كان يوسف عبد الحميد يتمتع بشخصية حادة جاهزة للصدام، كان هذا في بداية تعرفي عليه بداية التسعينيات إثر عودته من تجربته الطويلة في إيطاليا. كانت هذه الحدة ليست فقط ابنة موقف فكري جذري من الحياة، ولكن ابنة احباط مستتر، وعدم حصوله علي وظيفة تليق به، وعدم تقدير لموهبته المسرحية، ومواجهات أخري ساذجة أخذت تحتل الفضاء الذي يوفره الاعتداد الشديد بالنفس. كانت طفولة يوسف في حي كوم الدكة حيث الأبواب المفتوحة علي مصراعيها، ليس هناك سر يمكن أن يصمد أمام ضوء وهواء هذه الأبواب المفتوحة، لذا كان سر هذه الذات التي يحملها، أو شفرتها، أيضا مشاركة بين عدة بيوت، فذاته نبتت في الهواء المفتوح المتداول بين البيوت، وروائح طعامها، وتحت ضوء شمس كوم الدكة. هناك، في كوم الدكة، حيث لاتعرف مَن ابن مَن، أي "فردية" لها أصل جماعي، لم يصنعها الفرد بنفسه مهما كانت قوته أو عمق موهبته. لذا ظلت "فردية يوسف" لآخر أيامه عبارة عن شراكة صوفية مع مجتمع جماعي لم يعد موجودا. أي لحظة جماعية بالنسبة ليوسف كانت هي الأهم لانها تذكره بفرديته والصورة التي يحب أن يري نفسه عليها، هذه الفردية المحوطة بآخرين . كان يوسف يحمل اعتدادا شديدا بنفسه وبموهبته، به مس خفيف من التعالي ورغبة التفوق النفسي، المضمر، علي الآخرين، والأنانية الذكية. عاش هذا الاعتداد، في معادلة حياة يوسف، بجوار توقه الشديد للجماعة، وهي إحدي فروقاته الشخصية في بناء نفسه من مجموعة من المتناقضات المحتومة. كان عنده إحساس موضوعي بالغبن علي المستوي الفني، ولكنه لم يتركه ليأكل وعيه أو يملأ كل الفضاء الذي يوفره الاعتداد بالنفس. لم يجعله مادة لحديثه، أو مركزا لعلاقته بالآخرين، قد تم تجاوزه، أو إزاحته للظل بدون أي إقصاء متعمد. ولكنه ظل، أيضا، يكدر صفو لحظات هامة وسعيدة في حياته. كانت ذاتيته، في مراحلها الأولي، ممسوسة كأنها لحقتها إهانة بأثر رجعي، وهذا الزمن هو زمن تخليصها. ولكن هذه الإهانة تم اخفاؤها تماما. وربما وجودنا نفسه رد علي إهانة سابقة لا نعرف متي لحقتنا ولماذا وقفت عندنا لنرد نحن عليها وليس غيرنا؟ كان يوسف جاهزا نفسيا للرد علي هذه الإهانة الوجودية أو الطبقية بمجمل كيانه المعنوي والمادي. ربما كانت هذه "الفردية" التي وسمت حياته، والتي اتخذت أحيانا شكل الاعتداد الشديد بالنفس؛ كانت من أجل حماية لهذه النفس، كبرياء من لايملكون شيئا وفي الوقت نفسه يملكون كل شيء. هذه السبيكة التي صنع منها ذاته هي الأصعب. ولاتنجح معادلتها في تجاور المتناقضات إلا في حال النجاح والإشباع، وهو ماحدث خلال سنواته في إيطاليا، وأيضا خلال سنواته الأخيرة قبل الوفاة، أما في حال الفشل أو التوقف، عندها تتحلل عناصر السبيكة ويظهر التنافر الشديد ورغبة البعاد فيما بين مكوناتها. وهو ماظهر في سنوات عطالته وتشرده وخروجه من الحياة العامة وتحلل الوجود الجماعي من حوله وفي مصر كلها، والانتظار علي مقاهيها. عندها أصبحت معادلة الذات مختلة تماما، لذا كان عليه أن يبني معادلته من جديد، بنفس الأفكار السابقة والمكونات ولكن بشراكة جديدة من تأمل الحياة وتغيير إحداثي الفرد والذات بداخلها. خلال سنوات هذه المحنة أعاد يوسف صياغة نفسه من جديد وغيَّر من حاجته الملحة للفردية، وأيضا من ولعه الجماعي الشديد، وأدخل نوعا من الزهد والتعالي النفسي علي الحياة، وربما هذا أتاح له ولهذه المعادلة الاستمرار، بدلا من أعراض