علمتنا هذه "الهجرة النبوية" بجلالها ومعانيها كثيراً من الدروس والعظات والعبر: 1- قال تعالي "إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن ان الله معنا فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها وجعل كلمة الذين كفروا السفلي وكلمة الله هي العليا والله عزيز حكيم" "سورة التوبة آية 40" ويقول المفسرون يقول تعالي "إلا تنصروه" أي تنصروا رسوله فإن الله ناصره ومؤيده وكافيه وحافظه كما تولي نصره "إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين" أي عام الهجرة لما هم المشركون بقتله أو حبسه أو نفيه فخرج منهم هارباً صحبة صديقه وصاحبه أبي بكر رضي الله عنه فلجأ إلي غار ثور ثلاثة أيام ليرجع الطلب الذين خرجوا في آثارهما ثم يسير نحو المدينة فجعل أبو بكر رضي الله عنه يجزع أن يطلع عليهم أحد فيخلص إلي الرسول عليه الصلاة والسلام منهم أذي فجعل النبي صلي الله عليه وسلم يسكنه ويثبته ويقول "يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما" ولهذا قال تعالي "فأنزل الله سكينته عليه" أي تأييده ونصره عليه أي علي الرسول صلي الله عليه وسلم في أشهر القولين وقيل علي أبي بكر.. "وأيده بجنود لم تروها" أي الملائكة "وجعل كلمة الذين كفروا السفلي وكلمة الله هي العليا" قال ابن عباس يعني بكلمة الذين كفروا الشرك وكلمة الله هي لا إله إلا الله وقوله "والله عزيز" أي في انتقامه وانتصاره منيع الجناب لا يضام من لاذ ببابه واحتمي بالتمسك بخطابه "حكيم" في أقواله وأفعاله. ومما يستنبه النظر في هذه الآية الكريمة التي تحدثت عن طرف من أخبار الهجرة تكرر الظرف "إذ" ثلاث مرات فيها "إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين. إذ هما في الغار. إذ يقول لصاحبه لا تخزن ان الله معنا" وكان هذا التكرار بمثابة التنبيه والتذكير لهؤلاء المنافقين لحماية الله لنبيه ونصره له في أحلك الظروف وأشدها خطرا عليهم أن يفيئوا إلي أنفسهم ويدركوا ان تخلفهم وكيدهم لا يدفع النصر أو يسبب الهزيمة لأن الله ينصر رسله وأولياءه وهو سبحانه لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء "إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الاشهاد" "الآية 51 من سورة غافر" وفضلا عن كل هذا فإن تكرار "إذ" في المرة الثالثة اشارة إلي حقيقة هامة وهي ان سبيل النصر الاعتقاد الصادق بالحق والعمل به وان كل ما عرف الناس من وسائل القتال وإنما هي في نظر المؤمن أدوات مغلولة معطلة بإزاء ما يملأ قلبه من ثقة بربه عز وجل. هذا مع ملاحظة ان المشهور في هذا الأمر تاريخيا "ان الرسول خرج من مكة في ربيع الأول ودخل يثرب في نفس الشهر وكان بين دخوله وخروجه خمسة عشر يوما تقريبا وان يوم خروج الرسول كان الاثنين وانه أيضاً كان يوم دخوله كما كان يوم مولده وبعثته ووفاته" البداية والنهاية ج 3 ص77. 190 وان يوم خروجه كان الثامن من هذا الشهر "ربيع الأول" وهو يوافق اليوم العشرين من شهر سبتمبر سنة 622 م. يجب أن تكون "الهجرة" لله وفي سبيله لا لغرض ولا لمرض ولا لطلب مغنم أو تحقيق مطمح أو نبل رغبة فإن الله عز وجل يقول في كتابه العزيز "ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مراغما كثيرا وسعة ومن يخرج من بيته مهاجرا إلي الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره علي الله وكان الله غفورا رحيما" "النساء آية 100" وقال المفسرون "وهذا تحريض علي الهجرة وترغيب في مفارقة المشركين وان المؤمن حيثما ذهب وجد عندهم ملجأ يتحصن فيه وقال ابن عباس المراغم : التحول من أرض إلي أرض وقال مجاهد : مراغما كثيرا يعني متزحزحا عما يكره والظاهر والله أعلم انه المنع الذي يتخلص به ويراغم الأعداء وقوله "وسعة" يعني الرزق وقال قتادة في قوله "يجد في الأرض مراغما كثيرا وسعة" أي من الضلالة إلي الهدي ومن القلة إلي الغني وقوله "ومن يخرج من بيته مهاجرا إلي الله ورسوله" أي ومن يخرج من منزله بنية الهجرة فمات في أثناء الطريق فقد حصل له عند الله ثواب من هاجر. وعن عمر بن الخطاب قال: قال الرسول: "إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوي فمن كانت هجرته إلي الله ورسوله فهجرته إلي الله ورسوله ومن كانت هجرته إلي دنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلي ما هاجر إليه وهذا عام في الهجرة وفي جميع الأعمال". ويقول أ.د. أحمد الشرباتي "ولقد خرج رسول الله يوم الهجرة وهو يريد وجه الله وحده وهاجر وهو حريص علي دينه ودعوته وليس بحريص علي حياته أو نفسه ولقد أراد أن يبذل من ذات يده ما يستطيع كي تكون هجرته خالصة منه لله حتي روي انه رفض أن يقبل الناقة التي اشتراها له أبو بكر ليركبها أثناء الهجرة إلا إذا دفع ثمنها من ماله".