ظلت قضية بناء الكنائس في مصر -ومازالت- من أهم الأمور المثيرة للجدل داخل المجتمع.. وربما كانت من أبرز الأسباب إثارة للمشاكل ذات البعد الطائفي نتيجة تلك الفجوة الواسعة بين الإطار التشريعي والدستوري الذي لا ينص علي أي قيود تمنع أو تحد من إقامة كنائس جديدة.. وبين الممارسة العملية التي لا تحكمها ضوابط محددة.. وتتعامل مع هذه القضية بحساسية شديدة. مسألة بناء الكنائس الجديدة كان لها نصيب واضح من اهتمام القضاء المصري.. حيث تشهد أحكام القضاء ترسيخ مجموعة من القيم والمباديء التي تؤكد ضرورة عدم وضع قيود علي عملية بنائها باعتبار أن ذلك أمر وثيق الصلة بحرية ممارسة شعائر الدين التي كفلها الدستور. "الجمهورية" حصلت علي حكم قضائي نادر أصدره الدكتور عبدالرازق السنهوري باشا وقت أن كان رئيسا لمجلس الدولة ويعود تاريخه إلي شهر أبريل سنة 1952 "قبل الثورة" يرسخ لمبدأ قضائي هام وهو أنه لا قيود علي بناء الكنائس.. مؤكدا أن الدستور كفل شعائر الدين لجميع الطوائف وأن بناء الكنائس غير مشروط بموافقة الجيران. .. قصة هذا الحكم التاريخي تعود إلي قضية أقامتها الجمعية الخيرية القبطية في بورفؤاد ضد مصلحة الأملاك ووزارة الداخلية.. حيث كانت الجمعية قد اشترت قطعة أرض من المصلحة عام 1940 لبناء كنيسة عليها.. واشترطت المصلحة موافقة جميع السكان المجاورين علي البناء.. ولكن الجمعية عجزت عن الحصول علي هذه الموافقة فرفضت المصلحة الترخيص ببناء الكنيسة.. كما أن وزارة الداخلية أقرت المصلحة علي تصرفها. وامتنعت عن استصدار المرسوم الملكي بالترخيص بإقامة الكنيسة علي أساس أن عدد الأقباط في بورفؤاد قليل وأن التعليمات التي وضعتها لبناء الكنائس لم تتوافر في هذه الحالة. وطالب رمسيس جبراوي المحامي عن الجمعية بإلغاء القرارين الصادرين من مصلحة الأملاك ووزارة الداخلية بعدم الترخيص ببناء الكنيسة وأن تدفع هاتان الجهتان للجمعية 10 آلاف جنيه تعويضا عما لحق بها من ضرر مادي وأدبي.. مستندا في ذلك إلي أن حرية بناء الكنائس ترجع إلي الحق الطبيعي لكل إنسان.. وقد قدست جميع الأديان هذه الحرية التي تأيدت بنص المادة 12 من الدستور المصري.. ولأن المواطن حر في أن يبني في أرضه ما يشاء غير مقيدة إرادته بإرادة الجيران. وأنه متي تقرر ذلك فقد أصبح رهن حق المواطنين المسيحيين في بناء أماكن العبادة بإرادة الجيران إهدارا لحريتهم ولا يصح أن يقال في تبرير ذلك أنه صيانة للأمن العام. وحضر عن الحكومة المحاميان محمد عبدالرسول ومحمد فؤاد حسونة ودفعا بعدم اختصاص محكمة القضاء الإداري بنظر الدعوي لأن النزاع يدور حول احترام القيود الواردة بعقد البيع وأهمها تخصيص الأرض لبناء منزل سكني عليها كما دفعا بعدم قبول الدعوي شكلا لرفعها بعد الميعاد. ومن جانبها أصدرت محكمة القضاء الإداري برئاسة السنهوري باشا حكمها برفض هذه الدفوع واختصاصها بنظر الدعوي وقبولها شكلا وفي الموضوع بإلغاء القرارين الصادرين من مصلحة الأملاك ووزارة الداخلية برفض الترخيص بإنشاء كنيسة ورفض طلب التعويض وألزمت الحكومة بالمصروفات ومقابل أتعاب المحاماة. وقالت المحكمة في حيثياتها التي نشرتها صحيفة الأهرام في عددها الصادر بتاريخ 19 أبريل 1952 ويحمل رقم 23903 إن إقامة الشعائر الدينية لكل الطوائف قد كفلها الدستور في حدود القوانين والعادات المرعية وأن مصلحة الأملاك قد وافقت علي بناء الكنيسة بشرط موافقة الجيران ويعد هذا تنازلا منها عن الشرط