«المحاربين القدماء وضحايا الحرب» تُكرم عدداً من أسر الشهداء والمصابين    جدول امتحانات الصف السادس الابتدائى 2024 بالجيزة .. اعرف التفاصيل    10 توصيات في ختام المؤتمر الثالث لمبادرة اسمع واتكلم بمرصد الأزهر    وزير الصناعة: أهمية إدخال قطاعات جديدة في العلاقات التجارية بين مصر والأردن    «البترول» تواصل تسجيل قراءة عداد الغاز للمنازل لشهر مايو 2024    سرايا القدس تعلن استشهاد 3 من عناصرها في غارة إسرائيلية جنوب لبنان    بوتين: 90% من المدفوعات في الاتحاد الاقتصادي الأوراسي تتم بالعملات الوطنية    أحمد موسى : مصر لا تتحمل أي مسؤولية أمنية في غزة    كرة سلة.. الأهلي 5-6 الزمالك.. نصف نهائي دوري السوبر (فيديو)    توت عنخ آمون يتوج ب كأس مصر للسيدات    أمطار حتى الإثنين.. الأرصاد السعودية تحذر من بعض الظواهر الجوية    نقابة المهن التمثيلية تقدم العزاء فى وفاة والدة كريم عبد العزيز بعد صراع مع المرض    «الأخبار» تضىء الشمعة 79 للروائى الكبير جمال الغيطانى    أولادكم أمانة عرفوهم على ربنا.. خالد الجندى يوجه نصائحه للأباء والأمهات فى برنامج "لعلهم يفقهون"    بعد قرار "أسترازينيكا" سحب لقاح كورونا.. استشاري مناعة يوجه رسالة طمأنة للمصريين (فيديو)    «التجارية البرازيلية»: مصر تستحوذ على 63% من صادرات الأغذية العربية للبرازيل    أسعار الأضاحي في مصر 2024 بمنافذ وزارة الزراعة    وزير الرياضة يفتتح النسخة الثالثة من القمة العالمية للقيادات الشبابية الإعلامية    «اسمع واتكلم».. المحاضرون بمنتدى الأزهر يحذرون الشباب من الاستخدام العشوائي للذكاء الاصطناعي    السجن 5 سنوات لنائب رئيس جهاز مدينة القاهرة الجديدة بتهمة الرشوة    لفترة ثانية .. معلومات عن سحر السنباطي أمين المجلس القومي للطفولة والأمومة    محافظ أسوان: مشروع متكامل للصرف الصحي ب«عزبة الفرن» بتكلفة 30 مليون جنيه    حسن الرداد يكشف عن انجازات مسيرته الفنية    محلل سياسي: «الجنائية الدولية» تتعرض للتهديد لمنع إصدار مذكرة اعتقال لنتنياهو    أمين الفتوى يوضح حكم وضع المرأة "مكياج" عند خروجها من المنزل    «فلسطين» تثني على اعتراف جزر البهاما بها كدولة    وكيل وزارة الصحة بالشرقية يتفقد مستشفى الصدر والحميات بالزقازيق    رئيسة المنظمة الدولية للهجرة: اللاجئون الروهينجا في بنجلاديش بحاجة إلى ملاجئ آمنة    تقديم رياض أطفال الأزهر 2024 - 2025.. الموعد والشروط    "عليا الوفد" تلغي قرار تجميد عضوية أحمد ونيس    مناقشة تحديات المرأة العاملة في محاضرة لقصور الثقافة بالغربية    دعاء للميت بالاسم.. احرص عليه عند الوقوف أمام قبره    «تويوتا» تخفض توقعات أرباحها خلال العام المالي الحالي    كريستيانو رونالدو يأمر بضم نجم مانشستر يونايتد لصفوف النصر.. والهلال يترقب    «الجيزة التجارية» تخطر منتسبيها بتخفيض الحد الأدنى لقيمة الفاتورة الإلكترونية    «القاهرة الإخبارية» تعرض تقريرا عن غزة: «الاحتلال الإسرائيلي» يسد شريان الحياة    أحدثهم هاني شاكر وريم البارودي.. تفاصيل 4 قضايا تطارد نجوم الفن    11 جثة بسبب ماكينة ري.. قرار قضائي جديد بشأن المتهمين في "مجزرة أبوحزام" بقنا    يوسف زيدان عن «تكوين»: لسنا في عداء مع الأزهر.. ولا تعارض بين التنوير والدين (حوار)    «8 أفعال عليك تجنبها».. «الإفتاء» توضح محظورات الإحرام لحجاج بيت الله    فرقة الحرملك تحيي حفلًا على خشبة المسرح المكشوف بالأوبرا الجمعة    تعرف على التحويلات المرورية لشارع ذاكر حسين بمدينة نصر    رئيس قطاع