* يكاد المرء يدهش لفرط التناقض بين جوهر الإسلام وسلوك المسلمين اليوم. ذلكم أن الهدف من الصيام مثلاً هو تهذيب النفس بالطاعات. وتعويدها علي الصبر بترك المباحات. وعلي رأسها الطعام والشراب. والإحساس بآلام الفقراء. والرأفة بهم. فالجوع يشعرنا بآلامهم ومتاعبهم.. لكن شتان الفارق بين ما أراده الله لنا من الشهر الفضيل. وما فعلناه نحن به وبأنفسنا. فما إن يولد هلاله حتي تنطلق حمي المنافسة بين الفضائيات. لجذب المشاهدين والإعلانات بالمسلسلات والبرامج التليفزيونية الغارقة في الملذات والسفاهة والتفاهة والعنف والصراع والعري والابتذال.. احتوت تلك الأعمال علي كل شيء إلا التفكير في المستقبل. أو تشخيص علة الحاضر. أو حتي ابتعاث القدوة من الماضي والتاريخ.. غرقت في رصيد السلبيات. وتعرية نقائص المجتمع حتي نكاد نقول إنه عالم غير عالمنا. عالم خلا من الفضيلة ومكارم الأخلاق. ورغم أن رمضان فرصة لالتقاط الأنفاس ومراجعة النفس ووقف شطحاتها وتطهير الروح وتزكية الأفئدة. ونفض ما علاها من صدأ روحي طوال العام لكننا للأسف حولناه من مناسبة عظمي للطاعات يزداد فيها رزق المؤمن. وتتنزل فيها رحمات الله. إلي مناسبة لالتهام ما لذ وطاب.. نصوم عن الطعام والشراب نهراً. وما إن ينطلق آذان المغرب حتي نلتهم ما تطاله أيدينا. حتي بات استهلاكنا فيه وحده أعلي من سائر شهور العام كله. ما يعني ببساطة أننا أخطأنا الفهم والغاية التي من أآجلها شرع الصوم فأخطأنا النتائج. هنا مفارقة كبري بين جوهر الصيام. وهو الزهد في المباحات. والاعتدال والاقتصاد في الاستهلاك. ومضاعفة الجرعات الروحية من العبادات حتي تشف نفس المؤمن. وترق قلوب الأغنياء للفقراء. ويزداد شكرهم للنعمة. وتزداد في المقابل معدلات الادخار والوفرة الاقتصادية التي تتعاظم حاجتنا إليها في ظل ما نراه من أزمات زاد فيها عجز الموازنة. وارتفع التضخم. وازدادت فاتورة الاستيراد التي تتجاوز في شهر رمضان وحده 60% مما نشتريه طوال العام.. أرأيتم ماذات فعلنا برمضان وبأنفسنا.. فهل هذا يرضي الله؟! وبدلاً من أن نكون قلوباً رهيفة تتصدق. وتقتصد في الطعام والشراب والسهر صارت قلوبنات غليظة تسرف وتبذر. وبطوننا أوعية شر تلتهم ما يقابلها بنهم جعلها بيتاً للداء والعلة. وسبباً في الكسل والخمول. ورغم أن للصوم الحقيقي فوائد صحية جمة فإنونا حرمنا أنفسنا منها بإسرافنا. ليس في تناول الأطعمة والأشربة فحسب بل بإطالة السهر أمام شاشات التلفاز لمشاهدة مسلسلات وبرامج جاوزت تكلفتها ملياري جنيه. وبلغت فيها أجور مشاهير النجوم أرقاماً باهظة. تصيب من يعرف بها من الفقراء بغصة في الحلق. واحباط ما بعده احباط. وهي أرقام تكفي لإصلاح كثير من العشوائيات والمستشفيات المريضة. والسؤال الذي لابد لكل مسلم صائم أن يجيب عنه فيما بينه وبين نفسه: هل حققت مراد الله في الشهر الكريم.. هل تغيرت سلوكنا في رمضان لأفضل مما كانت عليه قبله.. هل رقت قلوبنا للفقراء فمددنا لهم يد العون.. هل انتهينا عن تصرفات غير أخلاقية كما نفعلها قبل رمضان.. هل توقفنا عن الغيبة والنميمة والغش والاحتكار والقاء المخلفات في الشوارع وترك صنابير المياه مفتوحة لتهدر مياهاً تشتد