ولعل نابليون بونابرت فطن إلي أهمية هذا الدور وتأثيره حينما اتخذ قرار حملته علي مصر (1798 - 1801) مدركا في ذات الوقت قدر الصعوبة أمامه وأهمية دور الترجمة في التواصل العسكري والاجتماعي مع هؤلاء المصريين في بيئة تختلف كليا عن البيئة الفرنسية. وأدرك بونابرت منذ الوهلة الأولي أن المعاني التي تدور في خلد الفرنسيين لا يمكن بأي حال من الأحوال أن تتطابق مع ما يدور في خلد المصريين الشرقيين، لأن المعاني ببساطة هي انعكاس لإحساس مجموعة من الناس في بيئة معينة تتأثر بالأخلاق والعادات كما تتأثر بالظروف التاريخية والسياسية والظروف الدينية أيضا. من هنا برزت صعوبة التواصل بين الفرنسيين والمصريين في تلك البيئة الغريبة عن رجال الحملة أنفسهم، فكان ذلك التواصل بحق أشبه بصدام بين الشرق والغرب، صدام علي المستويين اللغوي والفكري من ناحية، وصدام علي المستويين الاجتماعي والعسكري من ناحية أخري، فأذن هذا الصدام ببزوغ حركة الترجمة التي لعبت دورا كبيرا حتي بعد خروج الفرنسيين من مصر وعلي مدار سنوات خلال القرن التاسع عشر. اصطحب بونابرت معه أكثر من 150 عالما وفنانا، كان من بينهم بالطبع مجموعة من المترجمين المستشرقين ذكرهم المسيو ريبوکeybaud في كتابه الشهير والأهم عن الحملة الفرنسية علي مصر بعنوان "التاريخ العلمي والعسكري للحملة الفرنسية علي مصر Histoire scientifique et militaire de l'xpedition francaise en Egypte والذي طبع بين عامي 1830 إلي 1836 بإشراف المسيو مارسل Marcel وحدد ريبو أسماء مجموعة من المترجمين الأعضاء في لجنة الترجمة في المجتمع العلمي المصري هم: - جان ميشيل فنتور دي بارادي Jean Michel »enture De Paradis - جان جوزيف مارسل Jean Joseph Michel -شارل ماجالون»harles Magallon - جان بابتيست سانتي لوماكا Jean - Baptiste Santi L'Homeca - بيير أميدي جوبير Pierre - Amedee Jaubert - جاك دنيس دو لابورت Jacques - Dgnis Delaporte - لوي ريمي ريج Louis ک'emy کaige - داميان براسوفيش Damien Bracevich - بيلتيت Belletete ou Belleteste ولا نغفل الدور الذي أسهمت به المطبعة العربية التي أحضرها معه بونابرت في تعزيز دور الترجمة ونشاطها خلال ثلاث سنوات هي عمر الحملة الفرنسية علي مصر، وجهود لجنة الطباعة في المجمع العلمي المصري كالمسيو مارسل Marcel مدير المطبعة وبنتيس Puntis وجالان Galland وبودوان Bouduin وبسون Besson . ومن المعروف أن الغرض الذي كان يرمي إليه بونابرت من حملته العسكرية هو توطيد هيمنة فرنسا في الشرق وجعل مصر مركز امبراطوريته المنشودة في المنطقة، لذا رأي أن خير بداية له لابد أن تكون مجاملة الجانب التركي واستمالة قلوب المصريين وطمأنة الأهالي من خلال ترسيخ فكرة أنه ما جاء إلي بلادهم إلا لمحاربة المماليك الذين يستنزفون موارد البلاد وشعبها، وأنه يرغب في تخليص البلاد من شرورهم وترسيخ حكومة أهلية من المصريين أنفسهم. فبدأ دور الترجمة مع انطلاق أول بيان باللغة العربية من علي ظهر بارجة القيادة الفرنسية "لوريان L'orient " (الشرق)، وقد صاغ هذا البيان المؤرخ في 27 يونيو 1798 في نسخته العربية مترجمو الحملة خاصة المسيو فنتور والمسيو مارسل، كما طبع البيان قبل رسو سفن الفرنسيين في الإسكندرية. كان بونابرت قد أحضر معه ثلاث مطابع، عربية ولاتينية وفرنسية، ونقلهم إلي منزل قنصل البندقية في الإسكندرية بعد احتلال الثغر، وطبع المنشور المذكور أربعة آلاف نسخة باستثناء