الخاص بوجوب بناء منزل للسكن علي الأرض المبيعة وهو في الوقت ذاته إقرار منها بأن الملاك المجاورين هم أصحاب الشأن فيما لو خالفت الجمعية الشروط فلا حق لها بعد ذلك في الاعتراض وقد وافق جميع الملاك علي بناء الكنيسة عدا واحدا وظاهر من اعتراضه أنه غير جاد إذ لم يبين السبب الذي من أجله يعترض علي طلب الجمعية ولا يكفي أن يقول إن ذلك يضر بمصلحته فهو قول مبهم غامض ولا يعتد به وأن تمسك الإدارة بضرورة موافقة الجيران علي بناء الكنيسة أمر لا يقره القانون وهو مشوب بسوء استعمال السلطة. وانتهي مجلس الدولة إلي القول بأنه ليس في تعليمات وزارة الداخلية نص يمكن اتخاذه تكأة لمنع بناء الكنيسة بسبب قلة عدد الأقباط ووجود كنيستين في بورسعيد إذ لا تتضمن التعليمات حدا أدني لعدد الأفراد الذين يحق لهم طلب إقامة كنيسة ومن ثم يكون تعلل الإدارة بهذا السبب لا سند له من القانون ويكون قرار رفض الترخيص بإنشاء الكنيسة قد بني علي أساس غير سليم من القانون ويتعين رفضه. ما سبق كان هو نص الحكم التاريخي الذي أصدره مجلس الدولة بشأن بناء الكنائس وهو حكم يرسي قاعدة قانونية هامة ما أوسع الهوة التي تفصل بينها وبين واقع الممارسة الفعلية علي أرض الواقع .. غير أن الملاحظ أن أقباط مصر في ذلك الوقت أهتموا أيضا بهذه القضية كل فيما يخصه وسعوا لدي مسئولي الحكم وقتها لإزالة تلك المعوقات حيث لم يفت الصحيفة أن تذكر أن سعادة اسكندر حنا دميان بك وكيل محكمة استئاف مصر أعد بحثا فقهيا دستوريا في هذا الموضوع وتحدث بشأنه مع دولة نجيب الهلالي باشا رئيس الوزارة ومعالي الدكتور حافظ عفيفي باشا رئيس الديون الملكي وانتهي إلي وجوب إلغاء التعليمات الإدارية التي وضعتها وزارة الداخلية بشأن بناء الكنائس في مصر وتهتم الجهات المختصة اهتماما كبيرا بهذه المسألة. أكثر من 58 عاما مضت علي حكم قضائي هام لم يبق منه سوي حبر مطبوع علي أوراق صفراء في أرشيف دار المحفوظات والمؤكد أن أحدا لن يذكر هذا الحكم إلا من يكلف نفسه عناء البحث والتنقيب وسط هذه الأوراق التي تبقي شاهدة علي عصر بكل ماله وما عليه وما به من أحداث وشخصيات لم يبق منها إلا ذكري ما قدمت أياديها بعد أن غيبها الناموس الذي يسري حكمه علي كل المخلوقات. مياه كثيرة جرت في شرايين الحياة بمصر.. ومازالت قضية بناء الكنائس عصية علي الحل وكأن اتخاذ قرار بشأنها أصعب من قرار الصلح علي إسرائيل أو التحول من الاشتراكية إلي الرأسمالية.. ومن نظام الحزب الواحد إلي تعدد الأحزاب.. ومن أسلوب الاستفتاء إلي الانتخابات التنافسية متعددة المرشحين.. ورغم كل ما سبق يبقي السؤال: متي وكيف تتخلص مصر من هذه المشكلة المزمنة؟ * ممدوح رمزي المحامي والناشط السياسي يري أن الحل الأمثل لهذه المشكلة يكمن في عاملين: الأول: ترسيخ ثقافة المواطنة الحقيقية التي لا تفرق بين مسلم ومسيحي في المجتمع وأن يفهم المجتمع أن الكنيسة هي دار للعبادة ولا يجب أن يمثل بناؤها أي حساسية لدي المواطنين. الثاني: إصدار قانون موحد لبناء دور العبادة كي يعرف كل مواطن ماله وما عليه من خلال تشريع يصدر من مجلس الشعب.. وهذا القانون سيكون هو الحل الحقيقي إن كنا نريد القضاء علي المشاكل التي تحدث عندما يشرع المسيحيون في بناء كنائسهم.. ولابد أن يصدر هذا القانون بشكل يتفق وروح المواطنة الصحيحة لأن حق ممارسة الشعائر الدينية كفله الدستور للجميع دون تفرقة بسبب الجنس أو اللون أو العقيدة وإذا صدر قانون يخلو