مر الفساد في مصر بمراحل مختلفة بعد عام 52 فقد كان في عصر جمال عبدالناصر يتمثل في فساد بعض المسئولين وغيرهم ممن تولوا مناصب في تلك الفترة كما كان فساد إدارات وهيئات تابعة للدولة ثم شهدت حقبة الرئيس السادات تطورا للفساد حيث بدأت جرائم مرحلة الانفتاح ومنها الاثراء غير المشروع واستغلال الوظيفة والنفوذ والرشوة والوساطة والمحسوبية ثم انطلق قطار الفساد في عهد مبارك ليصنع أركان دولته ليتحول الفساد لبنية مؤسسية متكاملة متخذا في سبيل ذلك مجموعة من الوسائل تمثلت في سياسات ممنهجة لإفقار الفئات محدودة الدخل وافساد الدولة والتابعين لها حتي طال المؤسسة البرلمانية بغرفتيها الشوري والشعب وكذلك المؤسسة الأمنية والصحفية والإعلامية والنقابات حيث تشكلت قواعد عرفية بين جماعات الفساد لتحديد الالتزامات المتبادلة ومناطق النفوذ والسيطرة يضاف إلي هذا تسلل جماعات النفوذ والمصالح إلي قمة هرم السلطة السياسية وتمددت داخل الأجهزة الرقابية والتشريعية وكانت الآلية الأخطر في تسخير التشريع لتوطين الفساد في مصر عبر حزمة من التشريعات والقوانين التي أضعفت مؤسسات المجتمع المدني وكرست هيمنة السلطة التنفيذية علي باقي السلطات لمصلحة جماعات النفوذ والمصالح ووطدت الفساد وشرعته. تري الدكتورة ايمان عز الدين - رئيس مركز براديم للتنمية البشرية - ان الرشاوي التي كانت تدفع لكبار الساسة والمسئولين في فترة التسعينيات حتي عام 2010 وكذلك اهدار المال العام والتربح والاستيلاء علي المال العام وجرائم تسهيل الاستيلاء للغير علي المال العام بالاضافة إلي صدور قرارات اقتصادية وقوانين اقتصادية من المجالس التشريعية لخدمة فئة معينة وهي الفئة المسيطرة علي مقاليد الحكم والحياة السياسية والاقتصادية في ذلك الوقت أكبر دليل علي استشراء الفساد الاقتصادي والاجتماعي في مصر مشيرة إلي ان مجموعة العشرين شخصا الذين كانوا يديرون دفة الأمور السياسية والاقتصادية في مصر خلال العشرين عاما الماضية قبل ثورة يناير أدت لاستيلائهم علي المشروعات القومية والهامة وخير دليل علي ذلك استحواذ أحمد عز علي الشركة الوطنية للحديد "حديد الدخيلة" وكذلك استحواذ البعض علي شركات الأسمنت وعلي قطاع الأسمدة وعلي الفنادق التاريخية. وتضيف عز الدين ان فاتورة الفساد كلفت الاقتصاد المصري خلال العقود الثلاثة الماضية ما لا يقل عن 105 تريليونات جنيه مصري وهذه المبالغ كانت موزعة علي العشرين فردا الذين يديرون دفة الأمور الاقتصادية والسياسية في هذا الوقت بالاضافة لجميع الأشخاص الذين كانوا يدورون في فلكهم وهم حوالي نصف مليون شخص وقد تم تهريب هذه الأموال للخارج ولم تستفد منها خزانة الدولة بسبب تهريبها مشيرة إلي أن فاتورة الفساد تسببت في تجريف الخزانة المصرية ووفقا للقانون التجاري فإن التعويض لأي شيء يتم احتسابه علي أساس قيمة الخسائر المحققة بالاضافة إلي ما فاتنا من مكاسب لذلك في حالة وجود هذه الأموال داخل البلاد أو استعادتها فمن الممكن الاستفادة منها في انشاء مشروعات جديدة لخلق فرص عمل للشباب. يتفق معها في الرأي الدكتور أحمد سمير - مدرس القانون العام بكلية الدراسات القانونية والمعاملات الدولية بجامعة فاروس - قائلا: ان الفساد يؤثر علي أداء القطاعات الاقتصادية ويخلق أبعادا اجتماعية لا يستهان بها وقد أظهرت الأبحاث في هذا المجال انه يضعف النمو الاقتصادي ويؤثر علي استقرار وملاءمة المناخ الاستثماري