المعني الشائع دائماً للشريعة ينصرف للقوانين التي تحكم المعاملات وحدها. وهذا خطأ فالشريعة هي مجموعة النظم التي شرعها الله وأنزلها ليلتزم بها الإنسان في أكثر من ميدان. مثل علاقة الإنسان بربه. ويدخل فيها ما شرعه الله من الواجبات الدينيه مثل الصلوات والصوم. وعلاقة المسلم بالمسلم كالإخوة والتراحم والأحكام الخاصة بالأسرة والميراث. وعلاقة المسلم بالمجتمع مثل المعاملات الاقتصادية والقوانين المدنية والجنائية. وعلاقة المسلم بأهل الأديان الأخري. وعلاقة المسلم بالكون كالبحث والتفكير. وعلاقة المسلم بالحياة وكيف يستمتع بها دون إسراف أو تقتير. وعلي هذا فإن الإسلام نظام. وليس قوانين فقط. وطرح الجماعات مثل الإخوان الشريعة كمعركة حدود فقط هو إشكالية كبيرة. برأيي إن المعركة الحقيقية أن نراعي مصالح الناس. وليس هدم الحياة الآمنة للناس بحجة الشريعة. لأن معركة الشريعة الحقيقية هي توفير الحياة الكريمة. التي يرضاها المولي سبحانه. وتحقيق العدالة الإجتماعية. والمجتمع الذي يصل إلي ذلك يكون قد نجح تماماً في فهم مقاصد الشريعة. أما هؤلاء الذين لا يرون إلا الوجه العقابي للشريعة فقد وقعوا في أكبر الأخطاء. لأن أهم مقاصد الشريعة حفظ مصالح الناس. وهذا له أوجه قد يدركها العقل. وقد لا يدركها. وإذا أدركها فقد يدركها بالنسبة إلي حال دون حال. لأن الأدلة نصبت في الشريعة لتتلقاها عقول المكلفين حتي يعملوا بمقتضاها ولو تعارضت الأدلة مع العقول والمصالح لا يمكن العمل بها كما يقول الشاطبي. كما أن الأولوية للمعركة الفكرية وتغيير الأنفس وتصحيح التصور. فهذا هو أساس كل إصلاح. أو تغيير. أو بناء اجتماعي. وهي التي يجب أن نصرف لها كل همة ونجهز لها كل عزيمة. لأنها مهمة الأنبياء التي دعا لها المولي سبحانه قائلاً "إن الله لا يغير ما بقوم حتي يغيروا ما بأنفسهم". وهذا هو ما يسمي التغيير بالإيمان الذي يغرس العقيدة الصحيحة في قلب المسلم. ويصحح له نظرته إلي العالم وإلي الإنسان وإلي الحياة وإلي رب العالمين. وللمعركة الفكرية مجالات متعددة. أولي هذه المجالات هي مع أنفسنا لتربيتها علي العمل الصالح والعقيدة الراسخة والإيمان القويم. وثانيها هي داخل المجتمع لتصحيح مسيرته وتصويب حركته حتي تسير في الطريق الصحيح. خاصة إذا كانت أعمال البعض أصبحت تشوه الدين بالكلية. إشكالية الإخوان والجماعات الأخري أنها اختزلت معاركها في الخروج علي الحكام وهي من أكبر المفاسد. التي حلت بالأمة الآن. خاصة مع طرح ما يسمي العنف الفردي. والذئاب المنفردة. التي تدعي أنها تريد تغيير المجتمع. ويدعي عناصرها أنهم هم الأمة. أي الجماعة المسلمة الآمرة بالمعروف والناهية عن لمنكر وحدهم. كما أن من أدوات المعركة الفكرية الوعي. فالذين يتصورون أن بإمكانهم أن يقودوا العالم. بمجرد أنهم قرأوا كتاباً. أو اطلعوا علي جريدة. نقول لهم أنتم واهمون. فالوعي بالظروف المحيطة. والإدراك الحيوي للمتغيرات. أو الواقع. ليس أمراً هيناً. لأنه يحتاج إلي خبرة تنقص شباباً كثيرين. إضافة إلي أنه أمر صعب. لأن الواقع متغير بطبيعته. سواء كان زمنياً. أو مكانياً. فواقع اليوم ليس كواقع الأمس. وعهد اليوم ليس كالعهد الأول للدعوة الإسلامية. وبعض الروايات تروي عن النبي صلي الله عليه وسلم أنه قال "يأتي زمان علي الناس لو فعلوا عشر ما أنتم عليه لنجوا ولو تركتم عشر ما أمرتكم به لهلكتم". والذين يتعجلون في المعارك. هم مخطئون فالشرع لم ينزل إلي عالم سماوي بل ترك ليعالج أخطاء البشر فوق الأرض. ولا بد أن يكتمل فقه الشرع والواقع. حتي يمكن الوصول إلي الموازنة العلمية السليمة البعيدة عن الغلو والتفريط. ويظل الوعي بالواقع هو الضرورة الحتمية لفرز ما يصلح وما لا يصلح ولتحديد نقطة البدء في معالجة القصور وهناك ضرورات تحتاج إلي فقه الواقع. إن المفهوم الخاطئ للظروف وعدم وجود الإدراك الحيوي للواقع المتغير هو الذي دفع كثير من الشباب أن يعتبر أن الجهاد غاية لا وسيلة وأن القتال هدف وطريق وحيد. وهذه هي بلية أصابت الأمة الإسلامية حتي بعد أن دخلنا القرن الحادي والعشرين. يقول الدكتور علي جمعة "وينبغي أن يتقيد بالشروط التي أحل الله فيها الجهاد وأن يجعل ذلك لوجه الله تعالي تعالي. ومعني هذا أنه سوف يلتزم بأوامر الله. ومستعد لإنهاء الحرب فوراً إذا ما فقدت الحرب شرطاً من شروط حلها أو سبباً من أسباب استمرارها". في الختام. الإسلام لم يكن إلا حركة إبداعية خلاقة استهدفت إنشاء حياة إنسانية متجددة. وغير معهوده في النظم الأخري التي سبقته أو لحقته. وهذه الحركة تنشأ عن تصور معين للحياة بكل قيمها وكل ارتباطاتها. تصور جاء به الإسلام ابتداءً ليكون مرشداً وهادياً وهي حركة تبدأ في أعماق الضمير ثم تحقق نفسها في عالم الواقع. وهذه هي المعركة الحقيقية.