يقدم مخرج الأفلام الوثائقية البولندي مارسين كوشاوكا فيلمه الروائي الطويل الأول "العنكبوت الأحمر" عن قصة واقعية ومجموعة جرائم قتل متسلسلة قام بها قاتل واحد "سفاح" في بولندا في نهاية الستينيات. أحداث الفيلم تدور في بولندا تحديداً مدينة كراكوف أثناء حقبة الحرب الباردة في أوروبا بشكل عام والتي انعكست نتائجها علي بولندا بشكل ملحوظ تلك الدولة التي مات أكثر من ستة ملايين من سكانها أثناء الحرب العالمية الثانية والتي خضعت فيما بعد للنظام الشيوعي الذي حولها من مجتمع مفتوح يستقبل الأقليات إلي مجتمع مغلق يتنافر فيه الجيران من بعضهم البعض ويؤثرون الوحدة والانعزالية. تخير المخرج قالباً درامياً مناسباً لطبيعة القصة والأحداث وهو قالب التشويق والإثارة وقد دعمه بمزيد من الصراعات النفسية الداخلية لشخصيتي الفيلم الرئيسيتين "كارول والطبيب البيطري" مما كون مع اللغة السينمائية التي استخدمها المخرج فيلماً خاصاً جداً من خلال التعبير البصري عن تلك الصراعات النفسية الداخلية وقد ساعد المخرج خلفيته الكبيرة كمصور ومخرج أفلام وثائقية علي تحقيق ذلك العنصر بشكل جمالي وفني في ذات الوقت. أهم ما يميز الفيلم هي قدرة مخرجه علي خلق حالة للفيلم من خلال عناصر الجو العام بداية من فضاء الشوارع الملحوظ وما يوصله ذلك الفضاء من وحدة داخل نفوس قاطني المدينة حتي أبناء البيت الواحد تم تصوير أغلب مشاهد الفيلم ليلاً في الظلام مع مصادر إضاءة خافتة تم استخدامها بشكل فني وجمالي وفي مشاهد الفيلم النهارية يتسم جوها العام باللون الرمادي الشاحب والكئيب وما يعكسه من معاناة سكان تلك المدينة اقتصادياً واجتماعياً و نفسياً. منذ البداية تتضح لنا رغبة كارول في ان يصبح جزءاً من قضية ذلك القاتل فقبل ان يعرفه أو يتأكد من هويته نجده يتابع أخباره وأخبار ضحاياها يجترئ الأقصوصات التي تتناول مجريات ومستحدثات القضية وصور الضحايا من الجرائد ولصقها في مجلد قد أعده لها خصيصاً ثم حينما يتعرف علي القاتل وتنشأ بينهم علاقة نجده يسأله علي تفاصيل تخص الجرائم وطريقة ارتكابه لها وعن الأدوات التي استخدمها مستعيراً بعضها منه كما لو كان يقدره ويبجله ويراه نموذجاً يحتذي به وهو ما يوحي في البداية بخلل ما داخل شخصية كارول حتي بعد ان نشأت بينه وبين المصورة الصحفية علاقة عاطفية لم تمنعه هذه العلاقة من محاولة قتلها أو حتي التفكير في ذلك أسوة بذلك القاتل حتي أنه لم يتأثر حينما قام ذلك القاتل بقتلها. طرح الفيلم النموذجين نموذج الشاب كارول الذي يدعي علي نفسه أنه ذلك السفاح الذي تبحث عنه الشرطة والذي أسلم نفسه بنفسه وتم إعدامه عام 1968 ثم النموذج الآخر العنكبوت الأحمر وهو الطبيب البيطري والقاتل الحقيقي الذي ظل طليقاً لكنه تعمد عدم الإفصاح عن دوافع كل منهما في موقفه وأفعاله وتبريره تاركاً بذلك مساحة لا بأس بها من التفاعل بين العمل الدرامي ومن يشاهده مؤولا إياه حسب رؤيته وفهمه وتفاعله مع أحداث العمل الفني وهو ما يحقق فكرة حيادية صانع العمل تجاه شخصيات عمله الفني فلم يتخذ جانب شخصية دون الآخر فلم ينصف ولم يدن. تخير المخرج هواية الغطس ليهواها ويتفوق بها كارول ربما في محاولة منه للغوص في أعماق الأشياء في محاولة للوصول لإجابات علي الأسئلة التي تجول بخاطره وبذهنه عن جدوي الحياة وماهيتها خاصة مع تركيز المخرج علي لحظة القفز في كل مرة كانت الكاميرا تصحب فيها كارول في هذا الجانب من حياته واللحظة التي يصل فيها إلي العمق ثم يصعد فقد كانت توحي بعض الشيء بشعور كارول بشيء من التحرر حتي ان كان تحرراً جسدياً سببه وجوده في ذلك العمق من الماء. في حين تخير مهنة الطبيب البيطري للقاتل الحقيقي وما تتطلبه تلك المهنة من قدر كبير من الإنسانية ورهافة التعامل في محاولة لإبراز وبلورة ذلك التناقض حين يرتكب هو تلك الجرائم بهذا الكم من الوحشية واللاإنسانية. ورغم انتماء الفيلم لنوعية أفلام الجريمة والإثارة إلا أنه ليس فيلماً حابساً للأنفاس ولكنه دون ان تشعر يحثك طوال فترة مشاهدته علي التفكير منذ لقطته الأولي وحتي لقطته الأخيرة. وقد حصل الفيلم علي جائزة شادي عبدالسلام كأحسن فيلم في مسابقة أسبوع النقاد في مهرجان القاهرة السينمائي في دورته الأخيرة.