التكافل ببنك ناصر: حصة الاقتصاد الأخضر السوقية الربحية 6 تريليونات دولار حاليا    تعمد الكذب.. الإفتاء: اليمين الغموس ليس له كفارة إلا التوبة والندم والاستغفار    الزمالك يكشف مفاجآت في قضية خالد بوطيب وإيقاف القيد    ذكرى وفاة فارس السينما.. محطات فنية في حياة أحمد مظهر    صحة المنيا تقدم الخدمات العلاجية ل10 آلاف مواطن فى 8 قوافل طبية    محافظ كفر الشيخ: نقل جميع المرافق المتعارضة مع مسار إنشاء كوبري سخا العلوي    مصرع سيدة صدمها قطار خلال محاولة عبورها السكة الحديد بأبو النمرس    صالح جمعة معلقا على عقوبة إيقافه بالدوري العراقي: «تعرضت لظلم كبير»    لمواليد 8 مايو.. ماذا تقول لك نصيحة خبيرة الأبراج في 2024؟    ضبط قضايا اتجار في العملة ب12 مليون جنيه    الصحة: فحص 13 مليون مواطن ضمن مبادرة الكشف المبكر عن الأمراض المزمنة    إخماد حريق في شقة وسط الإسكندرية دون إصابات| صور    سيد معوض: الأهلي حقق مكاسب كثيرة من مباراة الاتحاد.. والعشري فاجئ كولر    إعلام فلسطيني: شهيدتان جراء قصف إسرائيلي على خان يونس    «النقل»: تصنيع وتوريد 55 قطارا للخط الأول للمترو بالتعاون مع شركة فرنسية    رئيس إنبي: نحن الأحق بالمشاركة في الكونفدرالية من المصري البورسعيدي    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



في ذكري مولده:
صفحة من تاريخ الوطنية المصرية:
نشر في الجمهورية يوم 15 - 01 - 2019

في ذكري ميلاد الزعيم الخالد جمال عبدالناصر. لم أر أفضل من التصدي لأكاذيب خصومه.. الذين عاشوا يتنفسون كذباً.. ويتكلمون كذباً وحقداً.. ويدعون عليه بالكذب كل ما استطاعت مخيلتهم تأليف.. وتزييف.. ويظنون أن الأجيال الشابة لا تعرف من أمر التاريخ شيئاً.. ومن السهل أن ينطلي عليهم هذا الكذب الذي يسوقونه ببجاحة وافتراء بل واجتراء علي الحق والحقيقة لا نظير لها.
وقد اعتدت كلما سنحت لي الفرصة أن أتصدي لجانب من سيل الأكاذيب عن عبدالناصر وثورة يوليو 1952.. والذي لا يتوقف.. ولا يكل أصحابه ولا يملون عن اختراع وابتكار بل وإبداع قصصهم الملفقة الكاذبة عن عبدالناصر وثورة يوليو.
وفي مقال أخير في ديسمبر الماضي كتب زميل عزيز يدعي أن عبدالناصر سرق الحل الذي أخرج به الانجليز من مصطفي النحاس باشا.. ولمن لا يعرف من الأجيال الشابة.. كان النحاس باشا رئيساً لوزراء مصر في الوزارة التي أقالها الملك فاروق في 27 يناير 1952 في أعقاب حريق القاهرة في 26 يناير 1952.. وفشلها في مواجهة هذا الحريق الذي دمر أهم معالم ومنشآت ومحلات وفنادق ودور السينما بالقاهرة.
وأنا أحجم هنا عن ذكر اسم هذا الزميل.. وايضا المكان الذي نشر فيه أكاذيبه.. في مقاله الذي نتعرض هنا لجانب منه.. متأسياً علي هذا بعميد الأدب العربي الدكتور طه حسين. الذي شغلت نفسي به سنين عديدة - ومازلت - حين كنت أتابع معاركه الأدبية.. التي قدمت عنها مجموعة من الكتب جاوزت العشرين كتاباً. في سلسلة "تراث الجمهورية".. فقد كان في كتاباته في كثير من هذه المعارك لا يذكر اسم من يعنيه بنقده أو تفنيده لما قاله.. ولا يذكر أيضا أين ومتي قرأ ما يتعرض له بالنقد أو التفنيد.. وكان هذا يجعلني أعمل عدة أسابيع وأحياناً عدة شهور متتبعاً ما نشر. ويمكن أن يكون هو ما يعنيه "العميد" في صحف ودوريات تلك الفترة. معتكفاً بين هذه الدوريات في دار الكتب والوثائق القومية. أو متصفحاً لصفحاتها علي الميكروفيلم في هذه الدار. أو في الزميلة "الأهرام". حتي أصل إلي ذلك الذي كان يعنيه "العميد" بما كتب.. فأتابع بعد ذلك تفاصيل معركته مع "العميد".
