احتواء البحر لشمس الإسكندرية لحظة الغروب، لحظة ملهمة في يوم يوسف الطويل، كنا نحرص علي حضور هذا المشهد كلما أتاحت لنا الحياة ذلك، علي طول كورنيش الإسكندرية المرجع والملاذ. يوسف عبد الحميد المولود في 23/9/1948 بحي كوم الدكة، تربي علي خشبة مسرح سيد درويش حيث كان يعمل قدوته ووالده، وحيث عمل أخوه الماكيير فتحي يوسف، ومن سيد درويش لم يترك مسرحا قابله إلا ووضع فيه لمساته المبدعة، ورؤيته المتفردة. عام 1988 وفي غرفة عمي فتحي تعرفت علي أخيه يوسف، كان عائدا لتوه من أوبرا القاهرة حيث شارك في افتتاحها وعمل علي مسارحها، كان حينها متعبا منهكا، صامتا أغلب الوقت، يدير الحوار مع نفسه، وكنت من القلائل الذين وافق لهم يوسف وقتها بالدخول إلي شرنقته، ولم نعرف إلي يومنا هذا لماذا اقتربت؟ ولماذا وافق علي دخولي إلي عالمه العجيب؟ ومن يومها أواصر المحبة ممتدة بيننا، صار أخي وصرت أخاه. حدثني يوسف - حين تعرفنا - عن تجربته في تأسيس فرقة "اجتياز" مع مسرحيي الإسكندرية الرافضين لنكسة 1967 إلي أن توقفت "اجتياز" عام 1972، وكيف كان الحلم عظيما بعد أكتوبر 1973 ثم تهاوي تحت مطارق الانفتاح الساداتي، وبرغم وطأة المرارة، لم يتوقف يوسف عن الحلم والإبداع، ولا الأمل والإمتاع وتشهد له مسارح مصر بذلك، وكذلك مسارح إيطاليا التي قصدها 1979 وعاد منها 1983 وكان يدير خشبة مسرح يوليوس قيصر أكبر مسارح روما. عرفت يوسف شاعرا حالما رافضا لواقع مترد أصاب المسرح معشوقه الأول، كما أصاب غيره من مناحي الثقافة والحياة في مصر، وبرغم المرارة التي كان يشعر بها وقتها، ورغم الانطواء الذي كان باديا عليه، إلا أن يوسف لم يرحل قط عن الواقع مستسلما، كان مبدعا في أقصي درجات الضيق والضجر، كان صابرا راضيا مؤمنا بالقضاء والقدر، وكان يغني "عشقان يا صبايا". "عشقان يا صبايا / والوِرد دليله منين/ عشقان والكلمة الحلوة/ بتنور نني العين/ انِده ع البت بهية / خليها تخبي ياسين/ قولها تاخده في تكعيبة / ضلها يجي ميت فدان/ يغسل توبه المتعكر/ باقدام عسكري متنكر/ لابس بابيون فنان/ والدنس الاسود يخرج/ م التوب الطاهر لابيض/ والعشق يرد صبابة/ بينهم هما الاتنين/ أنا كنت محمد وأحمد/ وصراطي كان حسنين/ الأولي: اُخرج مش راجع / والتانية: حروح علي فين؟/ لو كنت مؤهل تخلع/ توبك لاول راح تقدر/ لكن خفرك مش ممكن / راح يخدش نني العين/ عشقان يا صبايا/ عشقان يا مصريين/ عشقان والعشق لوحده/ يكفيني يا دوب ساعتين" اكتوبر 1992. نال يوسف المركز الأول علي مستوي الجمهورية في مسابقة العروض المسرحية بأوبريت ((ليلة رمضانية)) والذي قمت بتأليفه وأخرجه يوسف عبد الحميد 1996 لكلية رياض الأطفال بالإسكندرية. كان يوسف مشاركا قويا في الحركة المسرحية الناهضة بالإسكندرية يحتضن الشباب ويتواصل معهم وكأنهم من أبناء جيله، وجدوا فيه الصديق والإنسان قبل أن يجدوا المبدع والفنان، و قد حصل 1999 علي المستوي الأول في الإخراج في مسابقة مهرجان نوادي المسرح التاسع التي أقيمت بالإسماعيلية عمل رئيسا لفنيي المسرح بمكتبة الإسكندرية في الفترة من 2003 إلي 2006 وكان مبدعا كعادته في تقديم عروض المكتبة المسرحية. شارك يوسف مع صديق عمرنا الفنان الراحل حمدي رءوف في تأسيس فرقة كورال الأطفال، ومخرجا لعروضها منذ عام 2004 علي مسارح الإسكندرية، وعلي أوبرا القاهرة وفي محكي القلعة وغيرها. كتب يوسف قصصا مصورة للأطفال حيث شاركت معه في كتابة ثلاثين قصة عام 2009 منها "حرب الكواكب" و"حاول واسأل" و"حليب ميمي" بالإضافة إلي سلسلة حملت اسم "سفينة الحروف" طبعت، وتحولت إلي مسلسل كرتوني، ونشرت ووزعت بشكل كبير في دول الخليج، واعتمدت كمنهج دراسي في مدارس دولة الإمارات العربية المتحدة من عام 2011. في السنوات الأخيرة انشغل يوسف بالترجمة من الإيطالية إلي العربية. لقصص إيطالية أصدرت حديثا، حيث ترجم رواية "أنا وأنت" للروائي الإيطالي نيكولو أمانيتي 2012، و"لحظات من سعادة عابرة" للروائي فرانشسكو بيكولو 2014 وأنهي ترجمة الفصل الثالث من رواية "وادي اللصوص" تأليف: إرمانو كافاتسوني. في الليلة الأولي من رمضان دخلت كومة الدكة حيث تمني يوسف أن يعيش ويموت هنا بين أهله وأحبائه وأصدقائه وجيرانه، أحمل في جيبي الفصل الثالث من ترجمته الأخيرة بعد أن أتممت مراجعتها لغويا، كنت أشفق علي نفسي من تلك اللحظة الحزينة، فاكتشفت أنني أمام لحظة عبقرية تليق بإنسانيته الصادقة، وقلبه المفعم بالحب للدنيا بأسرها، كانت الشرائط الملونة تمتد لتصل العمارات المتقاربة في حواري كوم الدكة الضيقة، والفوانيس معلقة في السماء تضيء المكان، متراقصة بين ابتسامات الأطفال اللاهين، وقهوة فرج والتي طالما شهدت لقاءاتنا الممتدة حتي الفجر، نتحدث ونتناقش ونلعب "المحبوسة"، وينهيها الفائز منا بصوت أجش: "وهكذا استطاع إيخيليون أن يقتحم القلعة، وأن يستولي علي البيادق، وتلك شيم الأبطال". إلي اللقاء يا صديقي.