ربما يقضي الإنسان عمره كله باحثاً عن السعادة بمفهومها الحقيقي. دون أن يجدها. ودون أن يعرف أصلاً ما هي السعادة .. ولأن المعني الغامض لا يلد عادة إلا نتيجة غامضة. وغائبة. لذا قد نحيا ونموت. ونحن لم نصادف من السعادة إلا مشاهد متفرقة علي شريط الحياة. تبقي في الذاكرة. كما يصادف الواحد منا الآخر في الطريق. فيبتسم له. ثم يمضي كلّى في طريق. جوهر الأزمة أننا غالباً لا نري السعادة إلا فيما لا نراه. ونبحث عنها في المفقود. دون الموجود .. بمعني أدق. ينصرف كل تركيزنا إلي ما ينقصنا. فيصرفنا عما في أيدينا. والذي قد يسعدنا. فقط لو أننا ركزنا عليه. واستشعرنا وجوده. دعونا نتفق أولاً. علي أنه في زمن المادة. طبيعي أن يغيب المعني الأصيل للسعادة. وفي مجتمع ثقافته الاستهلاك منطقي أن تصبح السعادة سلعة. إن لم تملك ثمنها لا يمكنك التحصل عليها.. وعندما تتحول السعادة إلي امتلاك شقة علي النيل. أو شراء شاليه في الساحل. أو يجري الترويج لها باعتبار أنها تتجلي في سيارة فخمة تقطع الطريق علي التعاسة. وتقطعه إلي السعادة. ثق أننا أمام مجتمع مريض بالنقص. يجيد الحساب. ولا يجيد الإحساس. مجتمع طبقي بامتياز. ورقمي بامتياز. وسطحي بامتياز.!! عادة ما يطل عليَّ الماضي. وأنا أنظر إلي حال الحاضر.. لم يكن في زماننا القريب. وفي مدينتنا الصغيرة. لا مدراس خاصة. ولا "انترناشيونال".. الطبقة المتوسطة توسعت. فلم تترك مكاناً للطبقية.. الفقراء. والأفقر. كما الأغنياء. والأغني. الجميع يذهبون إلي نفس المدرسة. ويوحدهم زي المدرسة. وتشبعهم وجبة المدرسة.. كانت السعادة "حصة ألعاب".. و"تحية العلم" ترج المدرسة.. كان مجتمعاً صحيحاً. لم تمرضه المادة. وكان يعالج النزعة إلي الاستهلاك بالقدرة علي الاستغناء.. كان الرضا سر أسرار السعادة. لم تكن وقتها بذرة الانفتاح الاقتصادي. بانعكاساته الاجتماعية. قد نمت. حتي توحشت.. ولم تكن الطبقة المتوسطة قد بدأت ترقص علي السلم. حتي أرهقها الرقص.. لم نكن قد وقعنا بعد أسري للإعلانات. التي تقوم سياسة تسويقها للسلعة علي "الحصار". والتكرار. وخلق. ومضاعفة احتياج كاذب إلي ما لا حاجة له.. لم تكن الطبقة نفسها. آنذاك. قد جري تفخيخها من الداخل بظهور فوارق كبيرة بين أبنائها. كما الحال الآن. مما دفع بعضهم إلي ممارسة مظاهر الطبقية. الأمر الذي عمق بدوره الإحساس بالمادة. بوصفها أصل السعادة. وكما سبق وسرنا علي طريق الغرب إلي عصر المادة. أخشي أننا الآن. مثله. باتجاهنا إلي "عصر الفرد". حيث تغرب قيمة الأسرة. وتتحلل العلاقات الاجتماعية .. ولعل المؤشرات بدأت بالظهور في شكل "جزر منعزلة" تحت "سقف واحد". ما أفقد الأسر. وبالتبعية المجتمع. دفء العلاقات الإنسانية. كرافد طبيعي للسعادة الحقيقية. بالعودة إلي مفهوم السعادة. أراني كأفلاطون الذي انتهي إلي أن الإنسان لن يصل للسعادة الكاملة إلا في "العالم الآخر". واتفق مع عالم النفس الأمريكي "مارتن سيلجمان" الذي توصل إلي أن المتدينين عمومًا أكثر سعادة. ورضا عن الحياة. الآية الكريمة تقرر المعني نفسه: "وأمَّا الذِينَ سُعِدُوا فَفِي الجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا".. والرسول الكريم يضيء الطريق إلي السعادة: "وَارْضَ بِما قَسَمَ الله لَكَ تَكُنْ أَغْنَي النّاس".. صدق اللَّه العظيم. وصدق الرسول صلي اللَّه عليه وسلم.