وأنا هنا اليوم اختصر - لمن يريد البحث عن أصل المقال - معظم العناء.. فأذكر العنوان الذي كان: "من الذي أخرج الإنجليز من مصر؟".. أما تاريخ النشر فكان في يوم الخميس 13 ديسمبر 2018.. في زميلة صباحية.. والذي يشكل معظم ما فيه كذباً وافتراء واجتراء كما قلت.. لمجرد تشويه ثورة يوليو وزعيمها جمال عبدالناصر. والتغني بالوفد وزعيمه وأمجاده.. ولأن صاحب المقال يريد أن يصل إلي نتيجة أن عبدالناصر ليس هو الذي أخرج الإنجليز. وإنما مصطفي النحاس.. فإنني أجيب علي سؤاله قبل أن أتطرق إلي جانب مما ذكره في مقاله: فهو يسأل في ختام المقال: "من الذي أخرج الإنجليز إذن؟".. وأقول له - ولغيره - الذي أخرج الإنجليز من مصر ليس هو النحاس باشا.. وايضا ليس هو جمال عبدالناصر الذي قاد المفاوضات التي انتهت إلي تسليمهم بالجلاء وتوقيعهم معاهدته في 19 أكتوبر 1954.. الذي أخرج الإنجليز من مصر هو آلاف الشهداء من أبناء مصر الذين سقطوا دفاعاً عن الوطن وطلباً لخروج الإنجليز واستقلال مصر. منذ دنس هذا الاحتلال أرض مصر في عام 1882.. شعب مصر وكفاحه المتواصل وثوراته وانتفاضاته ومقاومته السلمية والمسلحة ايضا.. علي امتداد سنوات الاحتلال.. كل هذا هو الذي أخرج الإنجليز في النهاية.. بعد أن قامت ثورة يوليو.. وانفض مولد الأحزاب.. وانفض تلاعب الإنجليز والملك بالأحزاب والحكومات.. ولم يعد أمامهم غير نظام واحد.. ليس فيه من يتلاعبون معه لتفتيت الصف الوطني.. أو الحصول علي مغانم.. أو إضاعة الوقت والمماطلة.. رغم محاولة الإخوان القيام بدور الأحزاب والوزارات والملك مجتمعين في التلاعب من وراء ظهر ثورة يوليو ومحاولة إيهام الإنجليز بأنهم يستطيعون أن يقوموا بالدور الذي غيبته الثورة.. ولكن الإنجليز أدركوا في النهاية أن اللعبة انتهت.. وأنهم أصبحوا أمام استحقاق الجلاء.. ولابد أن يرضخوا له.. بعد أن أدركوا ايضا أنه لا وجود لهم في بلد يكرههم.. وشعب يضحي بأرواحه في كل يوم لكي يجعل حياتهم في مصر جحيماً.. وبقاءهم مستحيلاً.. وقد ازدادت وطأة هذا النضال خلال المفاوضات معهم التي قادها جمال عبدالناصر.. وتفرغ عدد من الضباط الأحرار لتدريب وقيادة المقاومة في منطقة قناة السويس.. وهو دور كانوا قد بدأوه قبل ثورة يوليو.. وقبل أن يؤدي حريق القاهرة وإعلان الأحكام العرفية إلي إيقاف المقاومة في منطقة القناة.