الانفصام. كانت طفولة يوسف متشبثة بذيل أبيه الذي كان مسئولا عن خشبة مسرح سيد درويش. كان قائدا روحيا ومعلما بالنسبة ليوسف وكثيرا ماكان يتذكره بعين براقة تريد أن تخترق السنوات. أكمل يوسف رحلة أبيه بأن أضاف "للأسطي" الجزء الفني الذي كان ينقصه والمرتبط بعملية الخلق/ الإخراج، بالعمل علي خشبة أحد أشهر مسارح روما، بجانب اتجاهه للإخراج المسرحي فيما بعد. وربما لهذا السبب أصبحت علاقة يوسف بالمسرح بشكل عام مصدر عذاب له، يتعارك من أجله ولايساوم عليه لحد التعصب، بسبب هذا الدَين القديم الذي يسدده لأبيه ووفاء لرحلته الناقصة. يوسف كان يملك فكرا عميقا ليس ابن مشروع نظري للقراءة ولكن ابن انتفاض وجودي في الدفاع عن النفس ولإثبات أحقيتها في الحياة. كان ابن تجربة وجودية وكما حكي لي أنه بعد هزيمة 67 كان يحك جسده في قمم أسياخ السياج الحديدي في شارع صفية زغلول الذي يفصل الرصيف عن الشارع. كان جاهزا لأن يمشي علي النار أو ينام علي المسامير، كان يعاقب نفسه علي هذه الهزيمة الجماعية. حدة فكره انصبت أيضا علي رؤية الناس وكشف معادنهم وعدم الاتجار بهذا الكشف أو حتي استغلاله في ضمان علاقات آمنة. ضد نصائح الأطباء كان يأكل بشراهة. الأكل كان يحمل بالنسبة له رائحة هذا الوجود الجماعي الذي ربما يمثله الوطن، وأيضا الوجود الجماعي للحياة في كوم الدكة، حيث أطباق الطعام تتناوب محطاتها بين البيوت، وأي وجبة تمثيل لمجتمع كامل يتجمع أطفاله وكباره حولها. هناك جملة سمعتها مرارا من أهل كوم الدكة عندما يتذكر أحدهم بيت صديق له يقول "أكلت في بيتهم" كأنه عهد مثل الذي رضع من أم غير أمه فأصبح ابنها او بنتها أخا/ أختا له في الرضاعة. هناك نظام مماثل للأخوة والأخوية. هناك حرمانية يضع حدودها الطعام. يحمل الطعام رمزا/ طقسا دينيا، تحضر من خلاله روح الجماعة. عهد لاينقض، وأصدق تمثيل لعهد "العيش والملح". حفاظ يوسف، منفردا، علي تنوع مائدة طعامه ومكوناتها وأطباقها وأرغفة خبزها الساخنة الطالعة توا من الفرن، كان رمزا لحضور الجماعة واستمرارها داخل حياته ودمه وتمثيله الغذائي، حتي ولو انفض هذا الوجود من حوله. شحنة الحنين تتكثف داخل هذا الطقس. كان يحدثني عن جلسات الأكل الجماعي التي كانت تعقد زمان في كوم الدكة، أو علي فترات متقطعة في أزمنة حديثة؛ كأنها جلسات علاج جماعي. خلال سنوات محنته وجلوسه علي رصيف الحياة العامة، لم يفقد يوسف كبرياءه. كان لايريد ممن يقدم له المساعدة أن يسرف في التعاطف معه، لأنه لايري نفسه ضعيفا. لأن اللحظة التي يعلن فيها احتياجه تعني أنه لم يعد هناك حاجز يحمي به هذه الذات أو يدافع عنها، وأي زيادة في التعاطف تعني جرحا لهذه الذات، وانتقاصا ماديا من قدرها، يتبعه ألم ممض. كان يوسف من الشخصيات التي تدخل منطقة الخطر لو أشعرتَها بضعفها، أو لو حنوت عليها بإسراف. أي مبالغة يلتقطها جهاز إنذاره ويرد عليها بقسوة، وربما يسب صاحبها كما حكي لي أحد أصدقائه الندماء. أيضا كانت المساحة التي يكشفها من مشاعره تجاه الآخرين محايدة تماما، بالقياس بالمخفي منها. ربما هي سمة من يتبني "الفردانية" منهجا، ورغبته في الحصول علي حقائق، وتقليل مساحة التعاطف مع الآخرين حتي لاتستدرجك القلوب والحياة وتستعبدك. أو ليكون لك المبادرة دائما في فض هذا الاشتباك العاطفي في أي لحظة ملل والهرب منه. وأيضا الاحتفاظ بصورة "الذات الموضوعية" التي تمنح بمقدار القيمة. كانت