النسخ التي طبعت علي ظهر البارجة لوريان لتوزيعها علي الأهالي. وأورد عبدالرحمن الجبرتي في كتابه "عجائب الآثار في التراجم والأخبار" الجزء الثالث نص المنشور العربي، أما المنشور الفرنسي فقد ورد نصه في مراسلات بونابرت الجزء الرابع، وإن كان ثمة اختلافات لغوية بين النصين، العربي والفرنسي، ربما لأسباب ثقافية تعمد المترجمون التدخل لتحقيق هدف استمالة القاريء المصري ومخاطبة عاطفته، وإن كان ذلك في أضيق الحدود كما سيتضح. احتوي النص العربي الوارد ذكره في تاريخ الجبرتي علي الكثير من الأخطاء اللغوية فضلا عن ركاكة الأسلوب، وهو أمر أشار إليه الجبرتي نفسه منزعجا كما سيتضح، ونحن هنا لسنا بصدد تحليل النصين لغويا بقدر الإشارة إلي دور المترجمين في استخدام عبارات جنحت إلي كسب ود المصريين، وإن كانت علي حساب الأصل الفرنسي المكتوب بلغة بليغة راقية، من أجل تدعيم أواصر الصلة بين الفريقين نورد أبرزها وهو بداية النص العربي التي تقول: "بسم الله الرحمن الرحيم، لا إله إلا الله،لا ولد له، ولا شريك له في ملكه، من طرف الفرنساوية المبني علي أساس الحرية والتسوية..." نلاحظ بالطبع أن صيغة البداية ذات الصبغة الإسلامية لا مجال لوجودها في متن النص الفرنسي الذي بدأ بعبارة عسكرية مباشرة ننقلها عن الفرنسية وهي : "المعسكر العام في الاسكندرية 14 مسيدور السنة السادسة والموافق 18 محرم 1213 هجريا، بونابرت القائد العام....." ومن أبرز الأمثلة الأخري في البيان عبارة "أيها المشايخ.. قولوا لأمتكم إن الفرنساوية أيضا مسلمون مخلصون" في حين أن الجملة الواردة في الأصل الفرنسي هي Que mous somme amis des vrai muslimans (نحن محبون للمسلمين المخلصين". لعل المترجم تعمد النهوض بدور الآلة الإعلامية بمفهوم عصرنا الحالي بغية توجيه فكر القاريء واستمالته مستخدما الترجمة والعبارات الدينية كأدوات فكرية ترسخ هذا الدور وتخدم أهداف الحملة عسكريا واجتماعيا، لذا كان علي بونابرت أن يستعين بنوعين من المترجمين، أو بالأحري نوعين من الترجمة لخدمة غرضين أساسيين خلال حملته". أ. ترجمة الوثائق الرسمية والتواصل الاجتماعي: ويهدف هذا النوع من الترجمة إلي نقل جميع الأوامر العسكرية الصادرة عن القيادة وترجمتها وكذا المنشورات وسجلات محاضر اجتماعات الديوان فضلا عن النهوض بدور الوسيط بين الحاكم والمحكوم. ب- ترجمة الكتب والأغراض العلمية: ويهدف هذا النوع من الترجمة إلي التركيز علي الجهود العلمية وترجمة مجموعة الملاحظات والبحوث التي تخدم العلماء الفرنسيين أثناء دراستهم لمصر، وإن كان هذا الدور انحصر داخل أروقة المجمع العلمي المصري وأعضائه. ويمكننا بايجاز شديد تقسيم مجموعة العاملين بالترجمة لأغراض رسمية واجتماعية إلي ثلاثة أنواع أو فرق: (أولاً) فريق المترجمين الفرنسيين من علماء الحملة أنفسهم من العارفين باللغة العربية كالم مسيو "فنتور"، عضو لجنة الترجمة بالمجمع العلمي المصري، والمسيو "بيير أميدي جوبير" وهو أحد مستشرقي الحملة وتلميذ المسيو فنتور وتخرج في كليات اللغات الشرقية في باريس والمسيو "براسرفيش" ويسميه الجبرتي "الخواجة داميانوس براشويش كاتم السر وترجمان ساري عسكر" وهو عضو لجنة الترجمة بالمجمع العلمي وشارك في ترجمة وقائع التحقيقات مع سليمان الحلبي بعد مقتل الجنرال كليبير بالتعاون مع المسيو "حناروكه" والمسيو "لوماكا" وهو أيضا عضو في لجنة الترجمة في المجمع العلمي. ويذكر الجبرتي مترجما آخر هو المسيو "كليمان" الذي يقول عنه إنه كان يترجم في بعض جلسات الديوان : "حصلت الجمعية وحضر الخازندار والوكيل.. وكليمان الترجمان" كما يذكر الجبرتي مترجما يسميه "أبي ديف" وربما يقصد المسيو "بودوف Baudeuf" ذلك التاجر الفرنسي في القاهرة والعارف باللغة العربية كما جاء في الجزء الثالث من كتاب التاريخ العلمي والعسكري للحملة الفرنسية في مصر. (ثانياً) فريق المترجمين السوريين،وهو أبرز فريق من حيث الإسهام في حقل الترجمة خلال سنوات الحملة كما سنري، وهم ينتمون لعائلات سورية نزحت إلي القاهرة ودمياط والاسكندرية لأغراض التجارة والصناعة كما تواصلوا مع شعوب البحر المتوسط وتعلموا اللغتين الإيطالية واللاتينية وأصبح لهم شأن وصل إلي مسامع بونابرت نفسه جعله يطلب من كبار علماء الحملة، المسيو "مونج" والمسيو "ديزيه" أثناء تجهيز حملته أن يتعاقدا مع بعض هؤلاء المترجمين الشرقيين في إيطاليا مثل دون إلياس فتح الله ويوسف مسابكي كما ورد في الجزء الخامس من مراسلات بونابرت. ويذكر الجبرتي وأيضا نقولا الترك في كتابه "ذكر تملك الفرنساوية الأقطار المصرية والبلاد الشامية"أن أعضاء الديوان الذي شكله بونابرت ضم سوريين اثنين هما يوسف فرحات وميخائيل كحيل. وفي عهد الجنرال "منو" عين له مترجمان سوريان هما القس أنطون رفاييل زاخور وإلياس فخر، هذا إلي جانب مترجم سوري آخر ذكره الجبرتي وهو نصر الله عند ذكره حوادث إبريل: "توفي محمد أغا مستحفظان مطعونا (أي بالطاعون) .. ولم يقلدوا عوضه أحدا، بل أذنوا لعبدالعال أن يركب عوضا عنه، وذلك بمعونة نصرالله النصراني ترجمان قائم مقام بليار". (ثالثاً) فريق المترجمين المغاربة والأتراك والعرب ممن وقعوا أسري في يد الفرنسيين أثناء احتلالهم جزيرة مالطة في الطريق قبل قدومهم إلي مصر، وقد اصطحبهم الفرنسيون معهم ولا تذكر المصادر أسماء أي منهم. ولا تمثل هذه القائمة سجلا كاملا للمترجمين الذين شاركوا في الحملة لاسيما السوريين منهم، بل هي علي سبيل المثال بقدر ما هو متاح لنا من مصادر. أما فيما يتعلق بفئة المترجمين المصريين فقد كان لتردي الأوضاع في البلاد دوره في عدم كفاءة وأهلية المصريين لهذه المهمة، نظرا لتدهور حال التعليم وعدم وجود مدارس علمية تهتم بتعليم اللغات الأجنبية والفرنسية علي وجه التحديد في بيئة مصرية فقيرة سادها التعليم الديني المعروف بالكتاب أو داخل أروقة الأزهر. لكننا نذكر رغم ذلك اسما مصريا لمع لدي الفرنسيين وهو "إليوس بقطر Ellious Bocthor " الذي خالط الفرنسيين وتتلمذ علي يدهم وتعلم لغتهم وأتقنها واشتغل بالترجمة مع رجال الحملة، وكان ينتمي لطائفة شبان الأقباط بزعامة المعلم يعقوب، الذي كون بدوره جيشا موازيا لمساعدة الفرنسيين في حملتهم ضد المصريين. غادر بقطر البلاد مع الجالية التي خرجت مع الحملة من مصر وعاش في فرنسا حتي استدعي في باريس وترجم بعض الوثائق العربية وشارك في تحقيق الأسماء العربية الواردة في خرائط كتاب "وصف مصر"واستطاع أن يضع معجما فرنسيا عربيا في جزءين وعين مدرسا للغة العربية العامية بمدرسة اللغات الشرقية في باريس وتوفي بعد أن أكمل وضع معجمه فأشرف علي طبع المعجم المستشرق الكبير "كوسان دي بيرسيفال »aussin de Perceval عامي 1828 و 1829. أما الترجمة لأغراض علمية فقد كانت، كما ذكرنا من قبل، من اختصاص مستشرقي الحملة من أعضاء لجنة الترجمة ولجنة الطباعة العربية والفرنسية، يساعدهم بعض السوريين. ويتضح من قائمة الأسماء المشار إليها