حاجتنا إليها في ظل ما نعانيه من فقر مائي مرشح للزيادة.. هل اقتصدنا في الطعام والشراب.. هل كفننا عن النظر إلي المحرمات؟! التدين المغشوش آفة ابتليت بها مجتمعاتنا للأسف. فهو تدين شكلي لا روح فيه. ولا مراقبة لله. تدين ينقصه الإخلاص والفعالية والروح الملهمة بالإيمان. القادرة علي تغيير الذات أولاً ثم يمتد أثرها إلي المجتمع الأكبر من حولها. عملاً بقوله تعالي "إن الله لا يغيروا ما بأنفسهم". رمضان شهر الرحمة والمغفرة.. ولا تتنزل الرحمة علينا إلا إذا تراحمنا فيما بيننا أولاً. عملاً بقول الله تعالي "وتواصوا بالحق وتواصوا بالمرحمة".. ولم يرفع بعضنا سلاحه في وجه إخوته في الوطن.. ولاتتحقق المغفرة أيضاً إلا لمن همن أهل لها. إلا لمن صفت نفوسهم من الحقد والكبر والكراهية. إلا لمن تابوا عن أفعال السوء. وأفكار التطرف والعنف. والعدوان.. فهل سأل المنخرطون في تنظيم العنف "كداعش والقاعدة وأمثالهما" هل ما فعلوه بأرض العرب والمسلمين من تمزيق وتقتيل وتخريب وتشريد لملايين البشر. وهدم للأوطان من الإسلام في شيء.. أليس كل المسلم علي المسلم حرام دمه وماله وعرضه.. هل أقاموا للإسلام دولة.. هل أقاموا للعدالة راية. هل أقاموا للأمن بناية.. والأهم هل خدموا الإسلام أم شوهوا صورته في العالم أجمع وقدموا الفرصة لكارهيه. وحعلوه في مرمي نيران الاستشراق وأباطيل الغرب والصهيونية؟! العرب والمسلمون في مفترق طرق عاصف.. تشتد فيه حاجتهم لمراجعة الذات. والاعتراف بكارثية وضعهم. والمبادرة بإصلاح سلوكهم وفهمهم وخطابهم الديني وأفكارهم للخروج من الخلافات التي مزقتهم شر ممزق. وجعلتهم صيداً سهلاً لكل من هب ودب. وجعلت مصائرهم في أيدي غيرهم يعصفون بها كيف شاءوا. الصيام قوة روحية هائلة تتخلص فيها النفس من قيودها وتسمو الروح لأعلي درجاتها.. ولابد أن نغتنمه فرصة للخروج من محنتنا بالتسامح وقبول الآخر. وإصلاح ذات البين. واستعادة مقومات المجتمع المتماسك المتحاب المترابط القابل للتقويم والمراجعة. رمضان فرصة لفرملة الأسعار التي تزداد بمبرر ودون مبرر في ظل غياب واضح للحكومة وتقاعس عن مواجهة الجشع والاحتكار والتلاعب بالسوق والدولار لصالح حفنة قليلة تعرفهم جيداً. ولا تقترب منهم. وتضطر الدولة في المقابل لتحمل فاتورة هذا الخلل بضخ سلع وموارد اضافية خصماً من بنود أخري أهم وأولي. كالتعليم والصحة. الأمر الذي يرهق الميزانية العامة للدولة.. وهنا نتساءل: إلي متي تستمر اجراءات رد الفعل في ظل غياب واضحة للمبادرة والرؤية.. كيف نستسلم لمقولة "إننا أكثر شعوب الأرض تديناً. ثم نكتشف أننا الأكثر استهلاكاً وتخلفاً ومجافاة لروح الدين وجوهره. في تعاملاتنا وسلوكياتنا..؟! كيف نصوم عن الحلال في نهار رمضان ثم نقع فريسة لمسلسلات وبرامج تخاطب الغرائز. وتنميا قيم الاستهلاك. وتخاصم الانتاج والعمل؟! ومن أسف أننا نجد حتي القنوات الأرضية تنافس الفضائيات في إغراق المشاهدين بإعلانات مسبقة لما سوف تعرضه في رمضان من مسلسلات وأفلام جاوزت العشرات.. ولا أدري كيف سنجد المشاهد وقتاً وقدرة علي متابعة هذا الكم الهائل من الأعمال.. والأهم ماذا قصد صانعوها.. هل أرادوا اقتناص كعكة الإعلانات