كما عاش في هدوء. رحل الشاعر الكبير فاروق شوشة في هدوء فجر يوم الجمعة الماضي الذي ينزل فيه الله عز وجل إلي السماء الدنيا ليستجيب لخلقه من الداعين والتائبين والمستغفرين بالأسحار. وتتنزل فيه الملائكة ليشهدوا الصلاة وهذا يدل علي حسن الخاتمة لروح الشاعر الكبير الذي دفن في أفضل أيام الله. فالراحل الكريم لم يمرض طويلاً فيتألم ويجعل من حوله يتألمون ويدعون له بالشفاء أو الرحمة الإلهية. بل كان يذهب إلي الإذاعة صباح السبت أسبوعياً ليسجل برنامجه الأشهر "لغتنا الجميلة" وبرنامجه الديني "في طريق النور" الذي يذاع قبل صلاة الجمعة. ثم يلتقي مع المذيعين من تلامذته الذين كانوا ينتظرون حضوره في موعده ليسعدوا بلقائه وابتسامته المرحبة بهم المعبرة عن فرحته بلقائهم ليتحدثوا معه. فيجري الحديث بينه وبينهم في مودة يشجع المجيد منهم ويحثهم علي المزيد من الإجادة. فيستفيدون من نصائحه وخبرته الإذاعية التي امتدت علي مدار ثمانية وخمسين عاماً كان فيها الإعلامي المخلص لمهنته والشاعر المعبر عن هموم الوطن والحامي للغة العربية من خلال عمله أمينا لمجمع اللغة العربية. وتعود صلتي بالراحل الكبير في بدايتها مثل كل المستمعين من عشاق برنامجه "لغتنا الجميلة" فارتبطت مسامعي بصوته العذب وأدائه المميز فيما يقدمه في البرنامج من أدبيات اللغة العربية الفصحي. كما كنت أحرص علي حضور ندواته الشعرية في دار الأدباء التي كانت لا تتسع لمعجبيه الكثيرين فيقفون منصتين إليه. واستمتع معهم بأشعاره ونظل نطالبه بالمزيد. ولما تخرجت في الكلية وعملت في الصحافة توليت التغطية الإخبارية للإذاعة فتوطدت بيننا العلاقة المهنية لأنه أصبح مصدري في إذاعة البرنامج العام لأنه كان رئيسها ثم بعد توليه رئاسة الإذاعة. وكنت أسعد بمروري علي مكتبه كلما ذهبت إلي ماسبيرو لترحيبه الشديد بي. وكنت أعتبره شقيقي الأكبر لا مجرد مصدر من مصادر عملي الصحفي. ولهذا كنت أعرض عليه قصصي القصيرة لثقتي في أنه سوف لا يجاملني بل سيوجهني كناقد موضوعي. ولما طلبت منه أن ينشر لي إحداها في الصفحة الأدبية التي كان يحررها في مجلة "درة الإمارات" ويقدم فيها الأدباء الشبان وافق علي الفور. فأعطيته قصتين. فجلس يقرأ إحداهما وكانت بعنوان "صورتان في ليلة الزفاف" ويعبر عن سعادته بكلماتي وأسلوبي وحين وصل إلي نهايتها الحزينة قال لي بتأثر: "ليه ياليلي؟". فشعرت أنها لم تعجبه ولن ينشرها بسبب هذه النهاية. ولكن خاب ظني فبعد فترة وجدت قصتي منشورة وكتب عني مقدمة رشيقة ليعرفني إلي القراء وأسلوب كتابتي للقصة. فسعدت بكلماته لأنه قال رأيه ببصيرة ثاقبة لأغوار نفسي ولمعرفته بي من خلال التعامل الإنساني بيننا. ومازلت أحتفظ بالمجلة وأفخر بأنه كان أحد من شجعوني لأواصل الكتابة حتي أنني بعد سنوات حصلت علي الجائزة الأولي في مسابقة إحسان عبدالقدوس للقصة القصيرة في عام 1996 وكنت أول أديبة تحصل علي المركز الأول. إن نجوم مصر من فنانيها وشعرائها وأدبائها الذين كان لكل منهم عطاء مميز في مجاله يرحلون. ويتبقي لنا الحزن عليهم لأنهم لن يتكرروا. فالواضح من واقع الحياة والثقافة الحالي أن الغلبة للبلطجة والفوضي واللغة السوقية والتدني في الألفاظ فيما نشاهده في المسلسلات والأفلام السينمائية والتعامل اليومي بين الناس الذي لا شك هو نتاج لما يعرض عليه من هذه الأعمال. رحم الله فقيد اللغة العربية الشاعر والإعلامي الكبير فاروق شوشة. ونرجو عدم توقف برنامجه "لغتنا الجميلة" برحيله واستمرار سماعنا لصوته العذب. لأن رصيد حلقاته يمتد علي مدار تسعة وأربعين عاماً أي ثماني عشرة ألفا وثمانمائة خمس وثمانين حلقة. لاشك أنهم من التراث اللغوي الذي يجب الحفاظ عليه بإذاعته يومياً كما كان في حياته.