ليس من المبالغة القول إن تاريخ البشرية صنع في مصر وأن الله قد اختارها بعناية لتكون مهداً لمعظم أنبيائه ورسالاته السماوية.. ينادي الله علي رسله في أرضها فيباركها بتجلياته التي تتصدع بها أركان الجبال الرواسي.. وينزل فيها الأنبياء ضيوفاً فيصدعون علي أرضها بآيات الله وتنشغل الدنيا كلها بل السموات والملائكة بأحداثها الجسام.. تتوالي علي جبالها وصحاريها معجزات الأنبياء.. معجزة إثر أخري.. من إدريس إلي إبراهيم إلي يعقوب ويوسف إلي موسي وهارون حيث مؤمن آل فرعون وآسيا امرأة فرعون وماشطة بنت فرعون.. وقبلهم سارة أم اسحاق وهاجر أم إسماعيل وبعدهم مريم ابنة عمران.. كلها أحداث متفردة اختار الله أرض مصر لتكون مسرحاً لها تتنزل تعاليم السماء فتسجلها الكتب السماوية بأحرف من نور.. وأي نور يبارك الله سيناءها وطورها ونهرها.. هذا اليم الذي تحول ماؤه الهادر يومها وموجاته العالية الصافية إلي إحضان حنونة دافئة تحفظ نبي الله موسي وهو رضيع قبل أن يربي أميراً في قصر فرعون. لذا كان من الصعب وأنا أخط بقلمي تلك المصريات القرآنية المباركة أن أختار البداية.. إلي أن استخرت الله فكانت مصر الآمنة. سألت الدكتور عبدالمقصود باشا أستاذ التاريخ الإسلامي بجامعة الأزهر: لماذا قال يوسف عليه السلام لأبويه واخوته من بني إسرائيل وهم يحطون رحالهم يبدأون أول مشوارهم في مصر "ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين"؟ ألم تكن بلاد الشام التي أتي منها نبي الله يعقوب وأولاده آمنة أيضا؟ ما هي درجات الأمان التي كانت تتمتع بها مصر في ذلك الزمان؟ وكيف كانت سمعتها وسط عالم كان يمر بمجاعة رهيبة؟ ولماذا لم نسمع كلمة فرعون في سورة يوسف كلها؟ أجاب الدكتور عبدالمقصود باشا: نعم كانت مصر أإهم المناطق آمناً ورفعة وتقدماً.. فبينما كان الشام كله يعيش صراعاً بين قبائل من البدو والمتناحرة.. كانت مصر من أهم بلاد الدنيا.. استقرار سياسي.. تقدم علمي.. حضارة تضرب بجذورها في أعماق التاريخ.. جيش حديث رادع لكل من تسول له نفسه الإغارة عليها.. بل الأخطر الأمان الاقتصادي الذي وفرته مصر للمنطقة كلها في وقت تعرضت فيه لمجاعة خطيرة فكانت القبائل حولها تفرإلي مصر طالبة المعونة والمساعدة. أضاف الدكتور عبدالمقصود باشا إنه عندما حل الجوع بهذه المنطقة كان من الممكن أن يتجه يعقوب بأولاده إلي العراق بلاد الرافدين وكانت تسمي في هذا الزمن أرض السواد أي الخير الوفير لأنها أرض كلها خضراء ولكنهم اتجهوا جميعاً إلي مصر يطلبون الأمن والمعونة لأن مصر كانت سلة الغذاء في العالم. عرض الملك ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين.. وقد سجل نبي الله يوسف عليه السلام المشيئة قبل الأمان لأن مصر آمنة بمشيئة الله وحده وليس بمشيئة أحد لذلك تنهار أمامها دائماً عصي الافتراء من بعض الجيوش والهمج الذين حاولوا تدمير الإنسانية وعلي رأسهم التتار. وإن خزائن مصر باركها الله في عليائه بنبي الله يوسف.. بل إن الملك وهو يخاطب سيدنا يوسف عرض عليه شيئين مهمين: الأول التمكين والثاني الأمان.. فهو مكين أمين.. أمين علي نفسه وهو ذاته أمين علي خزائن مصر "فلما كلمه قال إنك اليوم لدينا مكين أمين" ولكن لماذا قال يوسف عليه السلام "اجعلني علي خزائن الأرض" وهو يقصد مصر فقط لأنه لم يكن وزيراً علي خزائن الكرة الأرضية؟ يقول الدكتور عبدالمقصود باشا إن هذا يدل علي قوة مصر الاقتصادية في هذا الزمن وسيجد يعقوب وأبناؤه فيها عوضاً عن بلادهم بالشام التي هربوا منها من الجوع وجاءوا إلي مصر طلباً للأمان والأمن الاقتصادي وهو ما تحقق لهم. أضاف الدكتور عبدالمقصود الباشا إن إبراهيم عليه السلام رحل من شمال العراق إلي مصر بأهله طالباً أيضا الأمان والمساعدة والأمن الاقتصادي.. جاء بأهله وزوجته سارة وبعض من أهله كما كان إدريس الذي رفعه الله مكاناً علياً في مصر. ومن هنا أوي يوسف عليه السلام أبويه إليه وقال هذه المقولة التي سجلها القرآن الكريم إلي يوم الدين "ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين". ولكن لماذا لم يذكر لفظ فرعون في سورة يوسف كلها؟ يجيب الدكتور عبدالمقصود باشا بأن فترة سيدنا يوسف كان يحكمها ملك غير مصري في زمن الهكسوس ولكن علماء المصريات كما ذكر الدكتور محمود رءوف أبوسعدة المترجم السابق بالأمم المتحدة والخبير باللغات الشرقية يقولون إن اسم فرعون لم يصبح دالا بذاته علي شخص الملك إلا علي عصر الأسرة التاسعة عشرة وهذا يقارب عصر رمسيس الثاني فرعون موسي لذلك تحدث الله عن المصريين في سورة يوسف بلغتهم كما تحدث عن قصة موسي بلغتهم أيضا. لقاء النبيين "ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين" قال فيها المفسرون روايات عديدة.. ولكن من أهم ما ذكروه أن يوسف عليه السلام استقبلهم بحشد هائل من أهل مصر.. وكان نبي الله يعقوب يتوكأ علي ولده يهوذا فنظر يعقوب إلي الملأ والجنود والحراس والخيل فقال لابنه هذا ملك مصر فرد عليه يهوذا.. هذا ولدك يوسف إلي أن دنا كل منهما من صاحبه فبدأه يوسف بالسلام فرد عليه أبوه يعقوب السلام عليك يا ذاهب الأحزان عني. ولكن عليك أن تتصور لقاء نبيين بعد فراق دام كما قال بعض المفسرين 40 سنة.. لقاء علي أرض مصر بين نبي الله يوسف ونبي الله يعقوب. هذه الأرض التي شهدت أحداث هذا اللقاء الحميم المبارك الذي سجله التاريخ وسجلته الكتب السماوية.. هل تستحق هذه الأرض كل ما نفعله من جحود واهمال وتخريب وتجريف؟