أن بعض الأسماء شاركت في جهود الترجمتين بغرضيها، الرسمي والعلمي، لكن العبء الأكبر من الترجمة الأغراض علمية كان يقع علي عاتق مارسل والأب أنطون رفاييل السوري الذي أشرنا إليه في موضع سابق. لعب رفاييل دورا كبيرا في مجال الترجمة العلمية نذكر منه ترجمته العربية لمرسوم خاص بجمرك السويس الصادر في نوفمبر عام 1798. وبعد سفر بونابرت تولي الجنرال كليبير قيادة جيش الشرق وعلي الفور أصدر أمرا بتشكيل لجنة معنية بجمع المعلومات عن مصر »ommission des renseinements sur L'Egypte وكان من بين أعضاء تلك اللجنة رفاييل وسبعة من الأعضاء الآخرين. وبعد مقتل كليبير وتولي منو مقاليد الأمور أعيد تشكيل الديوان واختير رفاييل كبير مترجمي الديوان الجديد، وقد عثر في مخطوطات المجمع العلمي المصري علي وثيقتين من ترجمة رفاييل، الأولي عبارة عن لائحة قضائية أصدرها الجنرال منو لتنظيم المحاكم المحصرية وحملت توقيع دون رفاييل بتاريخ أول أكتوبر 1800 والثانية ترجمة أمر يومي أصدره منو بتاريخ 23 أغسطس 1801. كما شارك رفاييل في ترجمة رسالة طبية صغيرة ألقاها المسيو "ديجينت" كبير أطباء الحملة الفرنسية عن مرض الجدري وطرق علاجه وطبعت في مطبعة الحملة، وذكر ديجينت أنه أهدي 250 نسخة من رسالته إلي الديوان و50 نسخة إلي السيدة نفيسة، زوجة مراد بيه، وهي رواية أيدها الجبرتي في ذكره حوادث شعبان عام 1215 هجريا. وتجدر الإشارة إلي أنه رغم أهمية الدور الذي لعبه المترجمون علي اختلاف أنواعهم وتخصصهم خلال سنوات الحملة، إلا أن النصوص المترجمة أبرزت ضعفا في الأسلوب والصياغة وعدم الإلمام الجيد بقواعد اللغة العربية، ويشير الجبرتي إلي ذلك قائلا عند حديثه عن انشاء الديوان أن الفرنسيين وضعوا شروطا وقواعد "كتبوها بتعبيرات سخيفة يفهم منها المراد بعد التأمل الكثير لعدم معرفتهم بقوانين التراكيب العربية". كما نذكر أنه بعد اغتيال الجنرال كليبير علي يد سليمان الحلبي جري اعتقاله ومجموعة من المعاونين له وبدأت وقائع التحقيقات والمحاكمة، وصدر نص التحقيقات بثلاث لغات هي ":الفرنسية والتركية والعربية ولعب المترجمون فيها دورا هو الأول من حيث تقديم وقائع جلسات تحقيق قانونية لم تكن معروفة من قبل في مصر. وهنا يشير الجبرتي في تعليقه علي سرد وقائع التحقيقات مع سليمان الحلبي إلي ركاكة أسلوب الترجمة والسرد والتدوين قائلا: "وقد كنت قد أعرضت عن ذكرها لطولها وركاكة تركيبها لقصورهم في اللغة، ثم رأيت كثيرا من الناس تتشوق نفسه إلي الاطلاع عليها لتضمنها خبر الواقعة وكيفية الحكومة (يقصد المحكمة) ولما فيها من الاعتبار وضبط الأحكام من هؤلاء الطايفة الذين يحكمون العقل ولا يتدينون بدين، وكيف وقد تجاري علي كبيرهم ويعسو بهم رجل آفاقي أهوج وغدره وقبضوا عليه وقرروه ولم يعجلوا بقتله وقتل من أخبر عنهم». ظلت حركة الترجمة الفرنسية والعربية طوال فترة الحملة نشطة تثمر في جميع المجالات، الاجتماعية والعلمية وعلم بونابرت أن سلاح الترجمة لم يكن أقل أهمية عن المدافع والبارود لتحقيق حلمه بتكوين امبراطورية الشرق انطلاقا من مصر. ولعل بونابرت لم يدرك وقتها أنه بذلك أسهم بطريقة غير مباشرة في وضع أولي لبنات مدرسة الترجمة الحديثة في مصر التي ستنطلق وتزدهر علي يد محمد علي الذي سار علي النهج، وأيضا الدور الذي لعبه الفرنسيون أنفسهم علميا، بعد فشلهم العسكري، في مصر من خلال بعثات علمية أرسلتها إلي فرنسا أهسمت بدون شك في إرساء دعائم مصر الحديثة.