قبل »الإنقلاب» علي التعليم المصري واستلاب شرعيته في تكوين الشخصية كانت هذه الاحداث. العام الأخير من ستينيات القرن الماضي وكنت في الصف الرابع الابتدائي كانت خطوتي الاولي إلي مكتبة المدرسة بتكليف من أستاذي للغة العربية رحمه الله - وكان ايضا عمي - طلب مني استعارة أحد الكتب وتلخيصه وعرضه للزملاء بالفصل. واستعرت كتابا عن توماس إديسون مخترع المصباح الكهربائي. وفي ذات الفترة كانت حصص التدبير المنزلي فرصة لنا أولاداً وبنات لدخول المطبخ والتعامل مع بعض الاكلات البسيطة واصناف من الحلوي، وتعلم أصول الحياكة وأنواع غرز الخياطة والتطريز، اليدوي وأيضا في حصص التربية الزراعية - وكنا في قرية - تعلمنا كيفية التعامل مع نباتات الزينة وبعض النباتات المنزلية. ودخلنا غرفة التربية الموسيقية في مدرسة القرية ايضاً، ونلنا مبادئ السلم الموسيقي وبعض الاغاني الوطنية والدينية الشائعة وقتها حتي أن عمي رحمه الله حين أراد أن يكافئني علي تفوقي منحني مكافأة معنوية بمشاركته الاستماع الي آخر حفلات أم كلثوم أمام الجمهور، وتابعت معه الحفل المعهود لكوكب الشرق ذات خميس من شتاء عام 2791 حيث شدت ليلتها أم كلثوم باغنيتها الشهيرة «ليلة حب» وكانت صك تعارف وتآلف بيني وبين عطاء أم كلثوم الباذخ لم ينقطع حتي اليوم. وكان أغرب ما قابلته في مدرسة القرية بالمرحلة الإعدادية في طابور الصباح من خلال الإذاعة المدرسية وكانت بها فقرة للتذوق الفني - لاحظوا بمدرسة قروية بسيطة - كان يقدمها مدرس اللغة الانجليزية ويدعي الاستاذ عبدالسلام دبوس رحمه الله، وقدم لنا ذات صباح في الطابور تحليلاً لاغنية «مداح القمر» للعندليب الاسمر عبد الحليم حافظ، واتذكر كلمات استاذ اللغة الانجليزية عن هذه الاغنية حيث قال «هذه الاغنية بلغت بالعندليب الأسمر حد الكمال الفني». وقبل هذا وبالتوازي معه انطلقت وزملائي بمدرسة القرية في مسابقات التفوق الدراسي والقرآن الكريم والحديث النبوي الشريف، وكانت تلك اعمدة بناء شخصيتنا للحياة والقادم من العمر، ومعها مكملات تذوق الحياة والإحساس بها بشكل متوازن متناغم هو أبرز ما يميز تكوين الشخصية المصرية بخلطتها الفريدة، التي ضربتها في مقتل بعد ذلك ثورة الانقلاب علي التعليم العام وسحب البساط من تحت أقدام مسئولية الدولة لصالح التعليم الخاص والاستثماري فاختفت الأفنية حيث النشاط البدني، وأغلقت حجرات التربية الموسيقية والاقتصاد المنزلي وباتت حصصهما عبئا مفروضا فقط علي الجداول الدراسية، فلا مدرسون لها، ولا وقت لحصصها، ولا مكان لنشاطها، وكان طبيعياً أن تنقلب طبيعة الاجيال التالية لنا من تربية وتعليم وتذوق للحياة واعتدال في الجانب الديني والأخلاقي إلي تعليم أجوف ونظرة يائسة للحياة وإهمال للجانب الديني المتوازن ونشوء خطين متوازيين أحدهما يحمل الخواء والجهل الديني والتطرف المتحلل، والآخر يحمل التشدد والنظرة العوراء. والتطرف المتمسك وإقصاء الآخر وانزوت وسطية المصريين، وكان من نتاج ذلك موجات الإرهاب بداية من سبعينيات القرن الماضي لتبلغ ذروتها باغتيال السادات، وما تلاه من موجات في الثمانينيات والتسعينيات وصولاً إلي استحكام الداء حالياً. ويبقي سؤال: هل تستعيد مدارسنا افنيتها وغرف التربية الموسيقية والاقتصاد المنزلي والتربية الزراعية حتي تقدم لأبنائنا مكملات تربوية ومعرفية حياتية لازمة لهم لتغيير إفرازات «الانقلاب» علي تعليمنا المصري؟