يقفز كاتب المقال فوق هذا كله.. ويدعي أن الذي أخرج الإنجليز من مصر هو النحاس باشا.. يتناسي مفاوضات عبدالناصر مع الإنجليز نحو العامين.. ويدعي أن النحاس توصل إلي هذا العرض في عدة ساعات.. ومع ذلك رفضه..!! يدعي أن الإنجليز قدموا هذا العرض إلي النحاس باشا بعد حريق القاهرة.. أين ومتي.. الحريق لم يتوقف إلا بعد نزول الجيش وسيطرته علي القاهرة في مساء 26 يناير 1952.. والأحكام العرفية أعلنت في نفس اليوم.. ووزارة النحاس أقالها الملك فاروق في اليوم التالي 27 يناير 1952.. فمتي إذن تلقي النحاس باشا هذا العرض بالجلاء.. والذي رفضه أيضا!! ولو أن هذا العرض الذي توصلت إليه مفاوضات الجلاء مع الإنجليز بقيادة عبدالناصر بعد سنتين. كان موجوداً.. فلماذا تفاوض عبدالناصر مع الإنجليز إذا كان الإنجليز قد سلموا به من قبل النحاس باشا.. ومع ذلك رفضه النحاس كما يقول المقال؟!.. كذب مفضوح.. وإذا كان الإنجليز قد سلموا بهذا العرض للنحاس باشا.. فأين هو في سجلات الدولة؟.. وكل العروض الإنجليزية- السابقة معروفة ومكتوبة ومنشورة.. فلماذا هذا العرض وحده يكتشفه صاحب المقال ويدعي أنه تم التوصل إليه في خلال ساعات بين حريق القاهرة وسقوط وزارة النحاس؟!
من الذي يزيف التاريخ: ثورة يوليو.. أم كاتب المقال الذي يقول: "تدعي ثورة يوليو أنها سبب جلاء الإنجليز عن مصر بعد احتلال طويل.. قول كاذب.. وافتراء علي الحقيقة.. وتزييف للتاريخ..".. هذا ما يقوله كاتب المقال لمجرد تشويه ثورة يوليو.. وزعيمها عبدالناصر.. كذب وافتراء واجتراء علي الحق والحقيقة.. ولنقرأ معاً حديث الوثائق التي لا تكذب.. وليس الأقوال المرسلة التي تلقي التهم جزافاً.
حديث الوثائق
تشير وثائق التاريخ في تلك الفترة إلي أن اتصال دبلوماسي بين مصر وبريطانيا بعد إلغاء معاهدة 1936 في 8 أكتوبر 1951 والذي أعقبه قيام المقاومة المصرية في منطقة قناة السويس. كان في اجتماع محمد صلاح الدين وزير خارجية مصر مع أنطوني ايدن وزير خارجية بريطانيا في 18 ديسمبر 1951.. وكان الاجتماع في دار السفارة البريطانية في باريس واستمر ساعة دون أن يسفر الاجتماع عن شيء في شأن قضية مصر. ولا في شأن الأحداث في منطقة قناة السويس.. وقد طلب ايدن في هذا الاجتماع ضرورة تهدئة الموقف في قناة السويس قبل الدخول في أي مفاوضات كاملة.. أما وزير خارجية مصر فقد طلب أن يكف البريطانيون عما يقومون به في منطقة القنال وطلب أن تكون المفاوضات علي أساس الجلاء ووحدة مصر والسودان.. وكان حديث ايدن يؤكد علي أن "بريطانيا لا تستطيع أن تحتمل ضربتين في الشرق الأوسط في آن واحد.. ويكفيها الضربة التي تلقتها في إيران بتأميم البترول وخروجها من عبدان".. وأنا هنا أفضل هذا النص من كتاب المؤرخ الكبير عبدالرحمن الرافعي في كتابه: "مقدمات ثورة 23 يوليو 1952".
وهو يضيف هنا: "اقترح ايدن عقد اجتماع آخر يدعو إليه قريباً. فأجاب صلاح الدين. بأنه مستعد لقبول هذه الدعوة إذا قررت إعلان استعداد بريطانيا للجلاء الناجز عن منطقة قناة السويس".. وقال: "ايدن إن بريطانيا لا يمكنها مفاوضة مصر في الوقت الذي تتوالي فيه الهجمات علي القوات البريطانية".
ويختتم عبدالرحمن الرافعي كلماته بقوله: "انتهي الاجتماع علي غير جدوي. واتضح من الحديث الذي دار فيه أنه لا أمل وقتئذ في تسليم بريطانيا بمطالب مصر في الجلاء ووحدة مصر والسودان. ولا في وقف العدوان في القتال".
ونخلص من هذه الكلمات أن أيدن وزير خارجية بريطانيا.. رفض في 18 ديسمبر أي مفاوضات مع مصر وحكومتها التي كان يرأسها النحاس باشا في ظل استمرار الهجمات علي القوات البريطانية.. فما معني أن يدعي كاتب المقال أن بريطانيا سلمت بالجلاء.. ودون مفاوضات وفي خلال خمس ساعات أو أكثر قليلا من مساء يوم 26 يناير 1952؟!
