منذ شهر فتحت " أخبار الأدب" ملف تراجع الاهتمام بتحقيق التراث في كافة مجالاته، ورصدت عبر سلسلة من التحقيقات والحوارات التي أجرتها الزميلة مني نور، أسباب هذا التراجع، بل الانهيار، فلم يعد لدينا جيل متمكن من المحققين، كما كان في الماضي، وأصبح التحقيق للأسف مهنة من لا مهنة له، لا يراعي ضوابطه ولا شروط تحققه، ولا يمتلك المحقق في أحيان كثيرة مهارات التحقيق، وهو ما أشار إليه بوضوح د. فيصل الحفيان مدير معهد المخطوطات العربية "أن مسألة تحقيق التراث ونشره، أصبحت في السنوات الأخيرة تسير علي غير هدي وأصبح هناك أدعياء لا يملكون القدرة العلمية والأخلاقية علي التعامل مع النص التراثي". وربما يرجع السبب في ذلك إلي عدم اهتمام الجامعات بعملية التحقيق، فهي في الغالب لا تضع بين مناهجها، منهجا متقنا، يتزود به من يريد الاشتغال بهذا الفرع المعرفي، بل الأكثر من ذلك كما أوضح د. محمود فهمي حجازي بأن الجامعات المصرية والعربية لا يعد التحقيق فيها من المقومات الأساسية للترقية، أي أنه لا يعترف به من ضمن أبحاث الترقية، وبالتالي لا يضعه الباحث ضمن اهتماماته لعدم استفادته منه.. هل هذا معقول أن نهدم جزءا أصيلا من معارفنا، بل الأدهي من ذلك اعتراف د. حجازي بأن التحقيق لا يسير ضمن خطة محددة بل بجهود فردية، ويتبدي ذلك واضحا فيما يخص تحقيق التراث العلمي، إذ لا يوجد- حسب ما ذكره د. حجازي- اهتمام رسمي بتاريخ العلم أو تاريخ العلوم العربية والإسلامية، وذلك ليس له صاحب، ونفس الأمر ينطبق علي العلوم الطبية. الأدهي من ذلك أن الأماكن التي تحقق التراث في مصر لديها العديد من المشاكل، أهمها ما كشفه د. حسين نصار للزميلة مني نور، "من أن مركز تحقيق التراث التابع لدار الكتب به موظفون باسم باحثين، لذلك لا نستطيع القول بأنهم محققون متميزون". أعتقد أننا الآن اتضحت الصورة بعد هذه السلسلة التي تحدث فيها متخصصون في هذا المجال من كافة الأجيال، وتحدث- أيضا- مسئولون- لم ينفوا ضخامة المشكلة، ولكنهم أكدوا محاولاتهم تقديم محققين مستوفين لشروط التحقيق ، لكن يبقي الأمر يحتاج لجهود واضحة في أن يقام مؤتمر كبير تتبناه إحدي الجهات المهتمة بالتحقيق، ويدعي إليه الأساتذة في هذا المجال من كافة التخصصات الأدبية واللغوية والعلمية، وأن يناقشوا بوضوح أسباب هذا الانهيار، فالأمر الآن لم يصبح فقط في ندرة الكتب المحققة، ولكن في وجود محققين ينشرون وهم يهينون التراث ولا يقدمونه بما يليق، فأصبحت المشكلة مشكلتين، ليس لدينا جيل مدرب، ولدينا بعض من يمارسون التحقيق ولا يمتلكون أدواته، فتصدر كتب مشوهة، من هنا تكمن أهمية هذا المؤتمر في أن يضع روشتة علاج واضحة، فتراثنا لا زال يملك الكثير من أسراره، بل الكثير من بريقه، وكل يوم يمر ونحن بعيدون عن هذا التراث، نفقد منه الكثير ونحرم أنفسنا والأجيال القادمة من أن تعرف ماضيها، فاللأسف حسبما أشار د. عبد الستار الحلوجي في حواره المنشور في العدد الماضي، أننا لأسباب كثيرة فقدنا عبر تاريخنا الكثير من أصول تراثنا. إن تحقيق التراث والحفاظ عليه، ليس ترفا، وتخريج أجيال من المحققين، تستكمل مشوار المحققين الكبار، أصبح أمرا ضروريا، قبل فوات الأوان.