هل نحن أمة متدينة بحق.. نعلي جوهر الدين أم نكتفي بالشكليات ونسرف في المظاهر ..هل ينسحب تديننا علي سلوكياتنا وأفعالنا أم ثمة انفصال بين ما نؤمن به وما نمشي به بين الناس وما نلزم به أنفسنا من أوامر الدين ونواهيه.. إذا أردت أن تعرف إلامَ وصلنا فانظر إلي ما نفعله في شهر رمضان وما نفعله برمضان.. لقد أصاب الراحل غازي القصيبي الهدف بدقة حين كتب في "الوطن السعودية" يصف أحوالنا مع رمضان هذا الزمان وكان من بين ما قاله: غريب أن نودع ضيفا قبل وصوله إلا أن هذا الضيف الغالي "رمضان" رحل عنا منذ زمن أحسبه يعود إلي فترة الطفرة الأولي . وحل محله رمضان آخر بملامح نعرف أقلها وننكر معظمها.. رمضان القديم لم يكن أولمبياد طعام يتضاعف فيه استهلاك المواد الغذائية عدة أضعاف.. لم يكن موسم ¢ تليفزيون نَجْمُد أمامه كالخُشُبِ المسنَّدة.. النساء والرجال والكبار والصغار.. لم يكن يأتي وفي صحبته مسلسلات لها أول وليس لها آخر وليس في واحد منها شيء عن تزكية النفس أو تنقية الروح.. لم يكن مسابقة في الفتوي بين المفتين ولا في الجمال بين المذيعات. ولا في الذكاء بين المحللين السياسيين لم يكن مدرسة للعادات السيئة يتعلم فيها الصغار الطعام المتصل والعبث المتصل والسهر المتصل. في رمضان القديم كان الطلاب يذهبون لمدارسهم كالمعتاد وكان الموظفون يمارسون عملهم كالمعتاد .. أما في رمضان الجديد فقد أصبحت دراسة الأطفال عقوبة جسدية ومعنوية قاسية لا مبرر لها أما دوام الموظفين فقد تحول إلي وصلة نوم وخمول استجمامًا من سهر الليلة السابقة واستعداداً لملاحم الليلة القادمة . أي هدف من أهداف الصيام الربانية يتحقق في رمضان الجديد؟ أي تقوي يمكن أن يَحُسَّ بها شخص يلهث متلمظًا من حسناء في مسلسل إلي حسناء في مسلسل آخر .. أي شعور بمعاناة الفقير يحس بها صائم يأكل في ليلة واحدة ما يكفي قرية أفريقية بأكملها؟ أي صحة يمكن أن تجيء من التهام وافر لأطعمة تقود إلي مختلف أنواع الأمراض؟ أي روحانية يمكن أن يحس بها الصائم في شهر يجسد المادية الطاغية بدءًا بالإعلانات . وانتهاء بجوائز المسابقات؟ الحق أقول لكم أنا ولا أدري عنكم أَحِنُّ إلي رمضان القديم كثيرا كثيرًا والسؤال: هل تغير شيء مما قاله القصيبي هل نراجع أنفسنا في رمضان الذي نستقبله بعد غدي بفرحة غامرة.. هل بإمكاننا أن نجعله فرصة ليكون شاهدًا لنا لا علينا.. هل نتخفف من أثقال البطون وأوهام العقول وسوء الظنون والشواغل والهموم وأوزار الاستهلاك النهم والسهر أمام المسلسلات والأفلام والبرامج الهابطة التي تضر أكثر مما تنفع هل نغسل قلوبنا بماء الصيام وروح القرآن.. هل نزيح ما ران عليها من آثام الغل والحقد والكبر والحسد والغيبة والنميمة . هل ننفض عنها ما تراكم عليها من صدأ روحي علي مدار العام؟! الأصل في رمضان هو رمض الذنوب أي حرقها وهو موسم للطاعات يتشوق إليه المسلمون لصوم نهاره فريضةً. وقيام ليله تطوعاً. وتلاوة القرآن وتدبر معانيه وإشاعة أجواء من المحبة وصلة الأرحام والشعور بالفقراء . ومداومة الصبر علي الجوع والعطش ومجاهدة النفس ومدافعة الشهوات.. هذا ما أراده الله لنا في رمضان وقد أعلي منزلته بأن جعله شهر القرآن والمواساة والصبر.. لكن هناك فريقًا منا يمني نفسه بشيء آخر وهو فريق يتسع عامًا بعد عام يمني نفسه بمباهج الدنيا وزينتها فيأكل بإسراف ما لذ وطاب ويسهر الليالي أمام شاشات التلفاز والفضائيات ليستمتع بالمسلسلات والبرامج والفوازير وغيرها.. شتان بين الفريقين.. شتان بين من طاوع هواه وغلبه شيطانه وبين من غلب نفسه وخالف هواه. في رمضان تشتد عزائم المؤمنين وتتحقق أسمي معاني الزهد والصبر والتكافل الاجتماعي وفيه يزداد رزق المؤمن وتعلو درجاته وتصفو نفسه وترتقي روحه لأعلي مراتب الإنسانية جسدً وروحا وعقلا لكن ما يحدث عندنا هو العكس تماما إذ يزداد استهلاك الصائمين ويشتد الضغط علي الأسواق والسلع والخدمات حتي يكاد المرء يدهش وينعقد لسانه من فرط ما يراه وما يسمع عنه وما يلمسه أو يعيشه من تناقض صارخ بين جوهر الصيام وأفعال البشر وكيف أن أفعالنا فيها من البذخ والسفه أكثر مما فيها من الزهد والاعتدال والسمو الروحي والتجرد من الملذات الحلال فما بالنا من الحرام؟! وتكاد أرقام الاستهلاك تصرخ فينا فكيف نستهلك في شهر واحد. نتناول فيه وجبتين اثنتين في اليوم والليلة. ما يقترب أو يفوق معدلات ما نستهلكه طيلة العام وكان جديرا بنا لو أننا التزمنا بتعاليم الإسلام أن يتراجع استهلاكنا وتزداد لدينا الوفرة الاقتصادية والادخار وهو ما تشتد إليه حاجتنا كدول فقيرة تعاني ضخامة الديون وقلة الإنتاج وسوء إدارة البشر والحجر. نعيش للأسف تضاربا صارخا في أبشع صوره تضاربا يفسد علينا ديننا ودنيانا تحولنا بالشهر الكريم شهر الانتصارات والبركات إلي شهر الملذات والمعاصي وبدلاً من أن نكون قلوبًا رهيفة ترق لحال الفقراء وما أكثرهم فتتصدق وتجزل العطاء للمحتاجين وتقتصد في استهلاك الطعام والشراب والكساء والسهر صرنا قلوبا غليظة تسرف وتبذر وبطونا تلتهم ما يقابلها بلا هوادة حتي صارت أوعية شر وبيتًا للداء والعلة . وسببًا في الخمول والكسل. لم يقف إسرافنا عند حدود التهام الطعام والشراب بل تعدي كل الحدود فما أكثر ما أضعناه من أوقات في مشاهدة مسلسلات وأفلام وبرامج فضلا علي إهدار مليارات الجنيهات علي إنتاجها بلا مضمون حقيقي ولا قيمة إنسانية تحض علي العمل أو تعيد إحياء القيم الجميلة التي كادت تختفي من حياتنا خصوصا في هذا الشهر الفضيل. صار صيامنا للأسف مجروحا ونقاؤنا الروحي مشوشا ومن ثم فليس مستغربا في بيئة نهمة كهذه يشتد فيها الطلب علي السلع والخدمات أن تتفاقم الأسعار مما هي عليه أصلاً بسبب صعوبة الظروف والاختلالات القديمة المتجددة الأمر الذي اضطرت معه حكومتنا لضخ مليار جنيه إضافية لدعم السلع والخدمات ومواجهة ارتفاع الأسعار وهذا طبعا خصما من متطلبات أخري لا تقل أهمية بل ربما تزيد. كل ذلك يجعل السؤال ضروريا: كيف يصنف المصريون بأنهم أكثر أهل الأرض تدينا وفي الوقت ذاته أكثرهم استهلاكا.. لماذا نصر علي أداء