سنعود إلي مناقشة هذه النقطة ولكن بعد أن نقرأ التصريحات البريطانية في هذه الفترة.. ففي هذه الفترة وتعليقا علي مقابلة ايدن لوزير خارجية مصر محمد صلاح الدين. أذاعت السفارة البريطانية في القاهرة كما يسجل المؤرخ عبدالرحمن الرافعي. بيانا بعد عدة أيام من اجتماع وزيري خارجية مصر وبريطانيا. دل "علي أنه لا جدوي وقتئذ من انتظار تغيير في سياسة بريطانيا حيال مصر". قالت فيه: "ظهر في الصحف المصرية إيحاءات تدل علي أن المغزي من مقابلة صلاح الدين باشا لمستر ايدن. هو أن مستر ايدن سيعرض مقترحات جديدة لتسوية المشاكل الرئيسية للعلاقات المصرية البريطانية. ولكن ينبغي ألا يغيب عن البال أن الشرط لتحقيق أي تقدم في المباحثات. هو أن توقف الحكومة المصرية اتخاذ التدابير ضد المصالح البريطانية في مصر. وأن تتوقف عن أعمال الإرهاب والتهديد في منطقة القنال".. هذا ما قاله بيان السفارة البريطانية في مصر في نهاية ديسمبر 1951. هل يعني هذا أن هناك أي عروض بريطانية بالجلاء عن مصر؟!!
بالطبع لا يعني أي معني يشير إلي أي عروض.. ولا إلي أي تقدم في الموقف بل يطلب الكف عن المقاومة.. ومع ذلك يخرج النحاس باشا من اجتماع مجلس الوزراء ليقول في تصريحات صحفية: "إن كل شيء علي ما يرام".. وهذا ما سجله عبدالرحمن الرافعي بقوله: "عندما اطلع مجلس الوزراء علي تقرير صلاح الدين بمضمون اجتماعه بايدن. صرح النحاس لمندوبي الصحف قائلا: "إن كل شيء علي ما يرام"..!!
بعد ذلك بأيام نجد تأكيدا آخر علي أن الأمور "ليست علي ما يرام".. فالجنرال بريان روبرتسون. القائد العام للقوات البريطانية في الشرق الأوسط. يعود من لندن إلي مقر قيادته في فايد.. ويصدر في يوم 31 ديسمبر 1951 بيانا يؤكد فيه موقف التحدي لمصر.. وللمقاومة في منطقة القناة يقول فيه: "لقد عدت توا من زيارة قمت بها للندن. حيث اقتضي الأمر أن أقدم تقريرا عن الموقف في قناة السويس إلي رؤسائي العسكريين. وإلي رئيس الوزراء ووزير الخارجية. وما أقوله الآن هو بيان كلفني به رئيس الوزراء "ونستون تشرشل" عند انتهاء مناقشاتنا.
"إن وزير الخارجية "أنطوني إيدن" قد أوضح في مناسبات عدة. أن حكومة جلالة الملك عاقدة العزم علي السير قدما فيما يتعلق بمقترحات الدول الرباعية التي من المرجو بإخلاص أن تشترك مصر فيها اشتراكا كاملا وعلي قدم المساواة.
وإلي أن يتم مثل ذلك الاتفاق. ستحافظ حكومة جلالة الملك علي مركزنا. في منطقة القناة. وستصون حرية الملاحة الدولية في القناة. لا لمصلحة ذاتية قائمة علي الأنانية. ولكن مساهمة من جانبنا في الدفاع عن العالم الحر.
وإنه لخطأ كبير أن يتخيل أي إنسان أن أعمال الضغط والإرهاب وما يتلوها من نتائج لا مفر منها. تؤثر بأي شكل من الأشكال في عزمنا ذاك. وإذا اقتضت الضرورة ذلك. فإننا سنستمر في أعمال المقاومة شهرا في اثر شهر. بل ولشهور عديدة إذا احتاج الأمر. وسنقابل القوة بالقوة. مستخدمين من جانبنا ما لا يزيد عن الحاجة. ولدينا القوة الكافية تحت تصرفنا. كما لدينا التأييد من عدة بلاد أخري. فلا يخدعن امرؤ نفسه بالتفكير في أننا سنغير سياستنا علي مر الوقت أو نتيجة للإرهاب.
كان هذا التصريح كما يقول عبدالرحمن الرافعي. ذا صبغة رسمية. وقد أبلغته القيادة البريطانية إلي الصحف. وكان تعبيرا صريحا عن إصرار الحكومة البريطانية والقيادة العسكرية لقواتها علي موقف العدوان والتحدي لمصر. وإيذانا باستخدام القوة لبقاء الاحتلال".