ويزيد من تكلفة المشاريع ويضعف الأثر الإيجابي لحوافز الاستثمار خاصة بالنسبة للاستثمارات الأجنبية عند طلب الرشاوي من أصحاب المشاريع لتسهيل قبول مشاريعهم أو يطلب الموظفون نصيبا من عائد الاستثمار. يضيف سمير ان الفساد يعد ضريبة ذات طبيعة ضارة وبصورة خاصة معوقة للاستثمار ومع ازدياد الرشاوي يقوم المستثمرون باضافة المدفوعات الناجمة عن الرشاوي والعمولات إلي التكاليف مما يرفع تكلفة المشروعات ويخفض العائد من الاستثمار مؤكدا ان الفساد يؤدي إلي اضعاف جودة البيئة الأساسية والخدمات العامة ويحد من قدرة الدولة علي زيادة الإيرادات كما يؤدي إلي معدلات ضريبية متزايدة تجبي من عدد متناقص من دافعي الضرائب ويقلل ذلك من إيرادات الخزينة العامة ومن ثم قدرتها علي توفير الخدمات العامة الأساسية اضافة إلي ذلك يقوم الفساد بتغيير تركيبة عناصر الانفاق الحكومي أو يبدد السياسيون والمسئولون المرتشون موارد عامة أكثر علي البنود التي يسهل ابتزاز رشاوي كبيرة منها مع الاحتفاظ بسريتها. ويوضح ان الأجهزة الحكومية التي ينتشر فيها الفساد وتنفقه أقل علي الخدمات الأساسية مثل التعليم والصحة وتتوجه إلي الانفاق علي مجالات الاستثمار المفتوح ما يؤدي إلي تبديد الموارد والنقص في الإيرادات الحكومية نتيجة ممارسات الفساد الكبير والصغير ما يحمل المواطن أعباء النقص في الإيرادات عن طريق فرض أشكال جديدة من الرسوم والضرائب التي تثقل كاهل الطبقات المتوسطة والفقيرة. مشيرا إلي ان الفساد يؤثر علي روح المبادرة والابتكار ويضعف الجهود لاقامة مشاريع استثمارية جديدة إذ يؤثر علي العدالة التوزيعية والفعالية الاقتصادية نظرا لارتباطه بإعادة توزيع أو تخصيص بعض السلع والخدمات التي بها الفساد. يشاركه الرأي الدكتور سمير جاد - أستاذ الاقتصاد بجامعة الأزهر - ان موروث الفساد الذي عاشت فيه مصر لثلاثة عقود وقد أثر علي كل نواحي الحياة الاقتصادية والسياسية وأضعف الشعور بالانتماء الاجتماعي أو يتسبب الفساد في اختلال النظام العام في البلاد ويضعف من شرعية الدولة وسلطتها ويمهد لحدوث قلاقل واضطرابات تهدد الاستقرار السياسي والاجتماعي للدولة ما يعرض شرعية النظام الديمقراطي والسياسي للتآكل المستمر إذ يفقد الفساد الأنظمة احترام مواطنيها ويضعف ثقة الأفراد في الحكومات ومؤسساتها المختلفة ويؤدي إلي خلق حالة من النفاق السياسي كنتيجة لشراء الولات السياسية ويحفز الفساد القطاعات غير الرسمية أو ما يعرف باقتصاد الظل ويقود إلي التشكيك بالقانون وقيم الثقة والأمانة إلي جانب تهديده للمصلحة العامة من خلال خلق نسق قيمي يؤدي إلي ترسيخ مجموعة من السلوكيات السيئة. يضيف جاد ان الفساد يزيد من أعداد الفقراء والمهمشين اجتماعيا ويزيد من سلطة الأثرياء ويوسع الفجوة بين الطبقات ويؤثر سلبا علي الشريحة الفقيرة من المجتمع اذ يشكل خطرا علي السلم الاجتماعي ما يؤدي إلي تدهور القيم الاجتماعية والأخلاقية في المجتمع ويعطل جهود الإصلاح الاقتصادي والاجتماعي والسياسي محدثا الانقسامات في المجتمع مضعفا الاستقرار السياسي مسيئا لسمعة الدولة إذا يقلل فرص حصولها علي المساعدات والمعونات المالية ما ينعكس سلبا علي خطط التنمية الاقتصادية والاجتماعية لذا وجب علي الإدارة ان تضع الخطط اللازمة والقوانين الحاسمة والتشريعات المطلوبة لمواجهة الفساد واقتلاعه من جذوره دون عودة لتحقيق الاستقرار السياسي والاجتماعي للفرد والدولة معا.