أجلس علي البحر فى سيدى عبد الرحمن ، مقهى صغير يأتى صوت عمرو دياب بوضوح ، أغنيات متتالية لا تتوقف ، تتنقل بى من زمن إلى زمن ، من حالة إلى حالة ، من " شوقنا " إلى " ورجعت من السفر " ، من " أيامنا " إلى " رصيف نمرة خمسة " ، كأن هذا النهار يرغب فى إلتهام كل ذكرياتى فى جلسة واحدة ، على البحر .. مالذى جاء بكل ذكرياتا إلى هنا ؟ يخبئ عمرو دياب ذكريات سنواتنا التى مضت فى أغانيه البسيطة ، 30 سنة منذ بدأ يغنى ، ربما لا يحب عمرو دياب أن يذكر أو يتذكر وجود 30 سنة فاصلة بين البداية الصعبة والنجاح المستقر الذى حققه حتى اليوم ، لكنها أغلى مايملك عمرو دياب بالفعل ، أيامنا الحلوة التى تطل بمجرد الإستماع إلى أغنية قديمة مرت فى مناسبة ما من عمرنا . نعم ، نجح عمرو دياب أن تكون ألبومات أغانيه .. هى نفسها ألبومات صورنا القديمة المليئة بالبهجة ومسافات الإنتظار ، هذا جيلى أحب وسهر ورفض وسافر مع هذه الأغنيات التى ظل عبقريتها فى بساطتها . لم يعد عمرو دياب مجرد صوت ينتظر إشارة البدء ونشر ألبوم جديد ، أصبح مساحة تحتل سنوات لم تعد معنا ، لم يخطط يوما لأن يكون ألبوم صور لأجيال متتالية .. كان همه دائما أن ينجح أكثر ويستمر . لكن تأتى لحظات غير منتظرة يخترق فيها النجاح نظام الجاذبية الأرضية والسقوط .. يصبح نجما يسبح بكل سهولة فى الفضاء معلنا أنه قصة حياة مكتملة . كل أغنية ، بهذا الصوت المبهج ، مثل تذكار تركناه على شجرة فى أيام الجامعة ، أو كتبناه على صخرة فى أيام الصخب ، لكل جيل .. مطرب يشف أيامه على الورق . لكل جيل صوت يكتب مذكراته . كم مليون فتاة فى ال 30 سنة أحبت ورقصت وغنت وفرحت وتزوجت على أغنية له ؟ كم فرحا أقيم على شرف أغنياته ؟ كم مليون كيلو مترا قطعتها سيارات الشباب فى العالم العربى وهم يسمعون عمرو دياب ؟ كم مليون طفلا أحب هذا الفتى المبهج الذى يختار أغنياته بذكاء وموسيقاه بموهبة يملكها ؟ لم يعد مقبولا أن نطرح سؤالا : من أهم .. عبد الحليم حافظ أم عمرو دياب ؟ كلاهما يمتلك شعبية ضخمة وسنوات طويلة من النجاح المستمر .. كلاهما شهدا ميلاد عشرات المطربين .. لكنهما إستمرا فيما سقط كثير من المطربين أو لم يستمر توهجهم وإن إمتلكوا موهبة تفوق عبد الحليم وعمرو دياب فى الصوت ! لكن الصوت وحده لا يكفى كموهبة ، النجاح والبقاء والإستمرار والتأثير فى إحتياج لمواهب أخرى ، كيف تدير نفسك وكيف تسد ثغرات نقاط ضعفك وكيف تعمل كثيرا وتفكر كثيرا وتخلص للفن أكثر من إخلاصك لحياتك الخاصة . سوف يبقى نقاط كثيرة مشتركة بين عبد الحليم وعمرو دياب ، وسوف يظل حليم هو الأستاذ ودياب هو التلميذ ، بحكم من سبق ؟ ومن إخترع ؟ لكن سيأتى يوما يصبح فيه لدياب تلاميذ يتعلمون منه ويقتبسون عنه ويسبقون خطواته لكى يتم وضعهم فى نفس السطر مع حليم ودياب ! تعلم عمرو دياب من عبد الحليم ومن أم كلثوم ومن عبد الوهاب .. الحقيقة أنه ظل تلميذا نبيها ويقظا فى فن إلتقاط أسباب النجاح من الأساتذة ومن الناجحين ، علم نفسه بنفسه فى مدرسة الحياة المفتوحة على مصراعيها لمن يريد أن يتعلم ويفهم ويتطور وينجح ويسبق . وبينما كان هم كثير من زملاءه النظر إلى داخل أنفسهم ، فى غرور واضح ، نظر عمرو دياب إلى كل قصة نجاح وأشعل منها شمعة ، وقص منها لون أضافه إلى نفسه ، منتهى الذكاء والإصرار ، حين تريد أن تصبح قصة مكتملة يمكنك إستعارة بعض المشاهد والأحداث من الذين سبقوك ، كأنك تعيش أكثر من حياة فى حياة ، حياتك من حياة الأخريين ، إن السر الذى لا يعرفه كثير من الناس أن عمرو دياب لم يكن يوما مغرورا ، لأنه يريد أن يبقى ناجحا ، لكنه ظل وسيبقى يحب نفسه أكثر من أى شئ أخر فى الحياة . وإذا كان هذا نقطة ضعف .. فهو سر نجاحه الذى تعلمه من الثلاثة معا : عبد الحليم وعبد الوهاب وأم كلثوم . كلهم أحبوا أنفسهم وفنهم ونجاحهم أكثر من أى شئ أخر ومن أقرب الناس لهم . 30 سنة على ميلاد عمرو دياب الفنى .. يستحق إحتفالا من نوع خاص ، يستحق أن نقيم لعمرو دياب هذا الإحتفال ، لا أن يخطط ليقيمه لنفسه ، يستحق أن نفرح بعمرو دياب لا أن نتركه يفرح وحيدا وييأس وحيدا ، عمرو دياب الفنان المصرى الناجح .. يجب أن نحتفل به ونحتفى بوجوده فى زمن لم يعد لدينا نجوما بهذا المستوى ، قد تختلف على عمرو دياب .. لكنك أبدا لا تستطيع أن تنكر أن وجوده يفرح .. وأن أى دولة كبيرة لو حاولت صناعة نجما بحجم عمرو دياب وأنفقت عليه ملايين الجنيهات لن تستطيع . إحتفلوا بعمرو دياب .. واجعلوه يفرح ، ويعود ليغنى لنا بمزاجه القديم وحسه القديم .. فهو الأن فى المسافة التى يمكن أن يصنع بها أجمل بكثير مما غنى فى ال 30 سنة الماضية .. لأنه لم يعد باحثا عن البقاء .. بقدر بحثه عن الإبداع . كل سنة وعمرو دياب نجما وصوتا وصاحب صورنا القديمة .