وقد تبع هذا التهديد اشتعال الأعمال العدوانية البريطانية ضد مصر في منطقة القناة وضد المصريين المدنيين وضد قوات الشرطة المصرية.
ماذا جد إذن في الموقف الذي يدفع بريطانيا إلي التسليم بالجلاء علي يد مصطفي النحاس الذي رفضه. كما يدعي صاحب المقال. هذا العرض الذي لم يسجل في أي أوراق رسمية حكومية مصرية كما سجلت باقي العروض البريطانية علي مدي تاريخ الاحتلال البريطاني لمصر. وعلي مدي فترات المفاوضات أو المباحثات المصرية مع بريطانيا.. يدعي كاتب المقال أن الجديد هو نسف القطار البريطاني حامل الأسلحة بايعاز من فؤاد سراج.. وفي هذا كذب صريح.. في التفاصيل.. وفي التواريخ.. ودعونا نتابع الأحداث علي منطقة القناة بداية من يناير عام 1952. بعد أن انتهي عام 1951 كما رأينا ببيان روبرتسون القائد العام للقوات البريطانية في الشرق الأوسط يوم 31 ديسمبر 1951 مرورا ووصولا بحادث القطار المذكور علي النحو التالي ودون أن ندخل في تفاصيل ما دار من معارك حتي لا نتوه في هذه التفاصيل وهي عظيمة.. ومشرفة.. وإن كانت تدين أيضا موقف الحكومة المصرية برئاسة النحاس باشا التي اكتفت بإصدار التعليمات بالصمود والمواجهة بين أناس شبه عُزّل ودبابات ورشاشات وطائرات الاحتلال البريطاني.. علي النحو التالي:
* أولا: معركة أخري في السويس: علي مدي يومي 3. 4 يناير 1952
* ثانيا: معركة أبي صوير في 4 يناير 1952
* ثالثا: معركة المحسمة في 9 يناير 1952
* رابعا: حملات تفتيشية علي القري في 11 يناير 1952
* خامسا: معركة التل الكبير: 12 - 13 يناير 1952 وقد شملت هذه المعركة نسف الأهالي لقضبان القطار الإنجليزي القادم بالأسلحة في صبيحة يوم 12 يناير 1952 وهي المعركة التي يشير إليها كاتب المقال مدعيا أنها كانت السبب في تحول موقف بريطانيا والتسليم للنحاس باشا يوم 26 يناير بالانسحاب من مصر.. مع أن ما حدث أن الأهالي والفدائيين وضعوا ألغاما تحت القضبان علي مقربة من مدخل معسكر التل الكبير.. فلما وصل القطار إلي هذه النقطة انفجرت الألغام ونسفت بعض القضبان فتوقف القطار.. ولم يكن لفؤاد سراج دخل بهذا علي الإطلاق.. كما أنه لم تكن هذه أعنف المعارك بالقياس إلي ما رافقها أو سبقها أو تبعها من معارك.. وفي معركة التل الكبير قطع الفدائيون الكوبري علي ترعة الإسماعيلية لمنع الإنجليز من العبور إلي الضفة الثانية لها.. وقامت معركة عنيفة بين الجانبين علي ضفتي الترعة.. ثم استخدم الإنجليز القوارب المطاطية للعبور إلي الضفة المقابلة.. لتقوم معركة من أعنف المعارك.. ولن نستطرد كثيرا في هذه المعركة.. حتي لا يفلت منا الموضوع الأصلي.. وهو دحض أكاذيب المقال المذكور.
* سادسا: معركة القرين يوم 13 يناير.
* سابعا: احتلال التل الكبير وحمادة. وأبوحماد يوم 16 يناير
* ثامناً: يوم 19 يناير 1952: إعلان الجنرال أرسكين إلغاء كل الترتيبات والتعهدات التي سبق للبريطانيين إعلانها بشأن عدم دخول القوات البريطانية مدن القناة.. وشروعها في احتلال جزء من الإسماعيلية وحصار مبانيها.
* تاسعاً: يوم 21. 22 يناير 1952 عنف وتعسف الانجليز يزداد ويعتقلون ويعذبون المئات من الأهالي.
* عاشراً: نصل إلي 25 يناير 1952 ومجزرة الإسماعيلية التي دفعت الانجليز بالوحشية وسجلت صفحات سوداء في تاريخ الاحتلال البريطاني.. ولن نستطرد في تفاصيل هذه المعركة التي تستحق وحدها صفحات وصفحات.
