تنظم مكتبة الأسكندرية في العام الواحد أكثر من 700 حدث.. تتنوع ما بين المؤتمرات والندوات والمهرجانات والمعارض. وكل ما يمكن أن يخطر علي بالك من أحداث ومناسبات ثقافية وعلمية وفنية.. يشارك فيها النخب المتميزة في كل مجال. من مختلف التيارات.. من كل أنحاء العالم.. كل يدلي بدلوه باللغة التي يتحدثها.. حتي أصبحت قاعاتها ساحات نقاش ساخن بلغات شتي. يتواصل صباح مساء كل يوم.. ولايتوقف أبدا إلا في الأعياد الرسمية.. هذا النشاط المتواصل الذي تقوم به مكتبة الأسكندرية. كان العامل الأبرز في الإبقاء علي ريادة مصر الثقافية للمنطقة. بعد أن أوشكت أن تنتقل الي مناطق أخري.. كنتيجة لتراجع دور مؤسساتنا الإعلامية في العقود الأخيرة. بسبب بقاء بعض القيادات علي رأسها قرابة ربع قرن.. وانشغال بعضهم ببناء الحمامات ..! لقد أتيح لي الأسبوع الماضي أن أحضر وأن أشارك في 4 أحداث مهمة بالمكتبة .. الأول : كان عبارة عن ندوة دولية موضوعها: "التعددية اللغوية والعولمة والتنمية".. اشترك في تنظيمها كل من : مكتبة الأسكندرية. و"بيت اللغات". و"مؤسسة روبرتو مارينهو" بالبرازيل .. عقدت تحت رعاية منظمة اليونسكو وإدارة شئون الإعلام بالأمم المتحدة.. وكانت هي الندوة الدولية الثالثة التي تعقد لمناقشة هذا الموضوع.. حيث عقدت من قبل ندوتان. الأولي في نيويورك عام 2008. والثانية في ساو باولو عام 2009.. الثاني : كان عبارة عن ملتقي ثقافي.. هو الملتقي الثاني لبحث رؤي جيل الوسط بشأن مستقبل الثقافة في مصر.. نظمه منتدي الحوار بمكتبة الأسكندرية. وشارك فيه نحو مائة من المثقفين من مختلف المجالات العلمية والتوجهات الفكرية.. افتتحه د. علي الدين هلال بكلمة أشار فيها الي أن دعاوي التغيير في مصر لم تنقطع عبر الزمن. فقد ظهرت في عشرينيات القرن الماضي دعوات للثقافة الجديدة. وظهرت في الخمسينيات والستينيات دعوات لإعادة بناء الشخصية المصرية.. وظل سؤال التغيير هو قضية كل جيل.. وتحدث د. سامح فوزي نائب رئيس منتدي الحوار. فقدم مدخلا حول تجديد الثقافة ينبع من رأس المال الاجتماعي الذي يشمل عدة أنواع منها : البشري والمادي والثقافي والديني.. مشيرا الي عدم وجود تعارض بين الدولة القوية والمجتمع المدني القوي .. كما تحدث د. عماد الدين أبو غازي أمين عام المجلس الأعلي للثقافة فأشار الي وجود مشكلة حقيقية في مناهج التاريخ بالمدارس. الي جانب غياب الرؤية تجاه الأهداف التي تقوم عليها أقسام التاريخ بالجامعات المصرية .. الثالث : كان عبارة عن معرض للكتب المستعملة.. ضم مجموعة من الكتب النادرة التي تم طبعها في مصر في القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين .. يقول د. خالد عزب مدير إدارة الإعلام بمكتبة الأسكندرية والمشرف علي مشروع ذاكرة مصر المعاصرة التي نظمت المعرض إن اهتمام مكتبة الأسكندرية بنوادر الكتب بدأ منذ افتتاح المكتبة عام 2002. أما الرابع : فقد كان عبارة عن معرض تحت عنوان "من فات قديمه تاه".. يضم عدة أجنحة للجهات المشاركة فيه. وهي : مشروع ذاكرة مصر المعاصرة بمكتبة الأسكندرية - والهيئة العامة لقصور الثقافة - وجمعية سيدات أعمال المستقبل بفوة - وجمعية هواة طوابع البريد بالأسكندرية .. في هذه الأجنحة تجد أول جهاز تليفون تم استخدامه في مصر.. وأجهزة الراديو القديمة.. والجراموفونات.. والبيك آب.. والطرابيش.. والعملات القديمة.. ورخص المهن المحمولة علي الكتف. مثل بائع العرقسوس.. وكل الآلات والأدوات التي كان يستخدمها المصريون في القرن الماضي.. بالإضافة الي الكليم والسجاد المصنوع يدويا. الذي اشتهرت به مدينة "فوة".. كان أكثر ما