قدر معظم الدول النامية أو دول العالم الثالث أو حتي المتقدم أن تاريخ بلادهم وتقييم حكامهم يظل صندوقاً أسود.. لا يعلمون عن حقائقه شيئاً.. وتظل أحكامهم علي مجريات الأمور سماعية أو مجرد أقوال مرسلة يتناقلونها جيلاً بعد جيل وقد تكون بعيدة كل البعد عن حقائق الواقع الذي كان يمكن أن تقرأ عن حقبة واحدة وحاكم واحد فتجد ما يكتبه فلان غير ما يرصده علان لتكتشف أن هناك ثالثاً يأخذ منحي أخري غير هذا وذاك.. وكل يرصد ويسجل حسب قربه واستفادته من تلك الحقبة وذاك الزعيم وقد تصادف رأيين مختلفين لشخص واحد عندما كان ينعم في بلاط صاحب الجلالة.. والآخر عندما يخرج من جنة الزعيم.. لذلك لن تستطيع تكوين رأي واحد عن حقبة معينة أو حاكم معين.. لكن يمكن أن يحدث ذلك لو عايشت واقعاً في حقبة معينة فأنت عندئذ تصبح لست في حاجة لمن يكتب ويرصد فقد عشت ذلك الواقع ولمست محاسنه ومساوئه بنفسك.. والزعيم جمال عبدالناصر اختلف حوله البعض وقالوا عنه وعن فترة حكمه الكثير لكنه سكن قلوب الملايين الذين عاشوا واقعاً لمسوا فيه حب الزعيم لوطنه وعشقه لشعبه وتضحيته من أجل أمته والقومية العربية التي تجري في دمائه.. وأمله وجهده من أجل وحدة الأمة ورخاء شعوبها وحرية واستقلال أوطانها بل واستقلال وحرية شعوب القارة بأكملها لذلك لم يكن ناصر زعيماً مصرياً.. بل زعيماً عربياً وأفريقياً وعالمياً.. وطالعوا ماذا قال عنه الزعماء نهرو وتيتو وسوكارنو وشوين لاي زعماء العالم الحر الذي عاني من سطوة الاحتلال وغطرسة الكبار لتدركوا أنه زعيم سكن القلوب.. إذ يكفيه دعوته الحرة لتحرير الإنسان من سطوة وغطرسة الاحتلال.. يكفيه ما دفعه ثمناً لمواقفه الحرة ونضاله وكفاحه طوال عمره من أجل استقلال الشعوب وحريتها وحماية الأوطان وكرامتها.. يكفيه أن يخرج منتصراً سياسياً ضد العدوان الثلاثي الذي حل بالبلاد بعد تأميم القناة وموقف الزعيم الداعم لثورات استقلال الشمال الأفريقي ضد الاحتلال الفرنسي. *** لكن عندما تختلط الأوراق لدي البعض وتتوه عنهم معالم الطريق.. تضل عقولهم.. وتطيش كلماتهم فيحولون المحاسن إلي مساوئ والمزايا إلي عيوب فيرون الأشياء بعيون فسادهم.. لقد صدم الوزير الملايين بتصريحه الغريب عن الزعيم أنه أفسد الصحة والتعليم بمجانية التعليم.. ولو صح صدور هذا الكلام من وزير مسئول لأستجوب الأمر إزاحته عن منصبه وتجريده من الشهادات التي حصل عليها.. لأنه لو لم تكن هناك مجانية ما وصل إلي منصبه وما استطاع الالتحاق بكلية من كليات القمة.. وما تبوأ المكانة المرموقة التي ينعم بخيرها.. وبدلاً من القيام بمسئولياته نحو المواطنين وأداء رسالته في أهم وزارة خدمية.. يصب جام سخطه علي مجانية التعليم وزعيم العدالة الاجتماعية. *** في عهد ناصر.. رغم التحديات الصعبة.. والإمكانات القليلة كانت الخدمة الصحية في أبسط المستشفيات الحكومية أفضل مائة مرة من معاناة عصر الوزير المبجل.. فإذا قصد مواطن بسيط أي مستشفي حكومي بقروش قليلة حصل علي العلاج المطلوب.. أو أجري الجراحة اللازمة دون أن يتحمل مليماً.. وإذا قصد مدرسة لإلحاق صغاره.. قدم الأوراق في دقائق واستقر طفله في أقرب مدرسة لسكنه دون وساطة أو تبرع أو رشاوي. *** في عهد رمز الكفاح والوطنية.. لم يكن أي مستشفي يجرؤ علي ترك مريض ينزف حتي الموت علي أبوابه.. وإما الدفع أو الموت ألماً ونزفاً.. لم يخطئ ناصر عندما أدرك كما أدرك عميد الأدب العربي طه حسين أن التعليم كالماء والهواء.. لا يستطيع الإنسان أن يحجبه عن بني البشر.. بل لابد وأن يوفره للجميع كمسئول عنهم وولي أمرهم. *** صحيح إنه كبشر له الإيجابيات وعليه السلبيات ويتحمل أخطاء من اختارهم أو من شاركوه في المسئولية فكانوا سبباً في النكسة.. وفي بعض الإعدامات وبعض المشاركات الحربية.. لكنه حقق العدالة الاجتماعية.. والعدالة الوطنية الصادقة.. المساواة.. والمواطنة.. كانت واقعاً ملموساً في عهد ناصر.. فسكن القلوب جيلاً بعد جيل.. وظل في الوجدان رمزاً للكفاح والنضال والحرية والاستقلال.