كتب مرة أستاذ يوسف عبد الحميد في مجلة "أمكنة" عن علاقته بمسرح سيد درويش في الإسكندرية، ووصف علاقته به أنه كان يشعر دائما هناك أنه في بيته، وأنه ليس في مكان غريب؛ لأنه وُلد وتربَّي علي خشبة هذا المسرح. هذا الشعور بالألفة والأمان امتد في رأيي في حياة يوسف عبد الحميد (أو عم يوسف كما نناديه) ليس في المسرح فقط، ولكن في المقهي أيضا. وكنا نمازح صاحبه أن هذا المقهي أصلا ملك لعم يوسف وسيسترده منه، ثم نُحضر العشاء المكون من الجبنة والطماطم التي يجيد صنعها عم يوسف، ويجب أن تجلس لتتفرج كيف يصنع أفضل طبق جبنة بالطماطم، أو يخبرك كيف تصنع طبق مكرونة بيضاء بالتونة. في المسرح والمقهي.. كان يشعر هناك أنه في بيته، حتي عندما عمل في مكتبة الإسكندرية كبيرًا للفنيين؛ كان يتعامل وكأنه في بيته. أستطيع أن أفهم الآن سبب تذمر الأصدقاء الذين عملوا معه في المكتبة من الطريقة التي يدير بها العمل، أو تصرفاته خلال أوقات العمل؛ هذا لأنه هناك أيضا كان يشعر أنه في بيته، ويتصرف علي طبيعته، وكانت طبيعة شخصيته أنه يعتبر أصدقاءه أبناء وهو الأب في بيته. كنت أحيانا أراه يقابل ابنه علي المقهي وأتذكر يوسف عبد الحميد السويفي (بطل رواية فتحي غانم الرجل الذي فقد ظله) وعلاقته بأبيه، لكن علاقة عم يوسف كانت تختلف عن الشخص المثقف أو الفنان فقد كان أقرب بالنسبة لي كإنسان محب للحياة. عندما عرفت أنه تزوج حبيبته الإيطالية القديمة بعد 25 سنة لم أتعجب، فقد عمل في مكتبة الإسكندرية وهو كبير في السن أيضا، كان يحتفظ بطاقته وحيويته، حتي عندما ترك العمل في مكتبة الاسكندرية شرع في ترجمة الروايات من الإيطالية. أنا واثق أنه لم يفعل هذا بفكرة المترجم ولكن بفكرة من عاش يتحدث الإيطالية وكأنها بيته الثاني. في السنوات الأخيرة أصبحنا صديقين علي الفيس بوك وكان كل فترة يطلب مني رقم صديق مشترك، كنت أشعر أنه يريد أن يمد جسور التواصل، لم تكن رغبته في الاتصال بالآخرين لأمور خاصة بالعمل دائما، ولكن لشيء أكبر من ذلك. شاهدت مرة عملا مسرحيا من إخراجه هو (موت فوضوي قضاء وقدرا) لداريو فو، أعجبني العرض وشعرت أن شخصية يوسف عبد الحميد حتي وهو يتحدث أثرت علي الممثلين، ولعل هذا كان عيبا في العرض أو كانت هذه هي تعليماته، وشاهدته وهو يؤدي عرض الهوجة من إخراج أحمد صالح عن نص لحجاج أدول، وكان هو هناك أيضا يتحدث. بعد أن عاد إلي كوم الدكة شعرت أنه رجع لبيته، ليس لبيته القديم؛ فأنت تستطيع أن تقول إن حي كوم الدكة كان بمثابة بيت يخصه. أتذكر مرة أنه كان غاضبا لأن أحدهم من خارج كوم الدكة يتحدث عن الحي مع صديقه في حضوره وكأنه يتحدث عن بيته هو في حضوره! عندما كان يحكي عن ركوبه الفسبا في شوارع روما كنت أشعر أنه طفل يلعب بدراجته في الشارع أمام البيت. بعد عودته من إيطاليا طلب مني نسخة من روايتي، وطلب رأيي في ترجمته لرواية إيطالية، وحضر حفل توقيع ديواني مع صديقين، وجعل صورته الشخصية هي الصورة الجماعية لنا بعد حفل التوقيع وهو يجلس بشعره الأبيض وملامحه الوسيمة وبكوفية صغيرة بيضاء ولون قميصه اللبني الجميل. كلمني علي الفيس قبل رحيله بأيام ليهنئني بعيد ميلادي وسألني هل أطفأت الشمع وهل أكلت التورتة؟ وكنت لم أطفيء الشمع ولم آكل التورتة، فقلت لا، وأني لم أعتد الاحتفال بعيد ميلادي، قال لي يجب أن تطفيء الشمع وتأكل التورتة؛ كأنه يحثني علي الاحتفال بالحياة.. ومات قبل أن أخبره أني فعلت!