استحوذ علي اهتمامي في هذه المعروضات كلها.. هو "نول" نسيج نادر مازال يعمل بحالة جيدة.. لقد وقفت أمامه طويلا. وتذكرت والدي رحمه الله الحاج يوسف السيد يوسف.. عندما تخرج في أوائل الأربعينيات من القرن الماضي من مدرسة النسيج ببلبيس.. لقد كان والدي طموحا يريد استكمال دراسته في الجامعة. لكن جدي رحمه الله أدخله مدرسة النسيج قائلا له هذه النصيحة: "يابني .. حرفة في اليد أمان من الفقر والضياع ".. ولقد استجاب والدي لرغبة جدي وعمل بنصيحته.. ثم شاء القدر بعد ذلك أن يرحل جدي عن الحياة مبكرا وهو مازال في مقتبل الأربعينيات من عمره . تاركا خلفه زوجة وثمانية من الأبناء والبنات.. كان ترتيب والدي بينهم الثاني. لكنه كان المنوط به تحمل مسئولية الأسرة كلها.. كان عمر والدي في ذلك الوقت 18 عاما . ولم تكن قد مضت عدة أيام فقط علي تخرجه من مدرسة النسيج .. كان جدي رحمه الله قد ترك لأسرته عدة أفدنة ومنزلا واسعا يحيط به فناء.. فاشتري والدي "نولا" وضعه في إحدي غرف المنزل وبدأ العمل عليه.. كان "النول" في ذلك الوقت "آلة حديثة" في نظر أبناء القرية. فكانوا يأتون لمشاهدته. وكانت تتملكهم الدهشة وهم يرون والدي يعمل عليه. فيحول الغزل الي أقمشة ملونة .. نجح والدي بسرعة.. وتحول فناء بيت العائلة الي مصنع نسيج به نحو 25 نولاً . يعمل عليها بعض أبناء قريتنا "البلاشون" والقري المجاورة لها.. مثل "ميت سهيل" و"قرملة" و"ميت جابر".. أخذ والدي يعلمهم "الحرفة" التي نصحه بها جدي.. فتحولوا الي "صناع" مهرة.. واختار والدي أكثرهم أمانة وذكاء وإتقانا للعمل وعينه مشرفا عليهم.. كان شابا في مقتبل العمر اسمه: "هاني".. كان والدي يأتمنه علي كل شئ. فيترك له المصنع ويسافر الي الزقازيق وطنطا والمنصورة والقاهرة والأسكندرية لعقد الصفقات وتوريد الأقمشة التي ينتجها المصنع.. ثم افتتح والدي عدة محلات في بعض هذه المدن لبيع الأقمشة التي ينتجها .. واكتسب شهرة كبيرة.. فجاء اليه رجال الاحتلال الإنجليزي. وطلبوا منه السفر معهم الي "تنزانيا" التي كانوا يحتلونها الإنجليز أيضا.. وكان اسمها في ذلك الوقت "تنجانيقا".. وذلك من أجل نشر صناعة النسيج بواسطة "النول الخشبي" هناك.. لكن والدي رفض طلبهم .. تزوج والدي. وعاش أجمل سنوات عمره مستمتعا بشبابه ونجاحه كأحد رجال صناعة النسيج في مصر.. ثم قامت الثورة.. لم يكن مصنعه كبيرا يستحق التأميم.. لكن الذي حدث هو أن الثورة قامت بتحديث مصانع النسيج في المحلة الكبري وكفر الدوار وأنشأت مصانع جديدة في حلوان.. بالطبع لم تستطع مصانع النسيج الصغيرة كمصنع والدي منافسة هذه المصانع بعد تطويرها.. فباع والدي أنوال النسيج التي كانت بمصنعه واتجه الي العمل بتجارة القطن.. أما العمال الذين كانوا يعملون بمصنعه. فقد منحهم شهادات خبرة تم بموجبها تعيينهم في مصانع الدولة.. التي شهدت قفزة صناعية هائلة في عهد الثورة. جعلت من مصر إحدي قلاع صناعة النسيج في العالم .. يوم 13/6/1953 جئت الي الحياة. وكان ذلك يوم عيد الفطر المبارك .. أراد والدي أن يطلق علي اسم جدي "السيد".. وفي نفس الوقت كان لازال يتذكر تلميذه "هاني" الذي كان يعتز به كثيرا.. فجمع الاسمين معا وجعل اسمي "السيد هاني".. وعندما بدأت الإشتغال بالصحافة. كنت أريد التوقيع باسم "السيد يوسف" أو "هاني يوسف" لكي يذكر اسم أبي في التوقيع .. فعرضت عليه الأمر للاختيار .. فقال لي : لا هذا ولاذاك .. اكتب اسمك كما اخترته لك: "السيد هاني" رحمك الله يا أبي رحمة واسعة .. وشكرا لمكتبة الأسكندرية التي أعادتنا الي الزمن القديم . وذكرتنا بأن : "من فات قديمه تاه".. [email protected]