وصمة عار، ليعيدنا مرة أخري للصراع البدائي والقَبَلي بين الصعايدة والبحاروة، وليكشف هو بقصد أو دون قصد عن لب الأزمة وجوهر الحملة التي يشنها هو ورفاقه ضد فتحي عبد السميع ... هل يُعقَل هذا؟؟ بالطبع للوهلة الأولي لا يعقل، لكن الخطاب من حيث هو خطاب له من الآليات والقدرات عند التحليل ما يكشف عن مكنوناته المضمرة والمستترة. وتصل الملهاة ذروتها في آخر سطور الكاتب البليغ، ليكشف هو بنفسه عن نظرته الحقيقية لتوجهات الدولة من وجهة نظره هو في تعاملها مع المبدعين والمثقفين عندما يقول نصا " هذا النتن الطافح من مجاري 25 يناير يري أن «30 يونيو» ثورة مضادة.. وانقلاب، مع أن الدولة منحته جائزتها التشجيعية هذا العام! " لنغض الطرف عن رائحة كلماته وعن معينه الذي ينضح منه، ولنتأمل فقط شيئين الأول " ثورة مضادة " والآخر " انقلاب " ..!! كلمتان كافيتان تماما ليتحسس السيد الوزير مقعده .. واضحكوا ما شئتم أمام منطقه - منطق الكاتب - الذي يري أن الدولة لا ينبغي لها أن تمنح جائزتها لمن يختلف معها !!! والسؤال الآن للكاتب الهمام هل تمنح الدولة جوائزها للإبداع أم للموقف السياسي؟؟ أنت بذلك يا سيدي تطعن في كل الذين حصلوا علي جائزة الدولة باعتبارهم أرباب النظام، وليس باعتبارهم كُتّابا أو مثقفين أو مبدعين !!! لكن أنَّي لك أن تعرف هذا !!! والخلاصة أننا أمام بلاغين الأول بلاغ أمني بامتياز، والآخر بلاغ أخلاقي من الدرجة الأولي ... والبلاغان موجهان للسيد وزير الثقافة لاتخاذ اللازم نحو الشاعر المذكور لإحالته للجهات الأمنية أو لمشيخة الأزهر، فهو في البلاغ الأول إرهابي ومتطرف، وفي البلاغ الثاني يتردد علي الجريون !! وربما لن يتوقف الكثيرون أمام التعارض - بل التناقض الصارخ - بين البلاغيْن فالأول يصف الشاعر بأنه (إخواني إرهابي متطرف) والبلاغ الآخر يصفه بأنه يتردد علي مكان تقدّم فيه الخمور!! لنقف جميعا مشدوهين أمام ذلك النموذج المتطرف الإرهابي شارب الخمر، وليس أمام شاعر ومثقف عضو اتحاد كُتّاب مصر، مثَّل وطنه في مؤتمرات خارجية أكثر من مرة، وكان أمينا عاما لمؤتمر أدباء مصر، وأصدر عشرة دواوين شعرية تنتمي كلها للحداثة، فضلا عن كتابين في البحث العلمي، وسبق ترشيحه لنيل جائزة الشيخ زايد، فضلا عن حصوله مؤخرا علي جائزة الدولة التشجيعية.. لكن كل هذا لا يمكن أن يشفع له ليرأس تحرير سلسلة إبداعية .. وكم ذا بمصرَ من المضحكات !!!