هذه المعادلة السابقة من ضمن المعادلات متناقضة العناصر التي كونها يوسف عن نفسه، والتي لاتخلو من أنانية أحيانا، وعدم مسئولية في أحيان أخري، والتي تغيرت تماما في سنواته الأخيرة، التي استرد فيها عواطف منسية، كانت مكبوتة بداخله، وأظهر عواطف أخري طازجة وليدة اللحظة. علي الدوام، وفي كل الأحوال وفي أصعب الظروف كانت هناك عين ساهرة لا تنام. في تلك الفترات القاسية التي مرت عليه والتي وصل فيها إلي قاع وجوده، وربما كان يتأمل خلالها هذا السقوط المدوي لمشروع حياته برمته، ولايملك شيئا تجاه وقف هذا الانهيار، وظن الجميع بأنه انتهي؛ فاجأ الجميع. كان يوسف عندها يعيد صياغة معادلة وجوده بعد أن لامس القاع، ولم يعد هناك مكان أبعد للسقوط، فأخذ يعلو بهدوء وبثقة، بعد أن كان علي شفا انفصام حاد في الوعي. أخذ يعلو ومع طفوه ظهرت مدينة عجائبية مضاءة بإضاءات بينية، مطمئنة ومستسلمة لقدر أقوي بكثير من القدر الإنساني. خلال هذه المحنة التي طالت لسنوات لم يكن هناك مكان في جسده وفي روحه لم يصل إليه الألم أو الزجر المستتر، ولكنه تحمل كل هذا بصبر بطولي. وسط هذا الانهيار الظاهري كان هناك بناء يُبني به طعم هذا الانهيار، ولكن بذاتية أكثر انفتاحا علي القدر الانساني برمته وليس فقط قدره الشخصي. ربما في هذه اللحظة كان للآخرين، أو للفكرة الجماعية، مكان صحيح وحقيقي في معادلة حياته. صار للآخرين وجود غير تنافسي، وأيضا ليس من أجل الحماية، وربما هي لحظة التصالح الحقيقية مع رغبته القديمة بجماعية منجزة. أخيرا بدأت السبيكة تتضام وتلتئم مكوناتها، والمسافة بين الفردية والجماعية جُسرت تماما. ربما لأن هذه "الفردية" قد مسها الفناء، و"الجماعية" أصبح لها لحم ودم متمثلا فيه. ربما جئنا، كبشر، كي نجمع المتناقضات أو يتم تجريبها فينا لنخرج سبيكة ومعادلات جديدة تماما في تجربة الوجود الإنساني المفتوحة، وهو مافعله يوسف في حياته. عاصرته في محطتين من محطات الحب. كلاهما كانا يحف بهما "المستحيل" دائما يريد "المستحيل" في حبه وفي الآخر وفي نفسه. يريد من الحب أن يكون أيقونة. أولي هذه المحطات عندما تزوج من فتاة إيطالية بعد 25 سنة من افتراقهما. والأخري عندما أحب فتاة تصغره بثلاثة عقود علي الأقل، وكان أيضا يريد الزواج منها. الحب إحدي المعجزات، لأنه هو الذي يجمع بين النقائض، ولايقوم علي التساوي، وهنا عدالته، وهنا معجزته، كما كان يراها يوسف. عودته وسكنه في السنتين الاخيرتين في حي كوم الدكة: الاستراحة الأخيرة قبل الرحيل، ليمنح الحي روحه وحصيلة رحلته، بعد أن أصبح أحد رموزه، مثل سيد درويش. كان يوسف يمر علي في الجاليري علي فترات متباعدة. زيارته تكون مناسبة. يهاتفني قبلها ليتأكد من وجود النسكافيه الذي يفضله. كان يحبَّش لقاءاته بتفاصيل وطقوس. عندما يدخل علي بأبهي صورة، يلقي نظرة علي الجديد من المعروضات، ثم يخلع الكوفية والجيليه، والجاكت الجلد، ويضع اللابتوب بجانبه ثم يجلس لنبدأ حوارا لاينقطع إلا بعدها بساعات. كل الخطوات السابقة كان يؤديها بطريقة مسرحية هادئة، غير متسرعة، كأنه تدرب عليها وفكر بها قبل الدخول. كان يهمه أن يترك صورة قوية في عيني. من فرط تأنقه في هذه الزيارات، وسعادته بنفسه وفرحه بإنجاز حياته؛ سميته "الغندور". كان معجبا بهذا اللقب، ربما لأنه أصاب غاية في نفسه، وأصبح شفرة فيما بيننا علي لحظة تحقق غالية، مدفوعة الثمن، وطال انتظارها.