كان مطلوباً منها أن تبتسم علي الأقل، أو أن تفتح فمها وأري بقايا حطام سيارة مفخخة كي أطمئن. كلماتها المحسوبة مثل سجّان. وصمودها الطويل في زاوية الصالون مثل مناضل طبقي، دون احتساب نظراتها الحادة وأنا أقطع المسافة الفاصلة بين الغرفة والباب الخارجي،هو ما ضاعف من مشاعري السلبية تجاه العجوز حدّ أني تمنيت لها أن تموت علي وجه السرعة، ويأتي من يحملها علي كتفيه ويذهب بها إلي المقبرة. وأن أشتري أنا علي الفور مزهرية أضعها مكان العجوز. وأربط جوف المزهرية بخيط موسيقي وأرفع من الصوت وتبدأ السهرة. فكّرت أن أخنقها بسلكٍ رقيق وأتخلص من الجثة بطريقة ما. الفكرة مشجعة لولا أن سوابقي العدلية ستفتح مسرباً للشبهة. فضلاً علي أن الفحص الطبي الأخير للعجوز يشير إلي أنها في صحّة جيدة. لن تموت هذا العام ولا في العام المقبل. ومرجّح جداً أن يمتد حضورها إلي ما بعد بطولة كأس العالم لكرة القدم 2022. بسببها (لاحظوا كيف لم أقل جدّتي) هزلت صحتي وارتفع ضغط الدم في جسمي. ظهرت بوادر السكري علي وجهي وأصبحت كثير التردد علي المرحاض. توقعت جميع الأعطاب، لكن ما وقع للسيدة العجوز في مايو الماضي،بين ليلة السبت وصباح الأحد، هو ما لم يخطر علي بال أشدّ المتفائلين بصحتها. لا حتي الطبيب وأمّي. حدث ذلك بسرعةٍ لا تضاهيها إلا السرعة الجنونية التي وصل بها جيش صدام حسين إلي الكويت. نعم، تحوّلت جدّتي بقدرة قادر، كما تقول هي، من عجوزٍ بكماء تحرك عقيق المسبحة بأصابع كسولة وتغفو. تصلّي وتنام وفق برنامج محكم، إلي امراة حقيقية تترأس موائد الطعام وتسرد قصص البلدة في قالب روائي مشوّق ونضارة لغوية مدهشة. أبلل سبابتي بلساني وأقلب الصفحات علي مهلٍ. أقرأ التاريخ وأضحك. تتفوق علينا دائما، وتحسم النقاش لصالحها بالأدلة كلما أثيرت مسألة الشرق الأوسط والاحتراب الطائفي في العراق وسوريا. بل وأكثر عندما نسيتُ معدتي الفارغة العاوية خلال جلسة البرلمان المنقولة مباشرة علي القناة الأولي يوم الثلاثاء الماضي. وجلستُ بدوري أنظر الي الجدة وهي تشهر أصبعها الوسطي في اتجاه التلفاز كلّما ظهر رئيس الجلسة، وقال " شكراً السيد النائب، انتهي الوقت القانوني، هل من تعقيبات إضافية ". تعقب بالأصبع علي طريقة بنات الثانوية عندما يتخاصمن علي شاب. كان تركيزي منصبا علي مطرقة الرئيس وأصبع الجدة. خرجت جدتي إلي العلن في أقل من شهر. وأصبحت تجلس علي كرسيٍّ أمام البيت. تبث همومها وأفكارها لنساء الحيّ. تستوقف الشباب بايماءة الرأس، وتوزع عليهم المناشير السرية. تنبّه المقدم، الرادار المحلي، إلي ما يجري في الحيّ ورفع تقريراً مفصلا إلي الجهات المعنية، مرفوقا بصوّر الجدة من زوايا مختلفة. أصبح المنزل مراقبا علي مدار 24 ساعة.ثم هاجر قدماء الحيّ وجاء آخرون بسحنات غريبة ومشاغل مجهولة. ضاقت الدائرة علي الجدّة وحزمت أغراضها في منديل منقط. تأبطت الصرة واختفت. هناك من قال (العهدة علي الراوي) أنّ الجدة ظهرت في بلادٍ بعيدة، باسمٍ آخر و"لوك" جديد ومناصرين جدد. وهل قلت لكم اسم الجدة ؟. تركتم لكم حرية التخمين.