قصة القطار
ذكرنا في ما سبق ما حدث مع القطار الذي كان يحمل الأسلحة إلي القوات الانجليزية في معسكرهم في التل الكبير.. والذي نسف الفدائيون قضبانه فتوقف قبل أبواب المعسكر.. وكان ذلك صباح يوم 12 يناير .1952
وماذا يقول كاتب المقال الذي نحن بصدده عن هذا القطار..
".. بدأت المقاومة تشعل النار في المعسكرات ليخرج الانجليز فيتم اغتيالهم.. إلي أن جاءت حكاية أبوحماد.. إنجلترا أرسلت سفينة محملة بمعدات عسكرية حملها من الإسكندرية قطار مخصوص. علم بذلك فؤاد سراج الدين وزير الداخلية. فتم نسف القطار وهو في طريقه لمعسكرات القناة في أبوحماد شرقية "جريدة المصري" لأننا كنا علي علاقة بكل حركات المقاومة قمنا بتصوير القطار.. ولأول مرة في تاريخ صحافة العالم كان مانشيت الجريدة علي ثمانية أعمدة صورة القطار المحطم والضباط والجنود الانجليز والدبابات والمحطة التي لفظتها انفجار الديناميت وطردتها خارج القطار.
هذا الحادث كان السبب في أن تاني يوم طلب قائد المعسكر الانجليزي الاستيلاء علي محافظة الاسكندرية وإخراج كل من بها.. وكانت حكاية 25 يناير المشهورة.. وهنا.. وهنا.. هنا السر الكبير الذي سبق أن نوهت عنه.. بدأت اتصالات دبلوماسية علي أعلي مستوي بين مصر وانجلترا.. وكانت مفاجأة ضخمة.. وضخمة جداً.. سير مايلز لامبسون يقابل مصطفي النحاس في قصره في المساء.. ويحضر فؤاد سراج الدين الاجتماع.. لا مانع من الجلاء في ظرف كذا.. ولكن بشرط معاهدة تنص علي عودة الجيش الانجليزي في أي حرب تخوضها انجلترا.. ورفض النحاس بشدة.. فكان حريق القاهرة بين الانجليز ومساعدة الملك.. وكان حريق القاهرة تفكيراً انجليزياً حتي لا يثور الشعب"..
انتهي الكلام.. انتهت الرواية المفككة التي لا تستقيم في تواريخها ولا تفاصيلها مع الحقائق التي حدثت علي الأرض.. ولكنه يختمها بقوله: "تم إبرام المعاهدة التي رفضها النحاس. في عهد الثورة".. ويتساءل: "من الذي أخرج الانجليز".. هو يريد أن النحاس باشا هو الذي أجبر الانجليز أن يطلبوا الجلاء ليفروا من قناة السويس.. ولكن الرواية لا تستقيم.. وليس هناك من أي ثبت تاريخي يسجلها.. ولا حتي في الوثائق البريطانية.
وعودة إلي الوقائع التي ذكرها نجدها كلها متناقضة في تواريخها فحادثة القطار وقعت في 12 يناير 2..195 وكلامه يدل علي أنها وقعت 24 يناير .1952 لأن مجزرة الإسماعيلية حدثت يوم 25 يناير أي ثاني يوم بعد الحادثة كما يقول في كلماته.. والانجليز أعلنوا أيضاً أنهم سيحتلون الإسماعيلية في يوم 19 يناير.. أي بعد أسبوع من معركة القطار.. وليس في ثاني يوم كما يقول كاتب المقال.
