لم يكن من السهل علي سيدنا رسول الله صلي الله عليه وسلم أن يهاجر من وطنه مكة إلي المدينة. إنما كانت هجرته رحمة بالضعفاء من أصحابه ورأفة بهم. وأملاً في انتشار الدعوة الإسلامية. ورغبة في بناء مجتمع إسلامي يكون نموذجاً فريداً وتلبية لرغبة وأمنية الأنصار الذين التقي بهم سيدنا رسول الله. قرر الرسول الكريم الهجرة من مكة إلي يثرب وأمر أصحابه أن يسبقوه إليها. واستشعر القرشيون خروج المسلمين مهاجرين وأرادوا أن يضيقوا عليهم مما اضطر معه المسلمين إلي ترك ديارهم وأمتعتهم في سبيل الفرار بدينهم. أما أمثال عمر بن الخطاب فقد خرج نهاراً جهاراً منادياً من أراد أن تثكله أمه فليلقني وراء هذا الوادي. لم تكن الهجرة بالنسبة إلي سيدنا رسول الله عملاً سهلاً وهو المحب لمكة. ضارباً أروع الأمثلة في التعلق بالوطن والارتباط به قائلاً وهو يغادر مكة: والله إني أعلم أنك أحب بلاد الله إلي الله. وأحب البلاد إلي قلبي. ولولا أن أهلك أخرجوني منك ما خرجت أبداً. إشارة منه إلي تعلقه بوطنه وحبه معلماً البشرية أن حب الوطن عمل وجداني لا ينفصل عن أحاسيس ومشاعر الإنسان مهما كانت أهمية المكان المهاجر إليه. ومهما كان حب أهل هذا المكان له وترحيبهم به. رغم كل الترحاب والأناشيد والفرحة التي لا تحد لدي أهل المدينة. ورغم سرور الأنصار اللانهائي بهجرة الرسول إليهم. إلا أنه صلي الله عليه وسلم قال: "اللهم حبب إليّ المدينة كما حببت إليَّ مكة". أرأيت تلك العاطفة الرائعة الصادقة نحو وطن الإنسان ومكانة هذا الوطن في الإسلام.. حب مكة يسكن قلب الرسول. لا يتخلي عنه. رغم ما ناله من أهلها هو وأصحابه من عذاب وتعنت وجحود رغم الحرب التي شنها القرشيون علي المسلمين في بيوتهم وفي الأسواق. طاردوهم في كل مكان. ضيقوا عليهم معيشتهم رغم ما حدث مع الرسول وقبيلته من مقاطعة وحصار في شعب أبي طالب. إلا أن الارتباط بالوطن والتعلق به والحب الساكن في أعماقه لم يتزلزل ولم يضعف. مما حدا به صلي الله عليه وسلم أن يطلب من رب العزة أن يحبب إليه المدينة كما حبب إليه مكة. ليت هؤلاء الذين ينكرون حب الوطن تحت مظلة الزعم أن الإسلام لا يعرف وطناً ليتهم يفهمون ويقرأون ويعلمون أن الوطن له مكانته الرائعة في قلوب المسلمين ولنا في رسول الله أسوة حسنة. الوطن في الإسلام يستوجب من كل محب له الدفاع عنه وجعله مقدساً. والاعتداء يستنفر كل قلب وطني مخلص للتصدي لأعدائه ومقاومتهم والدفاع عن كيانه وهو ما أكده سيدنا رسول الله في قوله: من مات دون أرضه فهو شهيد. ظل سيدنا رسول الله صلي الله عليه وسلم في المدينة منذ الهجرة حتي تاريخ صعود روحه إلي الرفيق الأعلي. قد يقول قائل إذا كان حب الرسول لمكة إلي هذا الحد من التعلق بها. فلماذا لم يستقر فيها بعد الفتح.. في ذلك مثل آخر للوفاء والاعتراف بفضل الأنصار الذين استقبلوه واستقبلوا المسلمين. حاشاه صلي الله عليه وسلم أن يكون جاحداً أو مستهتراً بما قدمه الأنصار من عون وكفاح في نشر الدعوة الإسلامية. واستقبال وترحاب بالمسلمين. ليس من الإنصاف أن يتخلي عنهم سيدنا رسول الله صلي الله عليه وسلم إنما استقر في المدينة حتي تاريخ وفاته ليدفن فيها وفاء منه لأهلها وتعظيماً لدورهم وتقديراً لما قدموه من تضحيات وعون للدعوة الإسلامية. وإن كب ذلك لم يغير من حب الرسول لمكة وارتباطه بها عاطفياً ونفسياً إلي الحد الذي جعله يقول كما سبق اللهم حبب إليَّ المدينة كما حببت إليَّ مكة.. أرأيتم مكانة الوطن في الإسلام؟! المستشار: محمد محمد خليل رئيس محكمة الاستئناف