قليلون جدا من يتذكرون متي بدأت علاقاتهم النوعية بأصدقائهم، ربما لأن البداية لا تهم، الأمر يشبه علي نحو ما شخصاً يدلف من المطبخ إلي غرفته ويجلس ثم تسأله بعد وقت، متي أضأت مصباح الغرفة، علي الفور سيطيل النظر للمصباح ويبتسم. أنا أيضاً لا أتذكر متي رأيته أول مرة أو في أي مناسبة. مع بداية الدخول للمشهد الثقافي السكندري في منتصف التسعينيات، من الحتمي أن تعرفه، تقابله علي مقهي، أو تراه في عرض مسرحي مخرجا أو ممثلا، إذن كان لابد أن تعقد بيننا صداقة، حتي تضاء غرفتي. كل صديق نوعي بمثابة إضاءة جديدة لغرفنا السرية، بإنسانيتنا وقسوتها وتقلباتنا التي أحيانا لا تصدق من فرط مجونها، بالتناقض الذي نغض الطرف عنه كصديق قديم، أسرارنا الدفينة، مشاكلنا مع أنفسنا، ولأن كل تلك الفوضي لابد أن ننشيء لها غرفة خاصة بمفتاح، حتي لا تجرحها عوامل التعرية للحياة الخشنة، ونهب لبعض ما نختاره نسخا احتياطية لكالون بابها، ثقة منا أنهم قادرون علي فتحها يوم أن يعند الباب ولا يفتح معنا. ووهبت لعم يوسف نسخة احتياطية، لكنه لم يستخدمها إطلاقا ربما دون عمد، جعلني هذا أنتبه لأهمية دأب المحاولة مرارا وتكرارا لفتحها بمفردي، إنه درس مباشر لضرورة إيجاد أرض مشتركة للحوار مع الذات. سيظل عم يوسف أحد الأصدقاء المهمين في حياتي، أولئك الذين يرشدوننا دون عمد نحو اتجاهات جديدة للتعامل بذكاء، ورفق مع أنفسنا. ولأنه صديق، تخلص بمرور الزمن من المزاج المعقد للفنان، يبدأ القرب بيننا، وتنساب الدردشة الليلية مع دور طاولة محبوس صباحي بصحبة أصدقائنا المجانين، حتي يحل نور الصباح ويجهد البدن، ويعود كل منا إلي بيته. في احدي المرات انصرفنا واحداً تلو الآخر وبقي هو، تساءلت حينها: أين يسكن عم يوسف؟ الآن أستطيع أن أخبركم.. إنه يسكن في كل مكان. كغيمة دافئة..ظل يمثل لي هذا الشعور ولا أعرف السبب، ربما هو نفسه لم يساعدني كي أفك هذا الاشتباك اللغوي في رؤيتي له كفنان وصديق. بعض أحكامه القطعية ساعدت في هذا البناء الانطباعي عنه في البدء، ربما كنت مسكونا بالتهويمات وقتها، لذا رأيت تصوراته عن الفن كحجاب، سأكتشفه مع الوقت، بيد أنني كنت أري دفأه بوضوح واستشعره. لم نتفق علي موعد لقاء يوماً، ولم نتهاتف، عم يوسف سيظهر وقتما يحب، وسيغير سكنه حين تستبد به رغبة تغيير المكان، وإن ظل حي كوم الدكة هو المكان الذي اصطفاه، يهجره سنوات ويعود إليه، الأمر ليس ببعيد عن عالم الطيور المهاجرة التي تقطع أشواطا ثم تعود لموطنها حين تحين مواسم العودة. سافر إلي إيطاليا ليتعلم فنون المسرح والتمثيل وعاد، بدل مسكنه عشرات المرات، وذهب في رحلات فنية هنا وهناك، ثم عاد لكوم الدكة وطنه الأخير، وكأنه اختار أن يذهب في رحلته الأخيرة من هناك. الموت يزيح الحائط السميك عن جوهر الأشياء، يجعل الرؤية شفافة ومحايدة، يجعلك تتحرر من الحسابات المركبة في العلاقة، تصبح بمفردك، أنت الطرف الحاضر أمام غياب الطرف الآخر الذي سبقك في التحرر وترك لك حمولة هائلة تسمي "الأثر" ذلك الذي من المفترض أن نتركه وراءنا، عند سؤالي عن الأثر الذي تركه الرجل ستكون الإجابة طويلة.. طويلة جداً. أتصوره في العالم الذي رحل إليه، جالسا علي حافة مكان منخفض، يتحدث إلي أحدهم عن رأيه القاطع فيما حدث له في الدنيا، وكيف أن هذا يصلح لعرض مسرحي يقوم بتأليفه وإخراجه وسيختار فريق العمل فردا فردا، وأنه خطط للمكان الذي ستقوم فيه البروفة الجينرال.. بيته بكوم الدكة، والذي تركة آخر مرة مفتوحا علي مصراعيه ومضاءا بكل غرفة. روحي تقرئك السلام.