مازلت أذكر تلك الحالة من الحيوية التي دبت في الشباب حال وصول الرجل الممتليء ذي الشعر الفضي إلي المقهي الصغير بشارع طلعت حرب بالإسكندرية، في ساعة متأخرة من ليلة شتوية ماطرة.. بدا كما لو كان قدومه إيذاناً ببدء السهر الحقيقي، ولكني للأسف لم أستطع الانضمام لهم، إذ كان يجب عليَّ الانصراف كي أتجنب قدراً من زعيق أبي لأني تأخرت في العودة للبيت. ومازلت أذكر لا أظن أنها تهويمات- مقاطع من قصائد كتبها شعراء شباب، وكان الرجل ذو الشعر الفضي حاضرا فيها، بعلاقته بالمدينة/الإسكندرية، وبالبحر، وبالنساء. كان يظهر في القصائد، والأحاديث كزوربا اليوناني، كفنان حياته هي ميدان فنه، كمرشد روحي يدعو دائماً إلي الانطلاق..كانت هذه الصورة الأولي التي رأيتها ليوسف عبد الحميد. في يوم الأحد السابق علي رمضان، كنت في القطار متجها إلي الإسكندرية، قبل سفري أخذت معي كتاب "لحظات من سعادة عابرة" للكاتب الإيطالي فرانشسكو بيكولو، والذي قام بترجمته يوسف عبد الحميد، وصدرت الترجمة قبل شهور عن دار نشر "بعد البحر"، فاجأني الكتاب الصغير الذي استطاع أن يقتنص عشرات من اللحظات التي تمر بنا/بالإنسان المعاصر ،والتي أوردها الكاتب بخفة، وبعمق، لحظات ملل، وخجل، وارتباك، وفرح، وانتشاء بداية من مواقف بين محبين، مع جيران، مع سائقي السيارات المحاصرين علي الطريق في انتظار أن تسمح لهم إشارة المرور بالعبور، في المحلات، في السوبر ماركت..لحظات كثيرة، واستطاع يوسف عبد الحميد أن ينقلها إلي العربية في ترجمة رشيقة لم تخل بالخفة، ولم تسطح العمق. قررتُ أن أكلمه عند وصولي كي أشكره علي اختياره وعلي الترجمة، لكن وقت الوصول عرفت أن يوسف عبد الحميد..مات. تمني يوسف الكاتب والمخرج والمؤلف المسرحي، أن يموت بلا ضجة، بلا مستشفيات، ولا زوار، أن يكون خفيفاً عند رحيله، فقد كان يؤمن أن الحياة تشبه القطار، وكل منا له محطة كي يغادر، لذا لا داعي للضجة قبل المغادرة، وقد كان له ما أراد، سهر علي المقهي في حي كوم الدكة - الذي ولد به ويحبه، وعاد للسكن فيه بعد فترة طويلة من التنقل- حتي الفجر، وصعد ليستحم، ويفتح النافذة والباب المقابل لها كي يصنع تيارا من الهواء، وجلس أمام النافذة، وبعد قليل..غادر القطار. لماذا نكتب الآن عن يوسف عبد الحميد (23/9/1948-5/6/2016) ولم نكتب من قبل؟ بداية لأننا مغفلون، نظن أن الحياة طويلة، وأن هناك متسعاً لفعل أشياء، نؤجلها كثيرا، حتي يفوت الوقت، رغم أنه يمكن القول إنه لا يمر يوم في حياة أي بشري معاصر لا يكون فيه في علاقة مع الموت..بداية من موت قريب أو صديق وحتي نشرات الأخبار المليئة بأرقام كثيرة ومتنوعة لموتي يسقطون كل لحظة. ومع ذلك نظل نؤجل، حتي تفوت الأشياء، أو يهبط الناس من القطار. ولكن هل يموت أمثال يوسف عبد الحميد؟ ألا يبقي الناس أحياء طالما ظلوا أحياء في ذاكرتنا؟ وظلت أعمالهم وسيرتهم ملهمة لآخرين سيأتون بعدهم. الآن نحن لا ننعي يوسف، ولكننا نهديه باقة ورود، كان من الأفضل لو أعطيناها له قبل قليل، لكن لا بأس.. ستصل إليه المحبة، نحن الآن فقط نحاول أن نوصل دائرة محبيه، كي يظل بيننا ونظل معه.