الأشياء القديمة ليست بالضرورة رائعة. ولكن الذاكرة تقوم بعملية المونتاج ببراعة لتصنع تاريخا مقبولا نستطيع أن نفر إليه عند الضرورة. .اليوم هو يوم المولد. تستدعيه الذاكرة بألوان رائقة وصافية ..خفوت الألوان الخشبية الباهتة. والتي أحببتها دائما أكثر من ألوان الفلوماستر..الخطأ في ألوان الفلوماستر يظل نشازا زاعقا للأبد. لا يمكن تجاهله أو احتواؤه.. ألوان الشمع كانت مليئة بحبيبات أكرهها. مزعجة الملمس.. كان موضوع - ارسم عروسة المولد - موضوعا ثابتاً علي مدي سنوات الدراسة..كل عام. وفي الحصة التي تسبق المولد. نتفنن في ابتكار أزياء جديدة وتسريحات شعر مختلفة للعروس المعجبة بنفسها والتي تضع يديها بثقة حول وسطها . خلف ظهرها مروحة واحدة كبيرة أو ثلاث مراوح صغيرة متداخلة..تمتزج الألوان العفوية وتشع البهجة من الكراسات البيضاء والأصابع الصغيرة الملطخة بالألوان. كمُّ المريلة يمسح مساحات لا بأس بها من الطاولة المستطيلة التي تجمعنا.. تتخلل الشمس الضفائر والشرائط الملونة والشعور المهوشة لترسم فوق الكراسات ظلالا لا تقل بهجة ولا روعة عن الألوان التي في أصابعنا. كان الاحتفال بالمولد يتم بعد النصف الأول من اليوم الدراسي.. تنتهي الحصص الثلاث الأولي ثم ننزل للفسحة. بعدها نصطف في الطوابير وبدلا من الصعود للفصول يبدأ الحفل تلاوة قرآنية. تليها كلمة حول سيرة النبي -صلي الله عليه وسلم- وطفولته وأخلاقه. ثم تبدأ الأغاني والاستعراضات التي تقوم بها مجموعة مختارة من الأولاد والبنات.. معلمة الموسيقي تبدأ في اختيار المجموعة المشاركة في العرض قبلها بفترة بأسبوع أو اثنين سيشعر فيهما كل فرد من المجموعة المختارة بتميزه واختلافه.. خاصة في تلك اللحظة السحرية حين تطرق معلمة الموسيقا باب الفصل أثناء إحدي الحصص وتشير إليه مستئذنة مدرس الفصل ليتجه مع باقي الفريق للتدريب.. يقف مزهوا ملقياً نظرة من وراء كتفه علي باقي التلاميذ المنكفئين علي كتبهم في استسلام. ويخرج..في عامي الدراسي الأول حدث شيء لم يتكرر بعدها في أي سنة من السنوات. بعد انتهاء العروض وقفت المدرسة كلها في طابور واحد طوييييل ليوزع علينا ناظر المدرسة قطعاً من حلاوة المولد ..كسرة صغيرة في كف كل طفل بلا استثناء أو تمييز. في السنوات التالية كانت معلمة الفصل هي من يتولي توزيع الحلوي ولكن بشكل آخر.. كانت تسألنا أو تختار بنفسها طفلين أو ثلاثة في الفصل لتطلب منهم إحضار علب الحلوي من البيت. صباح يوم المولد تقوم بجمع العلب وتقسيمها بالتساوي بين الأطفال كلهم. إحساس طفيف بالفخر قد يشوب الطفل الذي أحضر العلبة وهو يقدمها للمعلمة. ولكن هذا الإحساس سرعان ما يتبخر حين يجلس مكانه ويتوزع المذاق الحلو علي الجميع.. تلتصق الأيادي الصغيرة ببعضها وبالأقلام والكراسات بلا حذر.. ربما استمر هذا الطقس للسنوات الثلاث أو الأربع الأولي في المدرسة.. لم أستطع تحديد سنة اختفائه أو سببه.. ربما لأن اليوم نفسه أصبح عطلة رسمية.. وربما لأننا بمرور السنوات نفقد الكثير من تفاصيلنا الصغيرة متورطين في حياة أخري . حياة يندر فيها أن تلتصق الحلوي بأصابعنا.