أم إلهاء الناس والسيطرة علي عقولهم وقلوبهم. وقتل أوقاتهم..؟! وليت بعضاً من هذا الغثاء الهائل من المسلسلات والبرامج يغوض في مشاكلنا الحقيقية. ليشخص الداء. ويقدم الدواء بموضوعية انحياراً لمصالح الوطن. لا سيما في قضايا مصيرية. كالتعليم والصحة وتجديد الخطاب الديني ومحاربة الإرهاب قبل مواجهته بالسلاح.. ليتنا نجد من يلخص للناس الأسباب الحقيقية لنكبة العرب والمسلمين في الوقت الراهن ويريهم بالدليل والبرهان مكان الداء والعلة. ويقوم بتنويرهم وتبصيرهم بواجباتهم. وما يحوطهم من مخاطر.. لكننا للأسف إزاء طوفان من الفوضي لا طائل منه إلا تغييب الوعي وتشويهه. وإبقاء العرب كالقشة العائمة علي سطح الماء. تتقاذفها الأمواج من كل جانب. وكم بحث أصواتنا مناشدة للدولة في أعوام مضت بأن تتدخل في الانتاج الدرامي بتقديم أعمال فنية هادفة. ولو كانت أعمالاً تاريخية تستلهم أعظم ما في حضارتنا العريقة لابتعاث الهمة واستعادة الوعي المفقود.. لكنها ذهبت أدراج الرياح فهل تدري الحكومة أن ترك الساحة للعشوائية ثمنه فادح.. وفادح جداً؟! أفكار مسلسلات رمضان وبرامجه باتت مكررة ممجوجة. غارقة في التفاهة والترويع والمغامرة والخيال المريض والسطحية والعنف والجنس والابتذال.. تتغير شخوص الممثلين والمذيعين ومقدمي البرامج ومنتجيها لكن الأفكار السطحية بالية هي هي.. الأمر الذي جرجر المجتمع وخصوصاً الأجيال الجديدة إلي مستنقع الجمود والضياع والتصورات المشوهة. وللأسف تحول رمضان لساحة تتنافس فيها الدراما والبرامج علي تسطيح وعي المشاهدين. وخدش الحياء العام ومجافاة روح الصيام وفلسفته الرامية لتكريس الصبر والتكافل والإمساك عن المحرمات.. فما أراد الله تجويعنا إلا لنعرف قيمة الطعام الذي نرمي به في سلال القمامة غير عابئين بمرارة حرمان الفقير.. شرع الله الصوم لنشعر بآلام الفقراء والمحرومين. لا لنتعالي عليهم. ونغمطهم حقوقهم المعلومة في الصدقات من غير مَنَّ ولا أدي.. شرعه لنتعود البذل والإنفاق من أموالنا التي استخلفنا الله فيها ببناء المستشفيات والمدارس وإصلاح العشوائيات. وليس بإهدارها في ولائم باذخة. وفي تكرار الحج والعمرة أملاً في غفران الذنوب التي دأب البعض علي ارتكابها طوال العام. ظناً منهم بأن العمرة تمحوها. وينسي هؤلاء أن الأعمال بالنيات. ولكل امرئ ما نوي. وأن الله طيب لا يقبل إلا طيباً. يا سادة.. الدين المعاملة.. وتغيير في السلوك نحو الأفضل.. فكيف تقبل العبادات وأصحابها لا يزالون علي المعاصي. فهذا يتلقي رشوة.. وذاك قاطع لرحمه. أو عاق لوالديه. أو يصر علي الغش وإيذاء الآخرين.. من لم تنه صلاته عن الفحشاء والمنكر فلا صلاة الله.. فكيف يصر بعضنا علي ارتكاب الأخطاء وربما الخطايا والكبائر في سلوكه اليومي. ثم يتصور أن إنفاقه لبعض المال أو تكراره الحج والعمرة أو حتي الصوم يطهره من أوزاره بينما هو لا يزال قائماً علي ما يغضب الله.. اصلاح القلوب والأعمال والكف عن إيذاء الناس بأي صورة مقدمة لازمة لتحقيق الاتساق مع الذات والخروج من الازدواجية والتدين الشكلي البعيد تماماً عن مراد الله من الصيام وكافة العبادات.. فهل نتخلص من هذا التناقص ونتسق مع أنفسنا؟!