النيل هو أعظم الأنهار.. بل هو كما قال عنه عبدالله بن عمر سيد الأنهار لأنه أشرف أنهار الدنيا.. ولقد كرمه الله سبحانه وتعالي وعظمه حين ذكره القرآن الكريم مرات عدة.. مرة صراحة وبصيغة الجمع "الأنهار" ومرات ضمنا باسم "اليم" وهو كما وصفه عمرو بن العاص في رسالته المطولة إلي الخليفة عمر بن الخطاب حين طلب إليه وصف مصر بقوله: "ومصر يا أمير المؤمنين تربة غبراء وجنة خضراء طولها شهر وعرضها عشر يخط وسطها نهر ميمون الغدوات. مبارك الروحات يجري بالزيادة والنقصان كجري الشمس والقمر له أوان".. كما ورد ذكر النيل في أحاديث نبوية عديدة منها الحديث القدسي الشريف فيما معناه "نيل مصر خير أنهاري في الجنة. أسكن عليه خيرتي من عبادي. من أرادهم بسوء كبه الله علي وجهه".. ورغم ذلك كله فنهر النيل هو دون كل أنهار الأرض النهر المهان غير المصان.. مع انه شريان حياة مصر والمصريين.. لولاه ما كان زرع ولا ضرع.. ولا إنسان ولا حيوان.. ولا كانت في مصر حياة ولقد أتي علي النيل حين من الدهر صار نسيا منسيا.. انشغل عنه أهله أهل مصر بأمور أقل أهمية بقضايا هامشية وحوارات عبثية ومساجلات غوغائية.. وغدا أعظم الأنهار ضائعاً مضيعاً.. صار للملوثات مستنقعاً ولكل أنواع الأوبئة والجراثيم مفرخاً ومرتعاً.. تصرف إليه جهارا نهارا وعيانا بيانا مليارات الأمتار المكعبة المحملة بالسموم القاتلات.. من الصرف الزراعي والصرف الصناعي والصرف الصحي ومختلف أنواع المخلفات.. ومثلها من الأمتار المكعبة من النفايات الصلبة بما فيها أخطرها وأشدها فتكاً من المواد طريدة العيادات الطبية والمستشفيات.. كما تحول مجري النيل إلي مقبرة للحيوانات النافقة.. وكل ذلك يفتك بصحة البشر ويهلك الثروة السمكية.. ويقضي علي البيئة البرية ويكلف الدولة عشرات المليارات لعلاج بعض الآثار دون القضاء علي جميع المهلكات.. وكأنما غاب العقل عن أكثر المصريين الذين يضعون بأيديهم السم الزعاف في وعاء الماء الذي منه يشربون ويلقون بأيديهم إلي التهلكة.. وكأنما هم عن الوعي غائبون؟!.. ثم طفقوا علي نهرهم الخالد يتطاولون وفي جرأة عليه يتعدون.. ينتهكون حرماته.. مجراه وشاطئيه وحرمه لا يتورعون ولا يستحون.. ليبلغ عدد التعديات الصارخة علي النهر خمسين ألف بل ويزيد.. وتصل التعديات مداها وفجورها بردم مساحات من مجري النهر لإقامة مستودعات ومصانع وربما قصر مشيد.. والمعتدون المجرمون بالعقوبات الهزيلة لا يكترثون.. وأكثر المسئولين في أجهزة الدولة غائبون أو مغيبون.. في حين لم تعد وزارة الموارد المائية والري وحدها هي المختصة بشئون نهر النيل.. إنما ينازعها الاختصاصات العديد من الوزارات "مثل الزراعة. البيئة. الإسكان. الصحة. السياحة والنقل" وكذلك العديد من المحافظات بحيث لم يعد لنهر النيل مرجع واحد.. وليس له من ولي شرعي ولا وصي.. وصار النيل كأنه أحد الأيتام علي مأدبة اللئام..!! وبهذا ولشديد الأسف قد تفرق دم نهر النيل بين القبائل. لذلك صار حتماً مقضياً أن يلجأ نهر النيل إلي مجلس النواب يستغيث به ويستجير.. لعل نواب الشعب في برلمان ثورة 30 يونيو يضعون نهر النيل في أعلي سلم أولوياتهم.. ويعتبرون قضية الأمن المائي هي أهم قضاياهم وأشدها إلحاحاً.. وكيف لا؟ والأمن المائي هو قمة سنام الأمن القومي المصري.. ذلك ان قضية حياة أو موت.. عله يكون من أول التشريعات التي يسنها مجلس النواب قانون بإنشاء "المجلس القومي لنهر النيل والأمن المائي".. وذلك علي غرار المجلس القومي لحقوق الإنسان.. بل إن هذا المجلس المقترح هو أهم وأشد خطراً من ذلك المجلس لأن أعظم وأجل حقوق الإنسان قاطبة.. هو حق الإنسان في الحياة.. وهل هناك من حياة إذا ضاعت وتبددت المياه!!.. إن المجلس القومي المقترح هو سيد المجالس وأعظمها قدراً وشأناً.. لهذا ينبغي أن يكون تابعاً مباشرة لرئيس الجمهورية وأن ينتظم كوكبة من العلماء والخبراء والمعنيين بشئون المياه ونهر النيل.. يليهم ممثلون للوزارات ذات الصلة.. ويسهر المجلس علي حراسة نهر النيل وحماية وصيانة ورعاية الأمن المائي.. والضرب بيد من حديد علي أيدي المعتدين والملوثين والمهدرين لشريان حياتنا نهر النيل.. وتحقيق التواصل والتعاون بين مصر وشقيقاتها من دول حوض النيل.. والعمل علي تنمية الموارد المائية لتلبي احتياجاتنا المائية.. وليكون إصدار هذا القانون هو أولي الخطوات علي طريق إعمال أحكام الدستور الواردة في شأن نهر النيل علي ما سيرد بيانه فيما بعد. "والحديث موصول بإذن الله".