العبادات ولاسيما الصيام شكلاً بينما نزهق روحها في سلوكنا وتعاملاتنا اليومية كيف نصوم عن الحلال في نهار رمضان ثم نسقط في غواية مسلسلات هابطة وأفلام ساقطة وبرامج غوغائية تثير الغرائز أكثر مما تحرض علي النقاش والتفكير في حلول لمشكلات الوطن والمواطن وقضايا المستقبل تنمي قيم العنف والإدمان والانتقام والقتل والبلطجة والاستسهال والبذاءة والعري وتدفع لمزيد من التخلف والجمود العقلي والفساد الروحي والتدهور الأخلاقي. لماذا ننسي الغاية الحقيقية من الصيام بحسبانه عبادة روحية وبدنية تستلهم نبل الرسالة ومقاصدها وتشيع قيم الصبر والإحساس بآلام الفقراء وتحث علي العطاء والبذل وتشيع التكافل الاجتماعي في أبهي صوره فما أراد الله تجويعنا إلا لنعرف قيمة ما نرميه من طعام في سلال القمامة فائضًا عن حاجتنا ونشعر بمرارة الحرمان وآلام المحرومين فنرق لهم ولا نتعالي عليهم أو نستخف بهم أو نضيق بهم ذرعًا.. فإذا شعرنا بهم مددنا إليهم يد العون بغير مَنّي ولا أذي.. فنحن مستخلفون فيما تحت أيدينا من أموال فرض الله لها سبلا للإنفاق ومصارف للزكاة والصدقات. ولو أن كل غني أخرج ما عليه للفقراء ما وجدنا فقيرا جائعا ولا عريانا ولا متسولاً في شوارعنا .. لكن كثيرًا من الأغنياء تمتد أيديهم يمينا ويسارا بالبذخ والفشخرة وربما المباهاة في موائد الرحمن التي تحتاج فعلاً إلي دراسة جادة ولو أن ما أنفق عليها ذهب إلي إقامة مدارس ومستشفيات ومشروعات إنتاجية تستوعب العاطلين الفقراء لكفتهم وأغنتهم وقدمت لهم طعامًا وحياة آدمية فرغم أن إطعام الفقراء ولاسيما غير القادرين علي الكسب مطلوب ومستحب لكن البذخ مرفوض وحاجتنا إلي تنمية الفقراء تعليمًا وصحةً أشد من حاجتنا إلي إهدار الأموال علي موائد رمضانية أو تكرار العمرة والحج فالشرع مع مصلحة الناس أينما كانت!! وفي العالم المتقدم يلعب المجتمع الأهلي دورًا تنمويًا رشيدًا يفوق أحيانًا دور الحكومات . فالقطاع الخاص قاطرة التنمية به نهضت الدول وتقدمت الشعوب. وهي فريضة غائبة في مجتمعنا إلي حد بعيد !! رمضان فرصة للمراجعة وتصفية النفوس وتكفير الذنوب ..فهل يكف الموظفون عن تعاطي الرشاوي التي يرونها إكراميات نظير قضاء مصالح المواطنين.. هل يرحم كبارنا صغارنا وأغنياؤنا فقراءنا.. هل نصل الأرحام المقطوعة ونتجاوز عن الإساءات ونصفح عن المتجاوزين في حقنا هل يتراجع التجار عن جشعهم.. هل نخفف آلام المنكوبين .. هل يفي كل مسئول أو نائب بالبرلمان بما عاهد عليه المواطن والوطن.. هل يشعرون بمعاناة الناس ويعملون علي حل مشكلاتهم ..هل يؤدي رجال الأعمال والأغنياء دورهم الاجتماعي تجاه مجتمعهم والفقراء.. هل يخرجون الزكاة التي فرضها الله عليهم في أموالهم أم يبخلون ويستكبرون وينسون حق الله والناس والوطن .. باختصار هل يمكننا أن نغير أنفسنا إلي الأحسن في رمضان مستلهمين روح الصيام وتعاليم الدين.. هل نودع الكسل والنهم والخمول والتواكل وتعطيل مصالح العباد.. هل نكتسب طاقة روحية وبدنية تضعنا علي الطريق الصحيح؟!