ونسف القطار لم يكن هو المعركة بل سبقتها وتبعتها معارك أعنف.. كما أنه لم يأت من الإسكندرية.. فما الداعي لأن ترسو سفينة محملة بالأسلحة في الإسكندرية وتنقل ما بها من أسلحة بالقطار إلي التل الكبير.. وجميع موانئ القناة تحت إمرة الانجليز بداية من بورسعيد.. والحقيقة أن القطار كان ينقل أسلحة إلي التل الكبير.. في تطور للمعارك بعد أن أصبحت الطريق مفتوحة إلي القاهرة نفسها.. ولا نريد أن يستطرد كثيراً في بيان زيف هذه الرواية وتناقضها.. وإنما يكفي أن نقول إنه إذا كانت حقيقة.. والنحاس رفض هذا العرض الذي أضاع ثلاث سنوات كاملة قبل التوصل إلي نفس الاتفاق مرة أخري.. فإن هذا يدين من حيث أراد كاتب المقال للعكس.. هو يريد أن ينفي عن عبدالناصر وثورة يوليو فضل إزاحة استعمار ظل جاثماً علي صدر الوطن نحو ثلاثة أرباع قرن.. ولكنه كما في قصته الدبة والذبابة المشهورة يهيل التراب علي كفاح النحاس باشا.. فكما قلنا.. لو كان ما يدعيه صحيحاً وهي غير ذلك بالمرة فإنه يصم النحاس باشا إنه أضاع علي مصر حلاً كان سيوفر عليها ثلاث سنوات. من الاحتلال وكانت سيصون أرواحاً وممتلكات راحت ضحية الكفاح المسلح للمصريين في منطقة قناة السويس.. وهو الكفاح الذي تسببت حكومة الوفد نفسها بإيقافه. وجاءت ثورة يوليو لتستأنفه وهي تفاوض الانجليز بقيادة جمال عبدالناصر.. وقد تسببت حكومة الوفد بوقف هذا الكفاح لأنها من ناحية لم تعد للأمر عدته. كما ذكر المؤرخون لتلك الفترة.. علي الرغم من قول النحاس باشا رحمه الله لقد أعددنا لكل أمر عدته. ولأنها ثانياً لم تستطع مواجهة حريق 26 يناير.. وكانت بشائره واضحة فيما حدث في مطار القاهرة في فجر ذلك اليوم حيث رفض العاملون فيه خدمة الطائرات الرابضة فيه ومنعوا إقلاعها وكادوا يحرقونها لولا أن تدخل المسئولين في المطار وإقناع العمال بخطورة الأمر دولياً.. كانت بشائر 26 يناير واضحة.. بعد مذبحة الإسماعيلية ولكن حكومة الوفد لم تقدر الأمر التقدير اللازم لمواجهة الموقف عقب مذبحة الإسماعيلية في 25 يناير.. فرفضت استمرار توقف الدراسة وسمحت ببدء الدراسة في 26 يناير ..1952 لتخرج المظاهرات ويمتطيها من أشعلوا حريق القاهرة.. في نفس الوقت الذي كان فؤاد باشا سراج الدين. رحمه الله مشغولاً في مكتبه بوزارة الداخلية بتوثيق عقد شرائه للعمارة رقم 23 شارع عبدالخالق ثروت وانتقل إليه مدير الشهر العقاري بنفسه ليجري هذا التوثيق في مكتبه.. ولم يفرغ من هذا التوثيق إلا في حوالي الواحدة والنصف ظهراً. وكانت الدقائق بل الثواني تمضي متسارعة.. والقاهرة تحترق.. ووزير الداخلية وكان مشغولاً بتوثيق عقد خاص.. وكانت نهاية اليوم بإنزال الجيش إلي شوارع القاهرة.. وإعلان الأحكام العرفية.. وبالتالي توقف كل شيء في منطقة قناة السويس.. أما الملك فاروق الذي كان مشغولاً بحفل أقامة في قصر عابدين احتفالاً بسبوع ابنه أحمد فؤاد.. فإنه أقال حكومة الوفد في اليوم التالي في 27 يناير 1952 لتقصيرها في مواجهة هذا الحريق.. لتدخل البلاد بعد ذلك في دوامة تأليف الوزارات حتي ليلة 23 يوليو ..1952 وقيام الثورة..
وفي فترة أخري يصف كاتب المقال ثورة يوليو بأنها سرقت تجربة المقاومة الشعبية في عام 1951 لتطبيقها في عام ..1967 وهو بالتأكيد يعني عام 1956 وليس عام ..1967 ومقاومة الشعب في بورسعيد للعدوان الثلاثي.. ولكن الذاكرة كالمعتاد تخونه.. أو تجعله يتوهم أشياء لم يثبتها التاريخ.. ولكنه من ناحية أخري يتجاهل هنا أن تجربة المقاومة الشعبية ليست تجربة حزب أو حكومة أو ثورة.. وإنما هي رصيد شعب لم يتوان عن مواجهة الاحتلال البريطاني لمصر وتوالت انتفاضاته وثوراته علي مدي سنوات هذا الاحتلال.. هو ينزع بهذا عن الشعب مبادراته.. ويكاد ينسبها إلي النحاس باشا فحسب..
وهكذا نري كم يرتكب الذين يريدون تشويه عبدالناصر وثورة يوليو من أخطاء وخطايا.. ولا يدركون قد ما يفعلونه من إهانة لمصر والمصريين وتاريخ مصر.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.