في أحد المؤتمرات التي عقدت منذ فترة قصير نسبياً بعنوان "مقاومة الإرهاب" حضر فجأة إلي الجلسة الختامية أحد خبراء الأمن وهو بدرجة لواء دكتور سابق شغل منصباً مرموقاً في وزارة الداخلية وقدم نفسه للحضور باعتباره خبيراً أمنياً حصل علي درجة الدكتوراة في حقوق الإنسان. ولفت انتباه السادة الحضور أن هذه الشخصية الأمنية بدا كمن استدعي علي عجل ليقدم توصياته ونصائحه للمؤتمر في جلسته الأخيرة دون أن يسمع عبارة واحدة. والغريب أن معظم نصائحه وتوصياته كانت تتسم بالقسوة والغلظة ولا علاقة لها بحقوق الإنسان ولا بالقانون ولا بالإنسانية. فقد طالب في إحدي توصياته بإنشاء قاعدة للمحاكمة داخل بعض السجون. يذهب إليها القضاة كل يوم للفصل في القضايا المعروضة عليهم. وهي توصية لو أخذت بها أي حكومة يمكن أن تورط البلاد في مأزق دولي وقانوني يلحق السلطة القضائية بالجهاز الأمني ويضيف علامات استفهام جديدة إلي الطريقة التي تفكر بها تلك القيادات المرموقة في وزارة الداخلية. فهل يعبر هذا عن عمق التفكير والتخصص الدقيق؟ هل هذا هو الفهم الأمني الشامل والمعاصر؟ والملاحظ من هذه الأفكار والمعالجات أن بعض قيادات وخبراء الأمن يتعاملون مع ملف الشباب وخصوصاً شباب الجامعات برؤية بسطحية تثير الشفقة أحياناً والغضب أحياناً أخري» لأن تلك القيادات الأمنية لا تدرك حجم التغير الذي أصاب الأجيال الجديدة وطريقة تناولهم وفهمهم للأحداث الداخلية والخارجية وقد تشغلهم القضايا الدولية أكثر من قضايا الوطن. لأنهم شباب مختلف في كل شيء في مفرداته. وتعبيراته. وأحلامه. ولا يتأثر بوسائل الإعلام التقليدية الحكومية والخاصة من صحف وقنوات فضائية. فهم جيل لا يؤيد - في غالبيته - جماعة الإخوان ولا طريقة أدائهم ولا ممارساتهم الإرهابية والعنيفة. ولكنهم جيل حانق علي أداء مؤسسات الدولة المتخبطة والغارقة في الفساد المتراكم من الماضي القريب والأقرب. لذلك لا تتعجب - عزيزي القارئ - عندما تري أجهزة الدولة الأمنية عاجزة عن التعامل مع قضية تأمين محطةپمترو لمدة عامين ولم تجد هذه الأجهزة مخرجاً لتأمين مقر أمني أو قسم شرطة إلا خلف بناء حائط أسمنتي وكتل خرسانية فكيف تستطيع تلك الأجهزة فهم التغيرات العميقة في الأجيال الجديدة والقدرة علي احتواء الحماس أو النزق الشبابي كمكون فطري وتتجاهل مشاكلهم بل وتعتبرهم غير موجودين من الأساس. ولا يتذكر معظم المسئولين هذا الشباب إلا في إطلاق الشعارات البراقة إعلامياً لذر الرماد في العيون مما يزيد من حنق تلك الأجيال وغيظها وتعميق إحساسهم بالغربة والضياع وتنتابهم رغبة قوية في الهروب من الواقع الأليم والمستقبل المعتم ويولد لديهم شعوراً بالرغبة في الانسحاب من المشهد العام والواقع نحو الافتراض. فهل هذا هو المراد؟ أليس هناك عاقل رشيد يتفهم ذلك؟ إن الشباب الذي يمر بمرحلة المراهقة وزهو الشباب بما له وما عليه يشعر أنه في واد والدولة بجميع مؤسساتها في واد آخر. ألم يرصد التقارير الأمنية حالة الغضب المتصاعد؟ ألم يقرأ أحد إصرار الجهات الأمنية علي استمرار العمل تحت مظلة قانون الطوارئ المخالف للدستور المصري ولكل مبادئ حرية التعبير؟ ألم يفكر عاقل في كيفية توقف كل تلك المظاهر بعد تدشين قانون التظاهر المخالف للدستور؟ وكيف يقبل العقل الحكم علي عشرات الشباب النشط بالسجن لعشرات السنين في مخالفة قانون التظاهر بينما يخرج رموز نظام فاسد أبرياء بصفحات بيضاء كما ولدت أمهاتهم؟ وأين ذهبت وعود الرئيس بالإفراج عن الشباب غير المدان في عمليات إرهابية؟ ومن ذا الذي يضمن استمرار احتباس البخار داخل ماكينات الغضب في صدور كالمراجل؟ ألا يدل هذا علي تدني مستوي الفهم لدي بعض المسئولين ممن يصح تسميتهم ب "طيور الظلام". لأنهم لا يستطيعون العيش إلا علي أنقاض نفي الآخر. ولا تبرع قرائحهم الشريرة إلا في تكاثر أوكار الظلام. وأخيراً: هل يتخيل جهابذة التغيير الأمني التقليدي المتشنج أن المراد من رب العباد إسكات الأصوات المعارضة والمخالفة في الرأي؟ تري هل تكرر الحكومة الجديدة - القديمة أخطاء حكومات سابقة بالكربون؟ أخشي ما أخشاه أن الأقدام بدأت تنزلق شيئاً فشيئاً نحو الطريق نفسه الذي أودي بنظام العواجيز الذي تحدي المستقبل ومتغيرات العصر فسقط في غياهب الكراهية والانتقام والفشل المزمن.