يخلق الله عادة أنماطا من البشر، يتشابهون بشكل ما أو بآخر، ويمكن للواحد أن يقابلهم في أكثر من مكان وزمان، ويمكث الواحد منهم في الذهن فترة تطول أو تقصر ثم يختفي، ولكن يخلق الله أيضا شخصيات وحيدة من نوعها، متفردة في صفاتها، ولا يقابل المرء في حياته الكثير منها، من هؤلاء يوسف عبد الحميد. بعد انتهاء العزاء، قعدنا نحن مجموعة من أصدقائه المقربين في ذات المقهي "قهوة فرج" بكوم الدكة، وعلي نفس الطاولة التي كنا نجلس معه عليها وكأنه معنا يواسينا، شربنا القهوة وانصرفنا سرت وحيدا في نفس الطريق الذي اعتدت المشي معه فيه، ووجدتني أتمتم بعض كلمات من أغنية لفيروز كنا نغنيها معا أحيانا (أنا صار لازم خبركن هالقصة عني .. أنا كل شي بقوله عم حسه عم يطلع مني .. موسيقيي دقوا وفلوا .. والعالم صاروا يقلوا .. ودايما في الآخر في آخر في وقت فراق...) كان العام 1968، وكنا شبابا صغارا، أكبرنا تقريبا يوسف اثنان وعشرون سنة، وأنا في الثامنة عشرة، والهزيمة تحاصر الجميع، وعلي الأخص الأجيال الأكبر منا، تعرفت عليه في مركز "الجزويت" الثقافي بالإسكندرية لأنضم لفرقة "الاجتياز" المسرحية، التي أسسها يوسف عبد الحميد ومسعد النجار والسيد حافظ. كتبنا ونفذنا عروضا مسرحية بميزانيات لا تذكر، في الجزويت، وفي الأتيليه، وفي قصر ثقافة الأنفوشي، كنا من أوائل الفرق المسرحية المستقلة إن لم تكن أولها- لم ننشغل ببهرجة المسرح، فالتقدم المسرحي بالنسبة لنا لم يكن في الفخامة أو الضخامة، لكن التقدم المسرحي هو أن تطرح أفكارا جديدة، تأخذنا كصناع ومشاهدين لمناطق جديدة، هكذا كنا نفكر، وكان يوسف هو دينامو "الاجتياز". يوسف شجاع في مواجهة الحياة، وفي مواجهة الموت أيضا، أحيانا يكون مفلسا، وبلا عمل، ولكنه يصرف آخر قرش في جيبه مساء، ويعرف أنه صباحا سيستطيع انتزاع إفطاره من الحياة، وكما تمني أن يكون رحيله..كان. بلا ضجة وبلا ثقل. ورغم توقف "الاجتياز" في 1972 إلا أننا ظللنا متواصلين وحريصين علي متانة علاقتنا وتعاوننا في بعض الأعمال المسرحية فيما بعد كان من أهمها في منتصف الثمانينات مسرحية "النحيف والبدين" من إخراجه ولعبنا معا الدورين الأساسيين بها. ثم تبعناها بمسرحية أخري " الجراب " التي تشارك في تأليفها مع مسعد النجار وصالح سعد وقمت بإخراجها. وظل يوسف دائما مركز تجمعنا وبنك معلوماتنا الذي يتابعنا عن بعد أو قرب ويسهل طرق التواصل بيننا .. فقد ظل يلعب دور الأب الروحي لنا حتي آخر لحظة في حياته التي تقاسمها معنا بمنتهي الجود والكرم والحب. سألت نفسي وأنا أغادر "مقهي فرج"، هل سأعود إلي كوم الدكة مرة أخري؟ ولمن سأعود؟ لكن بعد بضعة أيام عرفت أني سأعود، فيوسف ليس شخصا يسكن في الأماكن فقط، يوسف يسكن تحت الجلد.