من هذه الروح يصبح الدستور عندئذ حبرا علي ورق. وشدد رمزي علي ضرورة إلغاء الشروط الحالية لبناء الكنائس والتي وضعها العزبي باشا وكيل وزارة الداخلية سنة 1934 ويطلق عليها الشروط العشرة المستحيلة. ويتساءل: كيف يستقيم أمر هذه الشروط ونحن في الألفية الميلادية الثالثة عندما يحرم مواطن من أبسط حقوقه الدستورية وكيف يتصور منطقيا أن عدد الكنائس في مصر لا يتجاور رقم 2000 كنيسة مع أن عدد الأقباط يبلغ 15 مليون قبطي.. وهو ما يعني أن كل 7 آلاف قبطي لهم كنيسة واحدة.. وهل يتصور عقلا أن تستوعب كنيسة هذا العدد.. علما بأن الصلاة في المسيحية لها طقوس معينة تتمثل في ضرورة وجود هيكل ومذبح ومعمودية حتي يتم إجراء المراسم الدينية.. ومن هنا فإنه لكي تحل هذه المشاكل المزمنة لابد من حل واضح وصريح ومحدد.. وإلا نكون كمن يحرث في الماء. *ويري ماجد حنا ولسن المحامي أن مصر كانت تسير بمنهج طبيعي قبل ثورة يوليو 1952 يتمثل في أن الوطن للجميع بدليل أن مرقص باشا حنا كان نقيبا للمحامين ومن أجل مصر وحرية المصريين قام الاحتلال الإنجليزي بنفيه إلي خارج البلاد وكان مكرم عبيد باشا يفوز في دوائر لا يمثل الأقباط فيها أي أغلبية هذا هو المناخ العاقل المتزن الذي أصدر في أجوائه عبدالرازق باشا السنهوري أبوالقانون في مصر حكمه التاريخي لأنه في هذه الحقبة من الزمان كان الكل سواسية غير أن الحال تبدل بعد الثورة وأصبح المناخ الديني هو الحاكم لسلوكيات الناس فتأثر الطفل في موالده وبدأ المجتمع يتعامل مع بناء الكنائس وكأنه عمل غير مشروع وبدأ المواطن الذي يستحثه البعض علي أن هذا العمل ضد إرادة المواطنين وضد القانون.. مما يدفعه للهجوم علي أي مكان وأي كنيسة.. وفي النهاية نسميها فتنة طائفية.. وفي الحقيقة أنها فتنة مصطنعة بدليل أن المسجد مبني بجوار كنيسة العمرانية وشارك في بنائه أيدي مسيحية وقدم الجميع مثلا يحتذي به في مصر ولم تكن المشكلة الأخيرة بين مواطن مسلم يعترض علي حق أخيه المسيحي في بناء كنيسة بدليل تعاطف جميع أهل العمرانية مع ما تعرض له أشقاؤهم الأقباط ولكن مشكلة نظام يتمثل في حي العمرانية ومحافظ الجيزة وكنا نتوقع من هؤلاء المسئولين أن يقدموا القدوة والمثل خاصة أن هذا الحي بالذات يشهد إقامة آلاف المنازل بدون ترخيص في حين أن هذه الكنيسة لها ترخيص ولكن جري تعديله وتعديل الترخيص لا يستتبع تلك الضجة التي حدثت وكأنهم بنوا مفاعلا نوويا أو نفقاً يصل إلي إسرائيل. ويخلص ماجد حنا إلي أن قضية العمرانية كشفت عن أن الأزمة هي أزمة مسئول وليست أزمة مواطن وكانت المحصلة أنه بدلا من أن يطلق الرصاص الحي أو المطاطي أيا كان مسماه علي أعداء الوطن.. أطلق علي أقباط الوطن وكأنه الحل في سابقة لم تحدث منذ عام 1952 وحتي الآن.. ولكني أثق في أن الرئيس حسني مبارك بحكمته وأبوته للجميع لن يترك هذا الموضوع دون اتخاذ إجراء حازم ومناسب. * وأعرب ميخائيل منصور المحامي بالنقض عن دهشته من هذا الحكم.. مشيرا إلي أن مصدر دهشته يعود إلي أن ما يحدث علي الساحة الحالية أبعد ما يكون كل البعد عما انطوي عليه هذا الحكم وما أرساه من مباديء.. يتساءل هل يعقل أن أساتذة التشريع والقانون الحاليين يجهلون هذه المباديء والأحكام التي أصدرها استاذهم وأستاذ جيلهم عبدالرازق السنهوري باشا.. فهل نقتفي أثر من سبقونا الذين كان لهم من الحكمة والكياسة ما يحقق الخير لبلدنا مصر ويزرع بذور الوطنية الحقة في كل النسيج المصري؟