لم يحدث في تاريخ مصر أن عملت المؤسسات الإسلامية كما لو كانت كل واحدة منها تعيش في جزيرة منعزلة كما شاهدناها خلال الأيام الماضية. حيث لا نري تعاونا ولا تنسيقا في قضايا ملحة وموضوعات تحتاج إلي التعاون والتنسيق وتكامل الجهود وتوحيد الرؤي والمواقف مثل قضية تجديد الخطاب الديني. منذ أيام نظمت وزارة الأوقاف مؤتمرا عن تجديد الخطاب الديني الذي شهد غيابا ملحوظا للمسئولين في الأزهر. واصدرت وثيقة للتجديد وأعلن وزيرها د. محمد مختار جمعة اهداء الوثيقة للرئيس عبدالفتاح السيسي باعتباره صاحب الدعوة الي التجديد لمواجهة موجات التطرف والتكفير وايضا الانفلات عن الدين كما شاهدنا خلال الشهور الماضية في مصر.. وفي اليوم التالي لمؤتمر الأوقاف جمع شيخ الأزهر د. أحمد الطيب عددا من المثقفين والفنانين ورجال الفكر والاعلام ليناقش معهم اسس وآليات وآفاق تجديد الخطاب الديني وذلك تمهيدا لاصدار وثيقة الأزهر للتجديد الديني.. انطلاقا من أن الأزهرر هو صاحب الوثائق الوطنية بعد حوار موسع مع كل القوي والتيارات الفكرية والنخب المثقفة في المجتمع. كما فعل الأزهر في وثيقة الدولة الوطنية ووثيقة المرأة وهما الوثيقتان اللتان حظيتا بتقدير كل القوي الوطنية في مصر. إذن بعد أيام سنكون أمام وثيقتين مصريتين لتجديد الخطاب الديني.. احداهما من الأزهر. والأخري من الأوقاف.. لتطالب كل مؤسسة منهما علماءها ودعاتها الالتزام بما جاء في وثيقتها لنشهد عنصرية جديدة بين المؤسسات الإسلامية في مصر لا يمكن أن تصب في مصلحة الدعوة والخطاب الإسلامي الذي يجب أن تكون له نغمة واحدة ولغة مشتركة وأهداف محددة وآليات يتفق عليها الجميع. لقد استبشرنا خيرا بلقاءات شيخ الأزهر ووزير الأوقاف الأخيرة لتقضي علي الشائعات التي نفخ فيها وتداولها العديد من وسائل الاعلام بوجود خلافات عميقة بين الشيخ والوزير. لأن العمل الدعوي في مصر في أمس الحاجة إلي تعاون وتكامل وتنسيق وتعاون ولا يقبل الصراع أو التنافس المحموم بين قيادات المؤسسات الدينية. فمركب علماء ودعاة الإسلام أوشك علي الغرق بعد أن ارتفعت اصوات تيارات وجماعات التطرف والتشدد الديني والتكفير واصبحت تهدد أمن وسلامة المجتمعات العربية وفي مقدمتها مصر التي عرفت طوال تاريخها بالتسامح الديني والانتصار لتيار الوسطية والاعتدال والتصدي لكل جماعات التطرف في الدين والتحلل عنه لتحافظ مصر الإسلامية علي صورتها كقبلة علمية وثقافية معتدلة للمسلمين في كل دول العالم. الخلاف في وجهات النظر بين المسئولين في المؤسسات الإسلامية وارد ومقبول لو كان في إطاره الهادئ المنطقي البعيد عن الصراع والارتجالية التي تعطي لبعض وسائل الاعلام التي تبحث عن الاثارة فرصة لتخريب العلاقات بين العلماء. وتعميق الخلافات والصراعات وتحريض البعض علي التمرد وإفشال جهود الوفاق. * * * منذ ما يقرب من ربع قرن صاحبت مفتي مصر الراحل د. محمد سيد طنطاوي رحمه الله في طائرة صغيرة تابعة لشركة بترول إلي شرم الشيخ للمشاركة في احتفالات محافظة جنوبسيناء بعيدها الوطني في عهد محافظها اللواء عبدالمنعم سعيد واثناء وجودي معه علي الطائرة سألت د. طنطاوي عن حقيقة خلافاته مع شيخ الأزهر وقتها المرحوم الشيخ جاد الحق علي جاد الحق. فرد علي بانفعال يؤكد غضبه من الأزهر وشيخه. وبعد اسبوع تقريبا رافقت شيخ الأزهر الشيخ جاد الحق علي الطائرة نفسها لافتتاح عدد من المعاهد الأزهرية بشرم الشيخ وسألته أثناء وجودي معه في مكتب المحافظ عن حقيقة خلافات الأزهر والافتاء فأجابني بدبلوماسية. وفي المساء استدعاني إلي استراحته ليجيب بصراحة عن اسباب غضب الأزهر من تطوع د. طنطاوي بإثارة قضايا تخلق جدلا في المجتمع ولا تعود بالنفع علي أحد. عدنا من شرم الشيخ وتهيأت لعمل قصة صحفية جيدة من تصريحات الشيخين الكبيرين "شيخ الأزهر ومفتي الديار المصرية" وأثناء وجودي في الجريدة وانهماكي في الكتابة تلقيت اتصالا هاتفيا من الشيخ جاد الحق ليطلب مني عدم نشر شيء من تصريحاته لي حتي ألتقي به. وعندما حاولت اقناعه بعدم القلق وان النشر سيكون هدفه تقريب وجهات النظر.. رد بعبارة وجيزة "لا ينبغي أن نظهر خلافاتنا كعلماء للناس ونشغلهم بها". رغم حزني علي ضياع قصة صحفية تتضمن تصريحات حصرية من عالمين كبيرين إلا أنني اقتنعت بكلام شيخ الأزهر واحترمت عقله وحكمته وحرصه علي أن تظل صورة المؤسسات الإسلامية جيدة في أذهان الناس. لم يكن في عصر الشيخين جاد الحق وطنطاوي القلق والتوتر الذي نعيشه الآن والذي يستدعي الانتصار لصوت الحكمة حرصا علي صورة المؤسسات الإسلامية. * * * قضية التجديد الديني لا تحتاج كل هذا النزاع أو الصراع. ولا ينبغي أن تعمل المؤسسات الإسلامية كما لو كانت كل واحدة منها في جزيرة منعزلة عن الأخري.. ومن المؤسف أن يكون الصراع والتنافس الآن في التنظير والكلام. وليس في الفعل. فلم تفعل المؤسسات الإسلامية في مصر شيئا حتي الآن علي أرض الواقع يحقق التجديد المطلوب للخطاب الديني!!